.
انتشرت في السنين الأخيرة محاولات عديدة من قبل ما يسمى بالـ“موسيقى البديلة” في مصر تحديداً، حاملةً مشروع تجديد أغاني الشيخ إمام وسيّد درويش وأغانٍ فولكلوريّة مختلفة، وذلك عبر إلباس الموجة بنكهات معاصرة: كالروك والبانك والجاز، إلا أنّ معظمها فشل بالحفاظ على حقيقة تلك الأغاني التي تستمدّ أصالتها بعلاقة كلماتها بالواقع واللحن ومن ثم بالتوزيع وأخيراً بالأداء.
تشكّل القراءة الحديثة لهذه الأغاني الفولكلوريّة تحدٍّ للموسيقين، فعدا عن تغيّر السياق الزمني– وبالتالي معنى الأغنية، يبرز تحدٍّ آخر: وهو نقل هذه الأغاني من سياقها الشعبي، بيئتها الطبيعيّة، إلى منصّة أمام جمهور يدفع ثمن التذكرة للاستماع للعرض بشكله المعدّ مسبقاً، ليتلاءم مع توقّعات ومعايير المتلقّين. بذلك، تتحوّل محاولات التجديد إلى مخاطرة قد تستعيد الفولكلور من الماضي البعيد استعادة ميّتة، أو قد تفرّغه من معانيه وقيمته.
لعلّ من أبرز المحاولات في السنتين الأخيرتين لتجديد أغانِ فولكلوريّة مصريّة هي محاولات المغنّية دينا الوديدي، والتي اكتسبت حضوراً مميّزاً من خلال صوتها المحترف بقوّته وتقنياته وتوزيع الأغاني الذي نجح، بدوره، بتوظيف عناصر معاصرة كالموسيقى الإلكترونيّة، والحفاظ، بنفس الوقت، على ثيمة الأغنية الفولكلوريّة. إذ تتطلّب اختيارات الأغاني، التي تقوم دينا بتقديمها، تفهّماً للأغاني الفولكلوريّة من حيث الكلمات ومن حيث الموسيقى. فأغنية “يا جنوبي” و“السيرة الهلاليّة“، وغيرها من التي تختارها الوديدي ضمن الريبرتوار الخاصّ بها، تتطلّب إدراكاً واعياً لأبعاد الكلمات والقضايا المطروحة في النص، وذلك بسياقها الزمنيّ – الاجتماعيّ والسياسيّ، ومن ثم ترجمة هذه الحيثيّات في الأداء الصوتي وحتى الجسدي. كما وتتطلب، بذات الوقت، إيجاد طريقة مناسبة لمعالجة بساطة اللّحن الشعبي وإيقاعه الثابت والبارز، وأيضاً، بذات الوقت، علاقة هذين العنصرين مع الكلمات. نجحت تسجيلات أغاني دينا الوديدي ضمن هذه المستويات المختلفة، حيث برزت عن غيرها من الموسيقيين “المجدّدين“، ضمن هذه الموجة، أنّها انطلقت من الموسيقى الفولكلوريّة، بدلاً من نزعها من صنفها الطبيعيّ لصالح صنف موسيقيّ معاصر، يصعب فيه تفرقة الأغاني الفولكلوريّة عن الأغاني المعاصرة البحتة. وبالرغم من أنّها لم تصدر أسطوانة بعد، إلا أن تسجيلات أغانيها الفولكلوريّة والأصليّة انتشرت بزخم على شبكة الانترنت، ليصل عدد المستمعين إليها حتى مئات الآلاف.
“وحدة“
رفع مستوى هذه التسجيلات من التوقّعات تجاه عرضها الأول في عمّان يوم السبت (29 حزيران/ يونيه 2013) ضمن مهرجان موسيقى البلد. اصطدمت هذه التوقّعات بواقع مختلف انعكس أساسًا بعنصر التوزيع: فبدلاً من التوزيعات المتفاعلة مع كل أغنية على حدة، والتي قامت ببناء سياق الأغنية، تفاجئنا الوديدي بتوزيعات مختلفة جداً يعود أغلبها لصنف الجاز الخفيف، مبتعدةً، بذلك، عن روح الأغاني، ومفرغة توزيع كل أغنية من خصائصها. فعلى سبيل المثال، استهلّت دينا الوديدي الأمسية مع فريقها المؤلّف من نانسي منير على آلة القيثار، الكمان والناي، محمد رأفت على الإيقاع وفيصل فؤاد على “الكيبورد“، بالأغنية الفولكلوريّة “على ورق الفل“. تسجيل الأغنية (مرفق) يجسّد تفاعل التوزيع مع الأغنية الفولكلوريّة، حيث يتم توظيفه لمشاركة المستمع بسيرورة بناء الأغنية، ممّا يحوّله من مجرّد متلقٍّ لمنتج موسيقيّ جاهز، إلى شريك بالتوقّعات، مدركاً لعمق كل خطوة، ومتبنّياً لعمليّة تحليل تفاعل العناصر سويّاً. إذ تستغرق الأغنية المسجّلة تقريباً اثنتا عشر دقيقة، تفتتحها مقدّمة طويلة تقارب الخمسة دقائق ونصف، ترتكز بأغلبها على الإيقاع المقدّم بأصوات إلكترونيّة وبالدرامز، يضاف إليهم الكمان مهيّئاً مدخل المقطوعة، لتستهل دينا بالغناء بصوت قوي ينجح باحتواء الإيقاع الصارم للأغنية الفولكلوريّة وتقديمها بأسلوب أصيل وأمين للمصدر. كما ويتّسق توزيع الأغنية ومبناها مع كلمات الأغنية ولحنها بمرحلة طبيعيّة بسيرورة المقطوعة. أمّا في توزيع العرض، فتم اختصار بناء السياق، باستبدال التوزيع المدروس بخلفيّة جاز خفيفة عملت على جرّ العناصر إلى صدام بين مجرى الأغنية ومحاولات تجديدها.
