.
تطورت أنواع الموسيقى على مراحل زمنية طويلة بسبب الهجرات واندماج ثقافات مختلفة أو نتيجة تفاعلها بحميمية تسفر عن نشأة أنواع موسيقية جديدة. هذا الاندماج وما ينتج عنه كثيراً ما يصطدم بحائط “الأصالة“، الذي هو بمفهومه الشائع مجرد توجه محافظ يهدف إلى عزل تراث عن ما سبقه وما يليه. في مقال سابق، حاولت إعادة تعريف الأصالة لتجاوز التعريف الشائع والوصول إلى أن كل ما هو مجدد أصيل، واقترحت أن هذا “التراث الأصيل” لم ينشأ من تلقاء نفسه، بل هو نفسه نتاج عملية تراكم واندماج موسيقي. لكن ما معايير جودة هذا الاندماج؟ وهل كل دمج أو مزج جيد ومجدد حقا؟
منذ منتصف القرن العشرين بات من العادي أن يسافر فنان أوروبي مثلاً إلى الشرق حيث يتأثر بموسيقى شرق آسيا ويقوم بتعلمها ثم عزفها كما هي، أو يعيد صياغتها ضمن موسيقاه بحيث يصبح مصدرها غير واضح الأصول والمعالم.
اليوم لم يعد الموسيقي بحاجة إلى السفر لتعلم ثقافة وموسيقى مختلفة ثم العودة لعزفها في قاعات كبيرة أو تسجيلها في بتكاليف باهظة. الاحتكاك المباشر لم يعد له نفس القيمة، فنحن في عصر “فنان غرفة النوم“ مصطلح يعني ذلك الفنان القادر على امتصاص موسيقى ثقافات مختلفة وعزفها وتسجيلها بغرفة نومه دون الحاجة المغادرة أو حتى اقتناء الآلة الموسيقية.
هذا الانفتاح والسهولة له أبعاد سلبية أيضاً مثل انتشار جنرا موسيقى العالم world music واحتكارها من قبل شركات انتاج انتهازية لتسويقها كموسيقى بوب غرائبية exotic من جهة، ولتناقض هذه الشركات نفسها من جهة أخرى مدعية أن الموسيقى لا تفصلها الثقافات والحدود. إن أضر هذا التصنيف بأحد، فقد أضر بالموسيقيين الذين استحوذ عليهم هذا السوق، إذ أنه انتهك خصوصيتهم واستغلها بشكل يشوه موسيقاهم ويحجم قيمتها الفنية بوضعها حصرياً في خانة الغرائبية.
من هنا انبثقت موسيقى المزج fusion التي تعتمد على تركيب ألحان وأشكال مبسطة من نوعين موسيقيين (أو أكثر) لا يمت أحدهما للآخر بصلة، حيث يحاول الموسيقي غصب هذه الأنواع على بعضها ليخرج بمنتج أو كولاج سطحي مشوِّه للمصدر، فلا يسفر دمج النوعين عن نشأة منتج أو نوع موسيقي جديد، بل يظل النوعان الموسيقيان منفصلان تماماً يلاحظ أن نتائج هذه المحاولات المفتعلة لا تستمر طويلًا وإن نجحت تجارياً.
كثيراً ما يتم المزج عن طريق استخدام آلات شرقية وغربية ومحاولة تلبيق استخداماتها، فنرى على سبيل المثال تركيب تواشيح صوفية على موسيقى إلكترونية أو روك. هذه المحاولات للمزج تهمل تماماً (مثلاً) أن تطوّر طريقة الغناء في منطقة جغرافية بعينها أمر وثيق الصلة باللغة كما يرى بيلا بارتوك وكذلك ستيف رايش في كتابه Writing On Music، كما أنها تهمل بنفس الطريقة ارتباط الآلات بالموسيقى التي تستخدم فيها، فتحاول إقحام الآلات الشرقية في موسيقى الروك مثلاً كبدع gimmicks دون التلاعب بأصواتها، أو تركيبها على خلفية موسيقى إلكترونية راقصة EDM. لا يقتصر الأمر على استعانة الشرق بالموسيقى الغربية بل يحدث العكس أيضًا، حيث نجد فنانين غربيين يحاولون مزج آلات أفريقية أو آسيوية بالأوركسترا، فيقحمونها في كونشرتو دون إعادة توظيف الآلة أو تغيير ملامح الأوركسترا.
