.
لن نقول هنا؛ كما لا يعنينا البتَّة، أن ليس بإمكان صاحب روح سليمة عدم الافتتان بسحر فاركا توري (١٩٣٩ – ٢٠٠٦)، كوننا بعيدون هنا عن مقام التربية الموسيقيّة والذوق السليم، فنحن محصورون هنا بمحبة علي وفرادته الموسيقيّة، سماعه ومشاهدة عزفه الفريد (فقد عُرِف بشدة اندماجه في الحالة، مثل جميع موسيقيي البلوز)، كيف وطَّن نفسه في الموسيقى التي جذبته سحرها، فصارت إقليمه، يحرثها، غذاءً ودواء، لشعبه. هذه مجرد نقرة على جدار عالم قد تبتغي الخروج منه دون (ما) جدوى.
وُلِدَ علي إبراهيم توري عام ١٩٣٩ في قرية كاناو على ضفاف نهر النيجر، شمال غرب مالي. هو الابن العاشر لوالديه، لكنّه الطفل الوحيد الذي بقي على قيد الحياة. “فقدتُ تسعة إخوة من والديّ. كان الاسم الذي أُعطي لي هو علي، لكن التقاليد الأفريقيّة تقول أنه عندما يموت عدد من الإخوة، تقوم الأسرة بإعطاء الطفل لقبًا غريبًا.” في حالة علي كان الاسم الغريب الذي مُنِحَ له هو فاركا، والذي يدلُّ على الحمار، وهو حيوان محبوب لقوته وصبره وقدرته على التحمُّل. “لكن دعني أوضح لك الأمر” قال عليّ، “أنا الحمار الذي لن يعتلي ظهره أحد.”
وهو صغير توفي والده أثناء خدمته في جيش الاحتلال الفرنسي، فاتجهتْ الأسرة جنوبًا بمحاذاة النهر، لتستقر في قرية نيافونكي، القرية التي أسماها فاركا لبقية حياته وطنه، ارتبطت به وارتبط بها، مخلّدًا إياها في موسيقى وأغنيات سيتردد صداها إلى الأبد في أركان العالم الأربعة، في ألبوم يحمل اسمها: نيافونكي.
لم تعرف أسرة توري من قبل عمل وصنعة وأداء الموسيقى، ففي مالي احتُكرت الموسيقى بصورة كبيرة بتوارث سلالة من الموسيقيين (الجريوت) “١”، وهي الخلفيّة التي لا ينتمي إليها علي، فهو سليل محاربين نبلاء تعود أصولهم إلى الأرما (الرماة) الذين استقر بهم الحال على ضفاف نهر النيجر في نهايات القرن السادس عشر، لذا حين أراد ابنه، فيو فاركا توري احتراف الغناء رفض الوالد؛ إذ أراد له أن يصير جنديًا، متّبعًا خطى أجداده، لكن الابن جاء مثل أبيه، الذي قال عن نفسه يومًا أنه “مجذوب بقوة الموسيقى”. حاليًا فيو فاركا توري أحد الأصوات البارزة في الموسيقى العالميّة.
يكمن نُبل البلوز في بساطة الأداء وعدم التكلُّف، وفي الابتعاد عن التفاخر، والتوطُّن الكامل في التجربة. وهذه الأخيرة وإن كانت فرديّة، بالقوة أم بالفعل، فهي تاريخيّة. لكن أليس هذا حال كل خبرة؛ أي أن تكون موطنيّة. فما الذي ميَّز البلوز عن بقية الأجناس الموسيقيّة الأخرى. لنُرخي السمع إلى هذه التقنية التي يُطلق عليها شكل (النداء والاستجابة)، وهو تفاعل لغوي تشاركي (شفهي وغير شفهي) موجود في المجتمعات الأفريقية منذ القدم. لنصغي إلى علي توري:
“إذا عرفتَ شيئًا ولم ترغب في تقاسمه مع الآخرين، إذن أنت شخص أناني. فقد جئتَ بعد شخص، وسيأتي شخص آخر من بعدك. لا يُمكنك تعلم البحر كله عن ظهر قلب. لهذا خلق الله الموج في النهر والبحر، بعضها يرحل، ليأتي البعض الآخر.”
