في حلب أوائل التسعينات، وقفت مريم عند دوار السبيل مبللة من رأسها لقدميها بالمطر المنهمر تحت سياط الرعد، فاقدةً الأمل من إيجاد سيارة أجرة في هذه الساعة المتأخرة. أخيرًا، خرجت سيارة مرسيدس سوداء من الظلام، ثم توقفت أمامها.
كان الخوف أول ما حرّك غريزة مريم، في بلدٍ غالبًا ما تُنذر فيه مثل هذه السيارات بغرف استجواب وليالٍ بلا نوم. لكن عندما كشفت نافذة السائق عن رجلٍ ذي عينين رؤوفتين عرض عليها العودة إلى المنزل، تشجعت ودخلت المقصورة الدافئة، وبينما استقرت في المقعد الخلفي انتبهت إلى راكب آخر أنيق في الطرف المقابل من المقعد، يلف وشاحًا حول رقبته بعناية فائقة، فابتسم.
“مرحبا،” سمعت مريم نفسها تقول، وخرجت الكلمة مشحونةً بشحنةٍ كهربائيةٍ لا علاقة لها بالبرق في الخارج. صعقها التعرّف كضربةٍ جسدية: “أستاذ صباح، كيفك؟ شو هالصدفة السعيدة!”
“شكرًا على كرمك” قالت ثم جلست تتأمل وجهه في وهج الأضواء المتقطعة للشارع الذي مرّا به. كان من المفترض أن تترك السنين بصمتها عليه، وتتركه يبدو على ما هو عليه: رجلٌ عاش طويلًا بما يكفي ليصبح أسطورة. بدلًا من ذلك، بدا وكأن الزمن قد عقد معه اتفاقًا نبيلًا، وقرر تركه دون مساسٍ بينما يُدمّر البشر.
“ما شاء الله عليك يا أستاذ صباح. متل ما متذكرتك من حفل حضرتلك ياه من عشر سنين. شو سر هالشباب؟” سألت، ولم يحمل السؤال أيًا من الإطراء المدروس الذي أظهرته نسيمة الحر. “الرقص” رد فخري بروح دعابة. “الرقص يُبقي الروح شابة، وعندما تبقى الروح شابة، لا خيار أمام الجسد سوى اللحاق بها.”
تنتشر مثل هذه القصص في أحياء حلب ومقاهيها ودوائرها الثقافية. يروي السكان لقاءات خلف الكواليس، وعروضًا مرتجلة، وحوارات مع زملائهم الموسيقيين، كل قصة تضيف طبقات إلى شخصية فخري العامة. تقاوم هذه الروايات التحقق، وتستقر في الفراغ بين الحقائق الموثقة والذاكرة الجماعية.
لو لم نحاول فصل الحقيقة عن التزييف، لكشفت لنا هذه القصص كيف تصنع المجتمعات أبطالها الثقافيين وتحافظ عليهم، وتُظهر العملية التي يتحول بها الإنجاز الفردي إلى أسطورة جماعية، حيث تصبح اللقاءات الشخصية تراثًا مشتركًا.
في حلب، يمثل صباح فخري أكثر من مجرد امتياز موسيقي. يجسد الاستمرارية الثقافية، والتفاني الفني، والقوة الدائمة للموسيقى العربية التقليدية. تعكس القصص والأساطير التي تُروى عنه الإعجاب بموهبته، وحاجة المجتمع إلى الحفاظ على ارتباطه بإرثه الفني من خلال السرد الشخصي.
لذلك، هذه هي قصة صباح فخري كما نسجها من يدّعون نسْبه إليهم؛ صورة لم تُرسم في السير الذاتية الرسمية أو التقييمات النقدية، وإنما في الشهادات المتراكمة لأشخاص عاديين تأثرت حياتهم لفترة وجيزة بفنون استثنائية، وهنا شهادات ٥ منهم.
صباح فخري لديه ارتياب
ساد الصمت غرفة التدريب في الإذاعة السورية، إلا من أزيز أجهزة التسجيل الآلي وصوت النوتة الموسيقية الهادئ. رفع المايسترو عزيز غنام يده، في إشارة عالمية تعني “توقف، من فضلك توقف”. شعر الفتى ذو الخمسة عشر عامًا، الواقف أمام الميكروفون، بشيء يختنق في صدره.
بعث صوت صباح روحًا متجددة في إذاعة دمشق. أعاد الموسيقيون ترتيب مؤلفات موسيقية لتتلاءم مع مداه الأثيري، وخططت والدته للمستقبل بناء على وعد فخري بك البارودي بتوظيفه في الإذاعة براتب ثابت ودخل مقطوع من الحفلات الأسبوعية، ولم يمض الكثير من الوقت منذ قدمه عرابه على الإذاعة قائلًا: “نقدم لكم أبو كلثوم سورية الصغير، صباح فخري.” لكن الآن، بينما فتح صباح فمه ليلتقط نغمة دو العالية التي كانت تأتيه تلقائيًا كالتنفس، خرج شيء مختلف تمامًا؛ صوت متقطع وغير مؤكد، أكثر خشونة وانخفاضًا، لا ينتمي للصبي الذي كانه.
لم يكشف وجه المايسترو عن شيء، إلا أن أصابعه دقّت على حامل النوتة الموسيقية بإيقاع خاص كرجل يحسب الخسائر. كان هذا يوم الثلاثاء، وتبث الحفلات الإذاعية يوم الخميس على الهواء مباشرة لجمهور يتوقع الكمال.