لا حرج أو نقصان في أن يقوم فنان بعزف وتأليف موسيقى تنتمي إلى ثقافة أخرى مختلفة عن ثقافته ونشأته، بات ذلك أمرًا طبيعيًا كما ذكرنا سابقاً، لكن الاكتفاء بإضافة عينة صوتية لأم كلثوم أو موسيقى فلكلورية أو موّال وإعادة تكرارها بشكل مستمر بمصاحبة موسيقى راقصة كالدب ستب أو الهاوس لا يكمن فيه أى إبداع أو تجديد كما هو عزف ألحان شرقية بآلات غربية بمصاحبة غناء عربي هجين. كل عنصر على حدى مألوف للأذن وسبق لعبه وسماعه من قبل، وبالتالي فإن الاكتفاء بتركيب هذه العناصر هو مجرد استسهال أصبح المزج اليوم أكثر سهولة بسبب انتشار أجهزة العينات الصوتية والبرامج الرقمية مما أشاع استخدامه في موسيقى البوب والموسيقى الراقصة والهيب هوب وانتهازية.
شاع أيضاً غناء كلمات عربية بلكنة أو مخارج ألفاظ إنجليزية (بل أمريكية)، وهو سمة واضحة في أغاني مشروع ليلى وكيان وشارموفارز وغيرها من فرق الروك العربية، وكذلك مغنيي الهيب هوب العربي الذين يستهلكون مخارج ألفاظ الأمريكيين السود—ذات الخصوصية الثقافية—من خلال إقحامها في موسيقاهم. يقابل ذلك استخدام مغنٍ إنجليزي للعُرب في أغنية روك، وإن كان ذلك غير شائع بالمرة، إذ أن للعُرب صلة وثيقة باللغة العربية ومخارج ألفاظها. هذا المزج السطحي قد يكون مفيداً في إطار هزلي، كأغنية ما في خوف من كفيل، حيث يقلد خليجي لكنة الهندي المقيم في دول الخليج.
يستخدم فنانو موسيقى المزج نفس حجة شركات الموسيقى العالمية، وهى أن الموسيقى لا تفصلها ثقافات وحدود. هذه الفكرة تحمل في طياتها قدرًا كبيرًا من إغفال الجانب الإبداعي، لذلك نجد أن نتاج المزج ضعيف فنيّاً، حتى وإن احتوت الموسيقى على جوانب تقنية تتطلب مهارات عالية في العزف.
للتملك الثقافي دور محوري في تطور الموسيقى ونشأة أنواع جديدة مبدعة فيها إضافةً حقيقية للموسيقى. هذا يختلف تمامًا عن موسيقى المزج. التملّك عملية طويلة تشمل التأثر والاقتباس والاستعارة بطريقة واعية أو غير واعية نظرًا لانفتاح الثقافات على بعضها. إذا تتبعنا موسيقى الهيفي ميتال مثلًا سنجد جذوراً تمتد إلى الجاز والبلوز المنحدرين من موسيقى الراغتايم Ragtime، منه إلى تأثير البلوز على الروك آند رول، وثم تأثير الروك آند روك على الروك بمختلف أنواعه، وصولًا إلى تأثير الروك على الهيفي ميتال. عملية كهذه لم تحدث بشكل مفتعل وفجائي. مثال آخر هو الموسيقى الإلكترونية الراقصة التي تأثرت بشدة بشكل وبناء الموسيقى التقليلية Minimalism.
أما بالنسبة لعملية التملك التي تمّت بفضل الهجرات فيمكن رصدها من خلال مثال موسيقى الدرم آند بايس التي انتشرت في التسعينيات، والتي طوّرها أبناء الجيل الثاني من المهاجرين الجمايكيين في إنجلترا الذين وصلوا إبان الحرب العالمية الثانية.
بعد انتشار الريغي في جامايكا نُقلت إلى إنجلترا حيث تم التلاعب بها من خلال الـ dubbing، ثم أخذت شكلاً مختلفاً عندما ظهرت أجهزة العينات الصوتية في آواخر الثمانينيات لينتج عنها موسيقى الجنغل jungle التي تعتمد بشكل أساسي على أسلوب غناء الريغي والفواصل الإيقاعية. بعد ظهور برامج رقمية كـ ريسايكل ذي يسمح بالتلاعب بعينات الإيقاع، فتحت هذه الموسيقى باباً أوسع وتطور لأشكال أخرى. هكذا ظهرت موسيقى الدرم آند بيز التي انتشرت بين أوساط الإنجليز البيض وأصبح لها دور كبير في تطور موسيقى الـEDM والبيج بيت والدبستب في ما بعد.
لكن التجديد ليس دوماً مرهونا باختلاط الثقافات، فتطور الموسيقى الكلاسيكية في القارة الأوروبية مثلاً يرجع إلى أصوله المحلية المرهونة بتطور تقنيات العزف ونظريات الموسيقى والآلة وظهور الجديد منها. نرى ذلك في التحول التدريجي الذي طال موسيقى عصر النهضة وحتى الموسيقى السريالية serialism مرورًا بموسيقى الباروك ثم الكلاسيكية فالحقبة الرومانسية والانطباعية والتعبيرية. على عكس الأمثلة السابق ذكرها وباستثناء حالات قليلة مثل تأثر ديبوسي بموسيقى الغاملان وتأثر بيلا بارتوك ويناتشيك بموسيقى الفلكلور، لم تتطور الموسيقى الغربية بفضل انفتاح الثقافات بعضها على البعض والتملك الثقافي.