عبر الأطلنطي حمل العبيد والإماء هذا التقليد إلى أمريكا والدياسبورات النائية، لكنّه كان مكبّلًا بالسلاسل. وتحت نير الاستغلال هذا، والعمل من أجل البقاء، اكتسبت موسيقى البلوز هذه النبرة الكابية.
نُترجم:
“ديعني أخبرك، لا يوجد ما يُسمَّى بالأمركيين السُود؛ بل يوجد سُود في أميركا. ذهب السود إلى الولايات المتحدة بثقافتهم، لكنهم فقدوا سيرة حياتهم، إثنيتهم وأساطيرهم. نعم لاتزال موسيقاهم أفريقيّة، سواء في الولايات المتحدة أو مالي. أعتقد أن المدن والمسافات فقط هي ما تفصلنا، لكن أرواحنا وروحانيتنا هي هي، ليس من فرق. لا يوجد أي فرق على الإطلاق، ولم يسبق لي أن شعرتُ به. أنا أشعر بالأسف، لماذا؟ لأنهم أناس يجب أن يكونوا متّحدين. أول مرة سمعتُ فيها جون لي هوكر، قلتُ لنفسي: سمعتُ موسيقاه هذه من قبل، لكنني قلتُ أيضًا أنا لا أفهم هذه الموسيقى – لماذا جاءت على هذه الشاكلة؟ هذا شيء ينتمي لنا، لكنه مختلف – لأنه يُلعب بغرض كسب العيش. من ناحية أخرى هذه الموسيقى ليست مخصّصة للويسكي، السكوتش أو البيرة. عندما يأتي أمريكي أسود إلى أفريقيا، لا يجب أن يشعر وكأنه أجنبي، لأنه ترك منزله. إنها أراضيكم، إنها السُرَّة.”
اتّسمت علاقة فاركا توري بموسيقى البلوز دائمًا بالجدل، إذ لم يستنكف إعلام الحواضر الغربيّة عن منحه ألقاب على شاكلة “جين لي هوكر أفريقيا” أو “بلوزمان أوف أفريكا”، الشيء الذي استنكره الرجل في مرات عديدة.
“يسألني الصحفيون دائمًا نفس الأسئلة” يقول علي، “يريدون دائمًا أن يعرفوا عن البلوز. أقول أن كلمة البلوز لا تعني شيئًا بالنسبة لي. أنا لا أعرف البلوز، أنا أعرف التقاليد الأفريقيّة. أما الموسيقى التي تطلقون عليها البلوز، فيمكنني منحها اسمها الصحيح. بإمكاني أن أسميها أجناني agnani، ويمكن أن أسميها دجابا djaba. يمكن أن أسميها أمندراي amandrai أو أماكاري amakari، وهي الموسيقى التي تُعزف على الجيتار المحلي (التقليدي)، ذو الوتر الواحد أو الثلاثة أوتار. يمكنني أيضًا أن أسميها كاكامبا kakamba. هنالك العديد من الأسماء لهذا الفن الأسطوري. أنا أحترم جون لي هوكر وأقدِّر عبقريته كمترجم للموسيقى الأفريقية في الولايات المتحدة، لكن موسيقاي هي الجذور والجذع، بينما هو الفروع والأوراق فقط.”
ربما كان مارتن سكورسيزي على حق حينما وصف تقليد توري بأنه يُشكِّل “الحمض النووي للبلوز”، فمن خلال الاستماع إلى أسطواناته المختلفة يمكن للمرء أن يرى بنفسه كيف تطور صوت علي فاركا توري المألوف إلى شيء أكثر ثراءً وأكثر طليعيّة. فإيقاعات وآلات مالي التقليدية تأخذ مركز الصدارة، لكن عزف الجيتار وصوت علي فاركا المميزين يحبُكان كل المكونات معًا في صوت نقي ناضج جديد.