“حاول مرة أخرى”، قال غنام، رغم أن نبرته توحي بأنه يعرف النتيجة مسبقًا.
تنهد صباح بعمق بالطريقة التي تعلمها، وشعر بحجابه الحاجز يتمدد، وأرخى كتفيه، وحاول استعادة ما كان ملكه دائمًا. كان صوت الطبيعة التي تفرض سيطرتها على صوت مستعار لتحيل الفتى الذي غنى كالملاك إلى رجل. في تلك اللحظة، وبينما شاهد تعبير المايسترو يتحول من الأمل إلى الاستسلام، أدرك صباح أنه فقد شيئًا لا يُعوّض؛ صوته وهويته، مسيرته المهنية وسبب وجوده.
أخيرًا، تكلم غنام، بكلماتٍ حذرةٍ ولطيفة: “لم لا تريح صوتك يا بني. لا تُرهقه. هذا مؤقت.”
سمع صباح ما لم يستطع المايسترو قوله: أن لا شيء سيعود كما كان، ستُلغى العقود، وتستمر البرامج الإذاعية بدونه، وقد بدأ مسؤولو الإذاعة بالفعل بمناقشة البدائل؛ وبينما جمع أوراقه – أغانٍ لكارم محمود ونجاح سلام وغيرها قد لا يغنيها مجددًا – شعر صباح بوحدة غريبة لشخص أصبحت موهبته الفريدة فجأة عادية. كتبت الهرمونات التي تسري في جسده قصة جديدة لحنجرته.
كانت تنتظر والدته عودته إلى المنزل في شارع الرئيس لسماع أخبار التدريبات والتسجيلات والانتصارات الصغيرة التي بَنت مصدر فخرها. إلا أن صباح لم يعد ذاته. بعد مدة أدركت عليّة القدسي أن حزن ابنها أكبر من أن يُناقش في حديثٍ عادي. توقفت عن سؤاله متى سيعود للغناء، وتوقفت عن ذكر الرسائل الواردة من دمشق، وتوقفت عن فعل أي شيء قد يُذكره بما كان عليه. عوضًا عن ذلك، راقبته بيقظة أمٍّ نجا طفلها من حادث، وخرج منه وقد تغير جذريًا.

وجد صباح لنفسه عملًا كجابٍ لأصحاب معامل النسيج ثم كاتبًا في محطة الوقود في النيرب، ووفر له العمل بنيةً مُنظمة، ومصدر دخل لا أكثر. سجل الحسابات وعد النقود، وأجرى محادثاتٍ قصيرة مع الزبائن الذين كانوا يتعرفون عليه أحيانًا: “ألست أنت ذلك الفتى الذي كان يُغني على الراديو؟”، وكان يومئ برأسه بأدب. مئة وعشرون ليرة شهريًا. خمسون منها لإيجار الغرفة التي يسكنها مع والدته، والباقي يُقسّم بين الطعام ومجموعة الكتب التعليمية المتنامية التي كان يدرسها في المساء، مُستعدًا لمستقبل بدا كجائزة ترضية.
لكن في إحدى قرى ريف حلب، في السابعة عشرة من عمره، محاطًا بمنازل من طوب اللبِن تبدو وكأنها من عصور الآشوريين، بدأ صباح يفهم شيئًا عن هندسة البقاء. ذهب كوكيل مدرسة إلى القرية التي لم يعرف أهلها شيئًا عن حياته السابقة، وفي جهلهم نمت حرية غريبة. هنا، كان ببساطة المعلم الشاب الذي يُساعد أطفالهم في تعلم الحروف والأرقام، لا الطفل المعجزة الذي ينعي موهبته المفقودة. أنتجت أصوات الأطفال، المرتفعة في التلاوة نوعًا مختلفًا من الموسيقى؛ أكثر خشونة، وأكثر إنسانية؛ لا تقلّ معنًى عن النغمات السماوية التي كان يُنتجها يومًا ما.
في الليل، وحيدًا في غرفته الصغيرة، وضع صباح يده على حلقه واستشعر جغرافية تفاحة آدم الجديدة، التي بدت وكأنها تُحدد الحدود بين ما كان عليه وما سيصبحه. أحيانًا، عندما استشعر أن لا أحد يسمعه، حاول الغناء، بهدوء وحذر، كما لو أن صوته حيوان برّيّ قد يهرب إذا اقترب منه بعنف.
صدر الصوت أعمق. أغنى في بعض النغمات، وقادرًا على أنواع مختلفة من الجمال. لكن ليس الصوت الذي جعله مشهورًا، ولفترة طويلة، كان هذا الاختلاف بمثابة خيانة. لقد أمضى سنوات معتقدًا أن هويته تكمن في حلقه، وأن قيمته تُقاس بارتفاع النغمات التي يستطيع بلوغها. الآن، مُجبرًا على إعادة بناء نفسه من مواد مختلفة جذريًا، اكتشف العمل المُرهق المتمثل في أن يصبح شخصًا جديدًا.
جاءت الأزمة كتراكم تدريجي من مآسي صغيرة. حال عودته إلى حلب بعد انتهاء خدمته العسكرية، مستلقيًا على فراشه، وجد صباح نفسه مشلولًا أمام احتمالات صعبة. أغراه التدريس بأمنه المتواضع. وقدمت التجارة حلولًا عملية. أما الموسيقى، فبقيت، على نحوٍ مثير، قريبة بما يكفي لتعذبه، وبعيدة بما يكفي لتبدو ذكرى.