“على ورق الفلّ“
ذات الخيبة في التوقّعات تجلّت أيضاً في أغانٍ أخرى وحتى الأصليّة. ففي أغنية “الحرام“، التي كانت من أولى الأغاني التي أطلقتها الوديدي على اليوتيوب، تم تفريغ النسخة المغنّاة في الحفل من دور الترومبيت، واستبدل بالكمان. فبينما انسجمت ارتجالات الترومبيت في الفيديو المرفق مع نبرة التحدّي والتحرّر في الأغنية: “الحرام هو الحرام، يا عمّ: يا بتاع الكلام. الحرام مش إني أغنّي، الحرام مش إني أحبّ: دا الحرام هو الكلام اللي نصّه، يا عمّ، كدب“، قيّدت ارتجالات الكمان بقوالب متفجّعة تلك النبرة، وأخذت بمحتوى الأغنية الرّافض إلى مكان مظلم، عدا عن عجز الكمان عن التواصل وخلق الحوار مع صوت دينا من حيث التقنيّة والقوّة والحدّة.
“الحرام“
تفاقمت اختيارات التوزيع المنفصلة عن فحوى الأغاني في إعادة تقديم أغنية “البحر بيضحك ليه“. هنا، قامت دينا بتقديمها بإيقاع بطيء وبأسلوب تقني نوعاً ما على حساب الديناميكيّة الموسيقيّة، بينما استمرّت الآلات في إيقاعها الخفيف البعيد عن معاني الأغنية وبتوزيع أشبه بالصنف الموسيقي الـNew-age. الأمر الذي أدّى إلى الشعور بالاستماع إلى مقطوعتين منفصلتين في نفس الوقت: إذ وفّر التصادم بين أداء دينا البطيء والتوزيع الإيقاعي الشعور أنّها تقدّم الأغنية بإيقاع أبطأ ممّا كانت عليه. برزت ذات الفجوة، وبصورتها العكسيّة، في أغانٍ أخرى، حيث بدّلت دينا مقطوعات الندب والحزن بخفّة إيقاعيّة كرنفاليّة تكاد أن تكون راقصة.
“البحر بيضحك ليه” بنفس التوزيع من تسجيل لحفل في القاهرة
“يا بلاد”
سرّب هذا الأسلوب في التوزيع الشعور بالتخوّف من تقديم الأغاني بجميع مركّباتها من خلال بناء السياق– والذي يتطلّب زمناً طويلاً نسبيّاً، والتوقّع المحبِط بأن الجمهور يفضّل إيقاعاً وخلفيةً خفيفة. قد تناسب هذه النوع من الخلفيّات والتوزيعات الموسيقيّة بعض الأغاني مثل: “كفاية غش” الأشبه بمسرحيّة مغنّاة (Musical)، إلّا أنّها تفرّغ أغانٍ أخرى من معاني كلماتها العميقة، وتخفّف من وطأتها. فقد اختارت دينا وفريقها توجيه الجمهور للتصفيق وضبط إيقاعه، بدلاً من إشراكه بسيرورة تجديد الأغاني، ليختاروا وحدهم اللحظة المناسبة للتصفيق، وبأيّ إيقاع. رغم صوت دينا القوي، واستحضارها لأغانٍ بكلمات غير سائدة، إلا أنّه كان من الممكن قراءة ملامح الاستغراب على وجوه بعض المستمعين.
لم يكن ما قدّمته دينا وفريقها مختلفاً بالنتيجة فحسب، بل من جذوره. وإذا كان هذا العرض محاولة لتمرير الأغاني عبر شاشة أخرى للمنصة، إلّا أنّها فقدت في الطريق ما نجحت بالمحافظة عليها في التسجيل: ثيمة الأغاني وليس الغلاف فحسب.
تسجيل “كفاية غش” من الحفل في عمّان
(1) الديناميكيّة في الموسيقى: تعني الجوانب المختلفة في طريقة أداء وتنفيذ الصوت أو النوتة المكتوبة كالأسلوب“staccato- متقطّع، legato- متواصل الخ” والارتفاع والتوظيف والسرعة.