مع ظهور الموسيقى التقليلية منذ منتصف الستينيات لم تعد هناك موسيقى أوروبية بالمعنى التقليدي، وهنا يأتي دور ستيف رايش وموسيقاه التقليلية كنموذج للتملك دون تطفل. تأثر رايش من خلال رحلاته بالموسيقى الإفريقية في غانا وموسيقى الغاملان بشرق آسيا وانبهر بها. كانت الموسيقى الأوروبية، كما رأى الكثير من النقاد، قد وصلت إلى حالة من التشبع الذاتي، ولكسر هذه الحالة كان من الممكن ومن السهل أيضَا على رايش أن يمزج الموسيقى الأوروبية بالآسيوية من خلال “كونشرتو للغاملان” مصاحبًا للأوركسترا على سبيل المثال. لكن رايش أقدم على طريق أكثر وعودة وإبداعًا، فقد استعان بفكر وبناء وتركيب الموسيقى الأفريقيّة والآسيويّة، لكنه حافظ في نفس الوقت على صوته الخاص وأسلوبه وآلاته الموسيقية، كما أنه استعان بتكنولوجيا عصره. قام رايش بتأويل ما استعاره من الثقافات الأخرى وعالجه بشكل يختلف عن أصله، لينتج عن هذه العملية صوت جديد وفريد يظهر إبداعه وبصمته الخاصة.
نجد في تجربة ستيف رايش ما يوازي تطور موسيقى أم كلثوم وعروضها الحية من جلسات صغيرة بآلات محدودة إلى عروض ضخمة على المسرح تصاحبها فيها فرقة موسيقية كبيرة أقرب في تكوينها إلى الأوركسترا بمفهومها الغربي الأمر الذي جاء بتأثير من محمد عبد الوهاب. لم تدمج أم كلثوم الموسيقى الشرقية بالغربية، بل طورت موسيقاها مستعينة بالشكل الخارجي فقط للتوزيع الموسيقي عند الغرب، مع الاحتفاظ بآلاتها وطريقة غنائها وألحانها الشرقية، لينتج عن هذا صوت جديد وموسيقى أصيلة.
هذه الموسيقى الأصيلة النابعة من التملك الثقافي، على عكس موسيقى المزج، تُنتج بطريقة عفويّة وتستعين بعناصر من نوعين موسيقيين أو أكثر لتسفر في النهاية عن منتج أو صوت جديد قادر على فتح المجال لنوع موسيقي جديد.
بسبب التطور التكنولوجي ووجود الإنترنت، أصبحت عملية التملك التي كانت تتم على مدار أعوام وعقود ممكنة الآن خلال عام أو أشهر. ولعل المقاربة بين موسيقى المهرجانات وتقليلية ستيف رايش هى أقرب مثال معاصر. فمثلاً، نجد أن نشأة العديد من فناني المهرجانات تشبعت بالهيب هوب الأمريكي. كان من الممكن أن يقوم فنانو المهرجانات بمجرد مزج طريقة غناء الراب بالعامية المصرية على خلفية الموسيقى الشعبية أو موسيقى الهيب هوب الشائعة في أمريكا. لكن على عكس ذلك وبمنطق قريب مما فعله رايش، قام هؤلاء الفنانون باستعارة الشكل الخارجي فقط للهيب هوب، مثل كيفية توظيف العينات الصوتية والفواصل الإيقاعية والمؤثرات الصوتية واستخدام برنامج التسجيل الرقمي بشكل مختلف عن استخداماته في الهيب هوب. لم تكن النتيجة موسيقى مزج هيب هوب عربي، بل موسيقى جديدة تملّكت عناصر الهيب هوب ونقلت الموسيقى الشعبية إلى منطقة جديدة ذات صوت جديد. هنا تكمن الأصالة.
ما زال دعاة الأصالة مُصرّين على التمسك بالماضي، مغاليين بالحنين لصوته ومحاولات إحيائه، في حين أصبحت العملية الإبداعية بعد إزالة الفواصل الجغرافية والثقافية عند مفترق بثلاثة مخارج: الأول يؤدي إلى إعادة إنتاج موسيقى ثقافة ما من قبل فنانين من ثقافة أخرى، وهو أمر مفهوم في السياق الزمني حيث يستكمل الفنان مسيرة فنان آخر تأثر به. من هنا يحدث تراكم للمنتج الموسيقي قد يسفر عن تطور الموسيقى أو ظهور نوع موسيقي جديد. الطريق الثاني هو المزج، وهو الطريق السهل والسريع والذي يُسطّح أشكال الموسيقي.
الطريق الثالث يؤدي إلى الموسيقى الناتجة عن التملك الثقافي بشكل عفويّ يستعين بعناصر موسيقية مختلفة، تُسفر في النهاية عن صوت جديد، يؤسس لنوع موسيقي جديد.