قدّم له الشيخ جميل القاضي المصري الحل. نصحه الشيخ، متحدثًا من تجربته الشخصية مع اليأس: “الجأ إلى الخالق بأسمائه الحسنى. سبح باسمه حتى تجد السكينة.”
هكذا انزوى صباح لأيام في الصلاة بحماسة من يبحث عن التغيير لا عن الراحة. وبدأ يسمع في ترديده للعبارات المقدسة، وفي استسلامه لشيء أكبر من طموحاته المكسورة، شيئًا نسيه: الصوت الذي كان موجودًا قبل الشهرة، قبل العقود، قبل أن يقرر العالم كيف ينبغي أن تكون موهبته.
عندما خرج من هذه الخلوة الروحية، بدا القرار أقرب إلى الاعتراف منه إلى الاختيار. صوته، أعمق الآن، وأكثر تعقيدًا، يحمل ثقل الخسارة وحكمة البقاء، لم يفارقه أبدًا. لقد نضج ببساطة بطرق كان يخشى الاعتراف بها. رحلَ السوبرانو الذي كان قادرًا على بلوغ آفاقٍ مستحيلة، ووقف في مكانه رجلٌ شمل نطاق صوته الآن تجارب لم يعرفها الصبي قط: حزن القلب، والصمود، والقوة التي تأتي من إعادة بناء الذات من الأنقاض.
في الصباح الذي أخبر فيه والدته بقراره العودة إلى الموسيقى، ابتسمت ابتسامة ارتياحٍ لشخصٍ حبس أنفاسه لسنوات.
“لماذا تروي لي هذه القصة؟” سألتُ السيد حسام بينما جلسنا في بيت سيسي، وظلال ما بعد العصر تتطاول على أطلال حي الجديدة. “حلمتُ ذات مرة،” قال حسام وإصبعه يتتبع حواف فنجان القهوة. “أن أصنع فيلمًا … أو اثنين عن صباح فخري ومحمد خيري. رجلان امتلأت حياتهما بالتناقضات والتعقيدات التي تملأ المكتبات. خيري، لامعٌ لكنه غير منضبط، يمتلك صوتًا يكسر القلوب، لكنه يفتقر إلى الهوس المهني الذي دعم فخري على مدار عقود من الغناء. أهمل خيري صحته، وعاش بإهمال، وتألق، ومات شابًا. أما فخري، المنهجي في فنه كما في حياته، فقد حافظ على صوته وخصوصيته بنفس القدر من التفاني، وكان منضبطًا في نظامه الصحي كما في نظامه الفني.
مع ذلك ستجد صفحة فخري على ويكيبيديا الإنجليزية لا تتجاوز سطرين وقائمة إنجازات مختصرة، أما محمد خيري صاحب الصوت الأخاذ، فلا يتذكره إلا كبار السن، ويضيع البقية في عمليات البحث على الإنترنت التي تخلط بينه وبين الفنان الشاب الذين يشاركه نفس الاسم. شكّل هؤلاء الرجال المشهد الموسيقي في العالم العربي، أو في سوريا على الأقل، ومع ذلك تبقى قصصهم طي الكتمان إلى حد كبير، وحياتهم مُختزلة إلى حكايات متناثرة وذكريات باهتة.”
“هل تعتقد أن معرفة حياة هؤلاء الفنانين ستزيد من تقديرنا لفنهم؟” سألت.
“لا،” رد فورًا مشيرًا بيده. “ليس هذا المغزى أساسًا. لا تُعمّق معرفة حياة فنان تقديرك لفنه بالضرورة. العلاقة بين السيرة الذاتية والفن أكثر غموضًا من ذلك، وتؤثر على طريقة عيشك لا إدراكك لعمل الفنان … أحب هذه القصة في سيرة صباح لأنني عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، قدمتُ مشروع مسرحية لأستاذ اللغة العربية؛ مشروعًا كنتُ قد تعبتُ عليه لأسابيع، مُفرغًا كل شغفي المراهق بالكلمات على الورق. وأعاد الأستاذ عملي مُغطًى بالحبر الأحمر، مُأطرًا كل خطأ نحوي، ومُبرزًا كل هفوة إملائية كجرح، ثم قال لي بقسوة عابرة لا يُتقنها إلا المعلمون: ’توقف عن أحلام اليقظة. أنت تعيش في سوريا وليس في هوليوود. لن تصبح مخرجًا أبدًا.’ منذ ذلك اليوم، توقفت عن التفكير في الإخراج.
كنتُ معجبًا بأغاني صباح فخري، وأحفظ كلماتها البليغة، وأحضر حفلاته كلما سنحت لي الفرصة؛ وفي قلبي، كلما شاهدته يُسيطر على المسرح بسهولةٍ ظاهرة، وكلما سمعتُ قصص شهرته في طفولته ومواهبه الفطرية، نمى بداخلي إيمان بشيءٍ يبدو الآن ساذجًا: قد أنعم الله على بعض الناس بمساراتٍ واضحة، بينما يولد البعض وهم يعرفون غايتهم ولا يمرون أبدًا بالشك الذاتي الذي ابتلي به أشخاصٌ مثلي؛ يصلون إلى الأربعين من العمر ولم يكتشفوا ما يريدونه من الحياة.
تكشف هذه القصة أنه حتى صباح فخري، الذي وُهب صوتًا بدا وكأنه مُقدّر من الله، واجه لحظة جُرّد فيها من كل ما ظن أنه يعرفه عن نفسه. كان عليه هو الآخر أن يعيد بناء نفسه، وأن يتساءل، ويجد معنًى جديدًا لقدراته التي تغيّرت جذريًا بفعل ظروف خارجة عن إرادته. لذلك أحببت أن أكتب رواية عنه؛ لأن هالة العظمة تعمينا عن التكلفة الإنسانية للنجاح فيبدو هينًا وطبيعيًا.