من الضروري الانتباه إلى أن فاركا توري وضع نفسه على مسافة نقديّة من غناء الجريوت، فخاصتهم تُغنّي مقابل المال، في حين كان غناؤه وسيلة للتواصل مع الجان أو الأرواح: “تتحدّث عن الأبقار، المساحات الخضراء، عن الرجل المتواجد مع حيواناته في البريَّة، والذي يسمع أصوات لا تأتي من الحيوانات، لكن من الطبيعة. تتحدث عن الحب والانسجام داخل الأسرة. كل هذه الألحان لديها مفرداتها، أسطورتها وقصتها.”
لم تكف أفريقيا عن العطاء – سحر البلوز هو عمل، عمل قبل عبور المحيط وصيرورة العبيد، عمل داخل الصيرورة الداخلية (عمل بمعنى الإخلاص للأرض والأم والأسرة التي سيكفُّ وجودك دونها). فاركا تخلى عن الغناء لأجل مزرعته؛ أو لو شئنا الدقة هو ابن السلالة، عاش قدر حياته في مالي التي هو منها، وسيكون من الظلم والمراءاة اعتبار أصالته وارتباطه بأسرته ومزرعته، ورفضه القاطع للاستقرار في ميتروبوليتانات الصنعة الموسيقية وحواضر الغرب، بمثابة استثناء، إلا من باب نزق العبقرية التجريدي؛ إذ تقع جمالية موسيقته بالحافر على موقف وجودي يمتحُ من قدر مكان الميلاد، القدر الذي ارتضاه تمامًا، كيف لا وهو “طفل النهر”.
تروي الأساطير المرتبطة بنهر النيجر عن وجود عالم روحي اسمه جيمبالا يقطنه (الجن)، من الإناث والذكور، يسيطرون على العالمين، الروحي والزمني، لهم سماتهم، تاريخهم، ترميزاتهم اللونية وموضوعاتهم الطقسية. وهؤلاء الذين لهم هبة القدرة على التواصل مع هذا العالم، يُطلق عليهم أطفال النهر. رغم الاعتراف المحلي الذي وجده علي بقدرته على التواصل مع عالم الجيمبالا، إلا أنه ترك الأمر لاحقًا: “بسبب الإسلام لم أرغب في الإكثار من هذه الممارسة، فهذه الأرواح قد تكون خيّرة أو شريرة، لذا أنا أغني لها فقط، لكنها أيضًا ثقافتنا التي لا يمكن تجاوزها”. لذا نجد أن كثيرًا من أغانيه تدور حول هذه الأرواح، بل لم ينفك عن السفر حاملًا معه نجاركته Njarka كمان أحادي الوتر مُسجّلًا – متى استطاع – هذه الموسيقى أينما وجدها.
إذن لم يتخلَّ فاركا البتة عن شيء، مثلما أراد كتاب السيرة الغربيين تصوير أخلاقياته، ففي عشيَّة تسجيل أسطوانتهما المشتركة: في قلب القمر، قال الجريوت توماني دياباتي، جاء فاركا عمدةً لقرية نيافونكي، وكان هذا أمرًا سعيدًا، يمنح الناس مبتغاهم.
“الأطفال يلتفّون من حوله، والسكان المحليّون يبحثون فيه عن القيادة، وتقديم المشورة، والتوظيف والدعم المالي، إذ ألزم نفسه بخدمة المجتمع وتنميته التجاريّة، حتى أنه قدَّم عروضًا في فرنسا لتمويل مبادرات من أجل تطوير المدينة. رجل ثري، مع ذلك تحدث عن الفقر باعتباره الطريق الصحيح إلى السعادة، وهذا يعني أنه ليس على المرء إهدار الطاقة على الرغائب المادية، بل عليه العيش ببساطة. فإن كان من حقه الحصول على وسائل كسب العيش، فعليه استخدامها بحكمة ولأجل مساعدة الآخرين. لقد ضرب مثالًا لهذه الفلسفة في حياته.”