عندما قصف غريب أحلامي، كان بإمكاني رثاؤها كما ينبغي، ثم المحاولة من جديد. عوضًا عن ذلك، اخترتُ الرواية المريحة القائلة إن بعض الناس يُختارون والبعض الآخر لا، وأن الموهبة إما أن تُمنح بالكامل أو لا تُمنح على الإطلاق”. صمت. “لكن ربما لم يفت الأوان بعد لإعادة بناء الأشياء المكسورة بطرق جديدة وغير متوقعة.”
خارج نافذة بيت سيسي، واصلت حلب عملية إعادة إعمارها. تعيد المدينة القديمة بناء نفسها ببطء حول الندوب التي ستُخلّد معالمها، وقد لا تعود أبدًا كما كانت من قبل، كصوت صباح فخري الناضج، لكنها قد تُصبح شيئًا جميلًا بطرق لم تُتخيل في الأصل.
الشيخ والبحر
ساقني القدر للقاء الشيخ بكري في أصبوحة ثقافية في حلب، وهو مهندسٌ مدنيٌّ متقاعد، دأب الناس على ندائه بالشيخ لوقار شيبته، ولحفظه القرآن ومواظبته على الصلاة في المسجد، وكتابته عقود الزواج للأصدقاء والأحبة أحيانًا.
في خاتمة تلك الأصبوحة، إذ ارتفعت الأوتار تعزف مقطوعةً من تراث صباح فخري، وانبرى شابٌّ ينشد بصوتٍ رخيم: “لو شاب دمعي بحار الأرض أغرقها“، غاب الشيخ بكري عن جليسه وكأنما استغرق في حضرةٍ لا يدركها إلا من ذاقها. هنالك صرفتُ بصري عن الشاب الذي قصدتُ مقابلته بادئ الأمر، وجعلتُ همّي سؤال الشيخ عن سرّ انجذابه وسبب استغراقه، وما كان لصباح من موقعٍ في وجدان رجلٍ مثل الشيخ بكري الذي خبر التجويد في محراب الليل، وجرّب الذكر في حلق السالكين.
يحب الشيخ بكري ترديد الحكاية التي تقول إن الطفل صباح الدين أبو قوس الذي ولد في أزقة العجم الضيقة عام ١٩٣٣، كان بكاؤه أشبه بالغناء، وأن أقارب الطفل أيقظوه من نومه ليسمعوا لحن صراخه الطفولي الغريب، على عكس بكاء الشيخ بكري الذي أصاب والدته بانهيار عصبي لمدة.
إلا أن والد الشيخ بكري كان كوالد صباح؛ رجلًا تقيًا من أهل التصوّف، بصيرًا بكون الفاصل بين المقدّس والدنيوي أدقّ من خيط الفجر؛ وكان أبو صباح يصطحبه إلى مسجد الأطروش، فيسمع صباح حلقات الذكر، ويعي ما فيها من الإيقاعات الموزونة والحركات المضبوطة، ودوران الدراويش المسبّحِين.
لم يكن فخري فنانًا صادف خوضه بين الحين والآخر في مواضيع دينية، كما قد يُضيف نجوم البوب المعاصرون جسرًا موسيقيًا مُتأثرًا بالأناشيد الدينية ليُضفوا تميزًا على أغنية حبّ. لقد بُني أساسه الجمالي بأكمله، والبنية المعمارية لوعيه الموسيقي، من الأركان على مبادئ سيُقرّ بها الشيخ بكري على أنها إسلامية أصيلة لا تشوبها شائبة: الدراسة الدقيقة للتجويد الذي يُحوّل القراءة المجردة إلى نوع من العبادة الصوتية، والانغماس في حلقات الذكر حيث تتلاشى تمامًا الحدود بين المُؤدّي والجماعة، والتلمذة على يد منشدين أدركوا أن الإنشاد الديني لا يقتصر على نقل المعلومات وإنما يهدف لخلق حالات وعي يُمكنها نقل المستمع إلى ما وراء المألوف، إلى معرفة تجريبية مباشرة بالمقدس.
يعلم الشيخ بكري، لأنه عاش هذه التجربة بنفسه، أن هناك شيئًا أصيلًا لا يُختزل في نهج فخري للغة العربية، وكيف شكّل تدريبه المبكر كمؤذن كل خيار فني لاحق. الدور الذي يتطلب مهارة صوتية، وكذلك إحساسًا يكاد يكون غامضًا بالتوقيت، وفهمًا بديهيًا لكيفية استجابة الروح البشرية لدعوة التعالي. يرى الشيخ بكري في إنشاد فخري لأسماء الله الحسنى التسعة والتسعين على التلفزيون السوري خلال شهر رمضان تعبيرًا طبيعيًا عن وعي تشكّل، منذ الطفولة، بافتراض الهدف الأسمى من النطق البشري بناء جسور بين العوالم المادية والروحية.
من وجهة نظر الشيخ بكري، نشأت القدود الحلبية التي اشتهر بها فخري من تقليد لم يُميّز جوهريًا بين الحب الإلهي والحب البشري، بل اعتبر كليهما تجلياتٍ للقوة الكونية نفسها التي تجذب جميع المخلوقات إلى مصدرها. عندما غنى فخري مقطوعات العشق، وقد استمع الشيخ بكري إلى ما يكفي منها ليدرك النمط، غالبًا ما أخفت العلمانية الظاهرة للكلمات معانٍ روحية أعمق لا يمكن إدراكها إلا ممن تعلّموا ممارسات القراءة الرمزية التي لطالما طالب بها الشعر الصوفي.
تقنيات الجليساندو، والزمرة، وأعمال التريل التي استخدمها فخري بدقة علمية، تتجاوز دور اللمسات الزخرفية لتقدم نظائر صوتية للحالات الروحية التي يُنمّيها الصوفيون من خلال الذكر، وهي طرق لاستخدام التنويع المُحكم والتكرار لإحداث ما أسماه الغزالي الوجد؛ الحالة التي تتلاشى فيها الأنا مؤقتًا وينطق شيء أكبر من خلال الوعي الفردي.
يكمن الرقي الجمالي في تعمق فخري في تراث المقام الحلبي، بنظامه المُعقّد للتمييز بين المسارات النغمية المختلفة وتركيزه على عناصر مثل الغماز (النغمة المهيمنة التي تُرسخ الشعور النغمي الخاص بكل رحلة لحنية). خلافًا للمناهج المُبسّطة نوعًا ما التي تطورت في القاهرة وغيرها من المراكز الموسيقية، حافظ التقليد الحلبي على ما يُقرّه الشيخ بكري بنوع من الدقة الصوفية، وهو فهمٌ مفاده أن توليفاتٍ مختلفة من الفواصل الدقيقة والأنماط اللحنية يُمكنها إنتاج تأثيراتٍ نفسية وروحية مُحددة.
ربما ما يجده الشيخ بكري أكثر جاذبيةً جماليةً في أعمال صباح فخري هو تكامل الحركة والصوت، حيث تضمنت عروض المغني إيماءاتٍ ورقصًا مستوحى من الصوفية، وخاصةً رقص السماح المُصاحب للموشحات تقليديًا. دافع فخري نفسه عن هذا النهج الشمولي بحجة أن “الموسيقى تتكون من صوت وإيقاع … والرقص جزء من الموسيقى”، وأنه عندما تحدث تجربة موسيقية حقيقية “يتأرجح الناس ويرقصون” بشكل طبيعي – وهي ملاحظة يرى الشيخ بكري أنها تتسق مع تحليل الغزالي لكيفية تأثير السماع الروحي الأصيل على الإنسان ككل، وليس فقط على الحواس السمعية.
ما يميز إنجاز فخري الجمالي، في نظر الشيخ بكري، هو قدرته على الحفاظ على هذه العلاقة العضوية بين التجربة الروحية والتعبير الفني حتى في سياق الترفيه العربي المتزايد تجاريًا في القرن العشرين. في إصرار المغني على أن “الكلمة هي حجر الزاوية” في الغناء، ومطالبته بأن تكون كلمات الأغاني “صحيحة وواضحة ومفهومة”، ما يعكس معايير مهنية، والتزامًا بالمبدأ الإسلامي القائل بامتلاك اللغة لقوة مقدسة متأصلة يجب التعامل معها بتوقير ودقة مناسبين.
لهذا السبب، لا يشعر الشيخ بكري بأي تناقض عندما يجد نفسه متأثرًا حتى البكاء أمام أداء فخري لأغاني حبّ دنيوية مثل قدّك الميّاس، لأنه يدرك، كما أدرك شعراء الصوفية والمتصوفون على مرّ القرون، أن مفردات الشوق الرومانسي البشري تُقدّم أدقّ استعارة متاحة لوصف علاقة الروح بالإله، كما قال ابن عربي:
“إن الجمال مهوب حيثما كانا / لأن فيه جلال الملك قد بانا” الفتوحات المكية.
يتخذ الشيخ بكري من إطار الغزالي إرشادًا حيًا لنفسه، فيرى أن جواز التجربة الموسيقية يعتمد كليًا على ما يُحضره المستمع إلى اللقاء، وما يمتلكه من صفات روحية ونوايا قبل سماع النغمة الأولى. بالنسبة لمن “غمر قلبه حب الله تعالى حتى بلغ به العشق حدّ العشق”، يصبح السمع لا مجرد أمرٍ جائز، بل نافعًا فاعلًا، قادرًا على إحداث حالاتٍ من “مشاهدات ومكاشفات” تُنقّي الوعي “وتنقيه من الكدورات كما تنقي النار الجواهر المعروضة عليها.” يُصرّ الغزالي على أن الموسيقى نفسها “لا تُثير في النفس شيئًا غير موجود”، بل “تُثير ما هو موجودٌ فيها أصلًا.”
صباحٌ دائم في بنسلفانيا
فرَّ جد هاروت بارسيجيان من الإبادة الجماعية للأرمن، وفتح والده محل بيع قطع سيارات في حي الميدان، ليولد هاروت في حلب عام ١٩٦٢. في منتصف الثمانينات وجد نفسه جالسًا على طاولة في فندق مدينة آلينتاون على بعد خمس ساعات بالسيارة من مدينة إقامته بيتسبرغ، بنسلفانيا، ظاهريًا بسبب إصرار صديقته سونيا، وحقيقةً لأن شيئًا غامضًا كان يجذبه نحو مغني السهرة منذ سنوات، رغم أن لغته العربية كانت في أحسن الأحوال عملية، وفهمه للشعر العربي الكلاسيكي معدوم.