مثل أي أسطورة؛ لم يكف فاركا عن نزع نفسه بعيدًا عن السوق، لأجل الارتخاء في السماع. أظنُّ أنك حين السماع لفاركا لن ترغب في قفل باب غرفتك بعنف، بل ستُصغي إلى حكايات الدم، متهاديًا مثل الحالم أو المُنوَّم، مأخوذًا من إهابك، سترحل عبر طبقات تاريخ ورواسب حوض النيجر، وقد تقوم في كامل بهائك توزع البسمات المجانيّة، وهذا مذهب في كمال النحول أيضاً “٢”.
هذا البناء السهل وتقتير الأداء متجذران في علاقة علي فاركا القوية مع الأرض في المناطق الريفيّة، ما أدّى به إلى رفض عروض مغرية جدًا خارج القارة. فقد كان متشبثًا دون هوادة بموسيقاه التقليديّة، رافضًا تحويلها / تشيئتها إلى بضاعة. كما أنه استثمر في تطوير اللغات المحليّة، وأظهر فهمًا متشابكًا وعميقًا لتلك اللغة والسياسة. فخلال تمرّد الطوارق في تسعينيّات القرن الماضي، في شمال مالي، كان يُنظر إليه باعتباره صانع سلام، فهو يغني بجميع لغات الإقليم – السونجاي، الفولاني والأمازيغية. كما كان رائد تكييف أساليب الغناء الموسيقي لدى الصونجي، الفولاني والأمازيغ على الجيتار. احتفت أغانيه بثيمات كونية (الحب والصداقة والسلام)، وأخرى محلية، وخاصة عن القرية التي ترعرع فيها، والتي تتحدث عن الأرض، الأرواح والنهر. عندما مُنح أول جائزة جرامي، رفض الذهاب إلى الولايات المتحدة لحضور الحفل، قائلًا: ”لا أعرف ماذا تعني الجرامي، لكن إذا كان لدى شخص ما شيء لي، فعليه أن يأتي ويعطيه لي هنا في نيافونكي، حيث كنتُ أغني عندما لم يكن يعرفني أحد.”
أثر التاريخ وعمل الفرد الحضاري يظهر جليَّا في أغنية بيِتر بوثا:
يبدأ العمل بترديد باهت (بمعنى أنه آتٍ من هناك) ( لكنه من ذات المكان كونه يتردد رباعي – مثل النسخة التقليدية لموسيقى البلوز) وفي الخامس؛ بمعنى امتداد العطاء، تظهر رقبة فرد بالجيتار، معلنًا أنه يحكي ملحمة؛ هي بالفعل قصّة تُحكى جماعيًا، مع نقرة (مرة مرة) على الإيقاع، لتظهر المقاومة أو المساومة في صوت صرير داخل بنية العمل الفني، يُعيدك دونما تردد إلى الملحمة البشرية.
لذا علينا الحرص بألا نخلط الأوراق، والعودة إلى اعتبارات خسيسة من البوابة الخطأ. تقتير الأداء (البناء السهل) لدى مُغنّي البلوز ليس عمل زهدي؛ إذ يمتدُّ هذا عشائريًا في الأداء الأفريقي؛ هو منحة، عطاء – قل هو عمل. مغنّي البلوز يُغني مع غيره، وهؤلاء الويلرز قليلون.
(١) الجريوت (jail أو jeli) المُغنين الجوَّالة، الحكواتية، هم طائفة من الموسيقيين والشعراء والمؤرخين، يعود بهم التاريخ إلى حقبة إمبراطورية مالي (منتصف القرن الثالث عشر حتى السابع عشر). اعتُبروا مستودعًا للتاريخ الشفاهي. وهؤلاء يتوارثون الصنعة، غالبًا عبر الخط الأبوي، لأجيال متعاقبة.
(٢) منزلة الرمق: مذهب في كمال النحول، هو اسم كتاب شعري للشاعرة السودانية نجلاء عثمان التوم.