لم يكن هاروت بحاجة إلى فهم الكلمات. يبدو هذا الكلام مبتذلًا عند محاولة التحلي بالدبلوماسية في التعامل مع الاختلافات الثقافية، إلا أنه في هذه الحالة كان صحيحًا حرفيًا وقابلًا للقياس. انطلق فخري في إحدى مواويله الأسطورية وكان هاروت يجد نفسه منقولًا إلى ما وصفه فقط بأنه “ذلك المكان الذي تذهب إليه وأنت طفل وتسمع جدتك تُدندن أثناء طهيها.”
أمضى آل بارسيجيان، مثل معظم العائلات الأرمنية، عقودًا في نقاشٍ مُعقد حول الحفاظ على الثقافة مقابل الاندماج الثقافي. غنت جدة هاروت أغاني شعبيةً تركية أثناء طهيها أطباقًا أرمنية؛ واستمعت والدته لفيروز وهي تُطرز ثيابًا طقسية للكنيسة الأرمنية الرسولية؛ وناقش والده السياسة بالعربية، وأدار أعماله بالفرنسية، وصلّى بالأرمنية الكلاسيكية، وشتم بالتركية؛ وأحيانًا كل ذلك في محادثة واحدة.
لذا، عندما اعتلى فخري المسرح تلك الليلة متأخرًا ؛ ذلك الرجل ذو الصدر العريض، وانغمس في غناء قدود حلبية احتوت بطريقة ما على أصداء موسيقى البلاط العثماني، والتراكيب العربية، وأنغام فارسية، وما بدا مُريبًا كترانيم طقسية نشأ هاروت على سماعها في كنيسة الأربعين شهيد، بدت التجربة برمتها أقرب إلى التعرّف منها إلى الاكتشاف. كأنك تعود إلى مكان لم تزره من قبل، لكنك عرفته دائمًا بطريقة ما.
لم يكن انجذاب هاروت لحفل صباح في أمريكا لأسباب ثقافية أو نوستالجية. امتلك فخري قدرة خارقة على تحديد المركز العاطفي لأي لحظة، ثم تضخيمه حتى يصبح لا يُحتمل بأروع طريقة ممكنة. كان لصوته هذه الخاصية التي تمكّنه من أخذ جملة لحنية بسيطة وإضافة ما يكفي من الإحساس إليها لإيقاف هبوب الرياح.
جاءت اللحظة التي تبلور فيها كل شيء لهاروت خلال لو شاب دمعي بحار الأرض، عندما أخذ فخري جملة لحنية بسيطة وبدأ يصقلها مكتشفًا زوايا جديدة وجوانب خفية مع كل تكرار. ربما كانت كلمات الأغنية غير مفهومة لنصف الحضور يومها، أمّا محتواها العاطفي فكان جليًا للغاية، ومُعبّرًا بدقة من خلال تقنية صوتية نقية.
شعر هاروت بالشوق في طريقة ثنيه لبعض النغمات، وسمع القبول في تركه لأخرى تتلاشى في الصمت، ولمس الحكمة في الفراغات بين الكلمات. عندها أدرك هاروت أن ما يشهده تجاوز الترفيه أو الحفظ الثقافي أو أيٍّ من التصنيفات الأخرى التي نستخدمها لاحتواء التجربة الفنية وتفسيرها. كان الأمر أقرب إلى طقس ديني، واحتفاء بما يحدث عندما يقضي المرء حياته كلها في تعلم تحويل التجربة البشرية إلى جمال من خلال التطبيق الدقيق لتقنية منضبطة وتطويع نعمة نادرة.
ما جعل إنجاز فخري مميزًا بشكل خاص هو قدرته على تكريم خصوصية تراثه مع جعله في متناول أناسٍ لا يملكون أي حق تاريخي أو ثقافي فيه. لم تكن القدود الحلبية التي أداها قطعًا متحفية أو تمارين في الحنين الثقافي؛ وإنما وثائق حية استمرت في التطور مع كل عرض، مُدمجةً نبراتٍ وتأكيداتٍ جديدة مع الحفاظ على جوهرها البنيوي. حمل صوته قرونًا من المعرفة الموسيقية المتراكمة، التي مكّنته من فعل ذلك بطريقةٍ بدت آنيةً ومعاصرةً تمامًا.
يصبح الأمر مثيرًا للاهتمام حقًا مع الجيل الأصغر سنًا، لأنه قد يتوقع المرء أن فنًا متجذرًا في تراث تاريخي سيواجه صعوبةً في التواصل مع جماهير في بلاد أجنبية لديهم قنوات MTV وحفلات موسيقى البوب البراقة. لكن ما لاحظه هاروت تلك الليلة هو كيف تفاعل الشباب ضمن الجمهور – وكان عددهم أكبر مما قد تتوقع – مع أداء فخري. ربما لم يفهموا جميع الإشارات الثقافية أو يتابعوا التتابعات النغمية المعقدة، لكنهم استطاعوا تمييز التعبير العاطفي الأصيل عند سماعه، وشعروا بقوة صوت بشري مُدرّب على تجسيد كامل نطاق المشاعر الإنسانية.
أثبت فخري أن الصراع المفترض بين التقليد والابتكار، بين الخصوصية الثقافية والجاذبية العالمية، بين النزاهة الفنية وسهولة الوصول، كان وهميًا إلى حد كبير.
بيت الفرح
مع أن الزيارة صباحية، ارتدت أم ميار حلية ذهبية كاملة مكونة بشكل رئيسي من أساور المبرومة الثقيلة، وشبشب يبدو عثمانيًا إلا أنه من ماركة ساينت لورينت، كما ملأ حضورها صالة الضيوف برائحة الثروة.
كانت أم ميار في بداية المراهقة عندما التقت صباح فخري لأول مرة أوائل السبعينات، وابنةً لإحدى أبرز عائلات حلب التجارية. كان في حفل زفاف، حيث تعاقد والد العروس مع صباح فخري الذي بدأ يحقق نجومية عالمية وتوقف عن الأذان في جامع بشير باشا.
لدى السيدة أم ميار صورة موقعة لصباح فخري في وقفته الأيقونية، ذراعاه ممدودتان على مصراعيهما، وجسده يسيطر على مسرح بأكمله. تلتقطها أم خليل بتبجيلٍ خاص للأشياء المقدسة. “هكذا نتذكره”، تقول مشيرةً إلى ذراعيه. “كما لو كان يعانق حلب بأكملها دفعةً واحدة. لكن عندما رأيته لأول مرة، ظننته عاديًا. قصير، ممتلئ الجسم، لا يشبه المطربين الرومانسيين من القاهرة بشواربهم الأنيقة وبدلاتهم العصرية والأقل رسمية.” تتوقف قليلًا، وتضع الصورة بحرص. “استغرق الأمر أغنية واحدة فقط لأدرك أننا أمام شيء استثنائي.”
لقد وصل مبكرًا. اعتاد معظم المغنين الآخرين على الدخول في ذروة الحفل، إلا أن صباح حضر قبل وقت معتبر من بدء العرض لتفحص كل شيء؛ الصوتيات، وترتيبات الجلوس، وحتى اتجاه نسيم المساء في القاعة.” يحمل صوت أم ميار نبرة إعجاب لا تزال حاضرة بعد نصف قرن. “ساعد أخي الأكبر في الترتيبات، وأخبرنا لاحقًا أن صباح أصر على اختبار كل ميكروفون، وضبط الإضاءة، والتأكد من أن مقعد العروس سيوفر لها الراحة.”
كان هذا الاهتمام بالتفاصيل البيئية، وفقًا لمن عملوا معه، أسطوريًا في نطاقه وكثافته. ارتدى وشاحًا حول رقبته ليحميه من التيارات الهوائية، وتناول العسل الممزوج بالأعشاب التقليدية قبل كل عرض، وهي ممارسة تضعه ضمن سلسلة من التقاليد الصوتية الممتدة لقرون، حيث ينقل كل جيل من المغنين الأشعار والأغاني، وفوقها الحكمة المتراكمة في العناية بالحلق والتحكم في التنفس.
واظب على عادة تفتيش كل مكان قبل الموافقة على الأداء فيه من باب إدراك أن المكان يُشكل الصوت، وأن العمارة ليست محايدة صوتيًا أبدًا، وأن الفرق بين التسامي والترفيه المحض غالبًا ما يكمن في مدى تفرغ المؤدي لفهم كيفية تفاعل صوته مع هندسة السقف والجدار والأرضية التي ستحتويه للساعات القليلة القادمة. مع الزمن خول هذه المهمة لابنه أنس وزوجته فاطمة الزهراء، الذين شكلوا معه مؤسسة صباح فخري كما نعرفها.
ربما كان الجانب الأبرز في طقوس فخري التحضيرية هو ما لاحظه شقيق أم ميار تلك الليلة: الطريقة التي قضى بها فخري الساعة الأولى من كل عرض منخرطًا في التجارب الموسيقية، مستخدمًا الجزء الافتتاحي من عرضه لإجراء نوع من الدراسة الإثنوجرافية المباشرة لجمهوره، مجربًا أساليب ومناهج مختلفة، مترقبًا التحولات الدقيقة في الانتباه والتفاعل التي من شأنها إنباؤه بالمجالات العاطفية التي تستعد هذه المجموعة تحديدًا لاستكشافها.
سعى فخري من خلال التجارب الموسيقية إلى اكتشاف ما يريد جمهوره سماعه، وما يحتاجون للشعور به، والأهم من ذلك، ما كانوا قادرين على الشعور به سويًا. أدرك فخري أن الطرب في جوهره ظاهرة اجتماعية، لا تنبع من التفوق التقني للمؤدي، مع أنه ضروري بالتأكيد، بل من التفاعل العاطفي المعقد الذي ينشأ بين المؤدي والجمهور عندما تكون الظروف مناسبة تمامًا. وُلِد هذا الفهم، جزئيًا على الأقل، من انغماس فخري العميق فيما يُمكن تسميته بالبنية التحتية الاجتماعية للثقافة الموسيقية في حلب، ولا سيما مؤسسة السهرات ولقاءات الخوانم.
يُرضي السيدة أم ميار التركيز على هذه النقطة متذكرة قصة اكتشاف صباح فخري بالقول: “بُني المنزل الذي كبر فيه صباح الصغير على الطراز العربي التقليدي، بباحة تجتمع فيها النساء لجلسات سمرهن. في سن الخامسة، أو السادسة، حُجب صباح عن هذه التجمعات النسائية، فتسلق أغصان شجرة تُطل على الفناء كعصفور. نادته إحدى النسوة، وعلمته مواله الأول. ما أن بلغ الثامنة حتى بدأت خوانم حلب يطلبن حضوره في مجالسهن. أدركن شيئًا في هذا الطفل ربما لم يفهمه هو نفسه بعد: لقد أصبح وعاءً لشيء أكبر منه، مستودعًا حيًا للمعرفة الموسيقية التي توارثتها أجيال من المطربين الحلبيين.”
تحب أم ميار رواية هذه اللحظة من سيرة صباح فخري لتقول إن سهرات المساء الحلبيات ليست ترفًا زائلًا، بل كانت بمثابة مدرسة تأهيل ومختبر للفنانين الطموحين. كانت طقوسًا اجتماعية مُعقدة مُتنكرة في صورة ترفيه، وعادات تقليدية. مثّلت السهرات، في الواقع، ديمقراطية النشوة بمعنى أن تحقيق الطرب يتطلب المشاركة الفاعلة من جميع الحاضرين.
لم يكن بإمكان المؤدي، مهما بلغت مهارته، أن يفرض ببساطة السمو على جمهور خامل؛ بل انبثق السمو من التفاعل بينه وبين المستمعين، حيث تتغذى كل مجموعة على طاقة الأخرى، ما يخلق حلقة تغذية راجعة، عندما تعمل بشكل صحيح، يمكن أن تنقل جميع المشاركين إلى تلك الحالة السامية التي احترفها فخري، السلطنة.
يتجلى المثال الأوضح على هذه الديناميكية التعاونية في الحكاية التي رواها المؤدي البارع والباحث الموسيقي قدري دلال، الذي استضاف فخري في سهرة صغيرة. تكشف القصة، ببساطتها الأنيقة، عن شيء عميق في طبيعة التجربة الجمالية وعلاقتها بالكمال التقني. انبهر دلال والمستمعون الآخرون في تلك السهرة، ووصفوا الأداء بأنه حقق “نشوة طرب عظيمة”. بعد سنوات، عندما التقى دلال بفخري مجددًا، صدمه المغني برفضه ذلك الأداء ذاته ووصفه بأنه “سيئ للغاية”. عندما أعاد دلال النظر في تسجيل الكاسيت، اكتشف، لحزنه، أن فخري كان مُحقًا تمامًا. كان الأداء، من الناحية التقنية البحتة، دون المستوى.
هنا نُواجه المفارقة الجوهرية في الأداء الموسيقي الحي بشكل عام: الانفصال التام بين التميز التقني والتأثير العاطفي. ما تكشفه قصة دلال هو أن صدق الجو والارتباط العاطفي الحميم بين المؤدي والجمهور قد يكونان أحيانًا أكثر أهمية من جودة الأداء الموسيقي نفسه. كان الطرب الذي اختبره دلال والمستمعون الآخرون حقيقيًا، ولم يتضاءل بعد اكتشاف العيوب الفنية في الأداء. لكنه كان أيضًا غير قابل للتصوير بشكل أساسي باستخدام تقنية التسجيل، إذ كانت تعتمد على التفاعل الفوري غير القابل للتكرار بين أشخاص محددين في مكان محدد وفي لحظة محددة.
عندما يبدأ العرض، بعد التجارب، يظهر التحول فورًا. يصير الرجل العادي ذو التحضيرات الدقيقة قناةً لشيء أكبر منه. “كان يبدأ بهدوءٍ شديد، كأنه حديثٌ عابر”، تتذكر أم ميار قائلةً: “ثم، كالماء الذي يجد مجراه الطبيعي، يرتفع الصوت ويتسع حتى يملأ الحيّ بأكمله. يتوقف الأطفال عن اللعب في الشوارع. تتوقف الأمهات عن تحضيراتهن المسائية. حتى التجار الذين يغلقون متاجرهم يجدون أسبابًا للتريث.”
تتذكر أم ميار، وهي تهز مروحتها: “كانت هناك لحظة غنى فيها موالًا عن الفراق والشوق. بدأ رجل عجوز من بين الجمهور بالبكاء بانفعال من وجد قصته تنعكس في الكلمات القديمة. وأشاد صباح به بنظرات عينيه، دون أن تفوته أي نغمة. كانت تلك موهبته، كما تعلم. كان قادرًا على استيعاب ألف شخص في تواصل مباشر.”
اختُتم العرض قرب الفجر بقدود حلبية جعلت الحضور يتمايلون بإيقاع لا شعوري. كان ما شهدته أم ميار تلك الليلة في حفل الزفاف تنسيقًا دقيقًا للإمكانات الجماعية، وتهيئة الظروف التي يمكن فيها لغرفة مليئة بالأفراد المتباينين أن تصبح مؤقتًا شيئًا أكبر وأكثر سموًا من مجموع ذواتهم الفردية.
العمل الفني في عصر إمكانية إعادة إنتاجه سياسيًا
وعد الأستاذ صقر بكتابة مسحه الشامل للفنانين العرب وتوافقاتهم السياسية منذ ما يقارب عقدين من الزمن، وهو مشروع قائم بشكل رئيسي على شكل دفاتر صفراء مليئة بملاحظات حول مشاكسات زياد الرحباني الساخرة مع السياسة، واليسار التونسي، ورقص صباح فخري الأكثر تعقيدًا مع السلطة. تتكاثر الدفاتر في شقته الصغيرة، في حين تظل الكتابة الفعلية مؤجلة على الدوام، ضحية لما يسميه: “داء البحث الثوري الذي لا ينتهي.”

في ظهيرة يوم ثلاثاء وعبر سحابة دخان سجائر مقهى قصر يلدز، بدأ الأستاذ صقر بالتعبير عن بعض الأفكار التي تراكمت في تلك الدفاتر. “إفهام عليّ”، بدأ وهو يشعل سيجارته الثالثة منذ جلوسه، “لا يمكننا مناقشة قصة صباح فخري مع السياسة بالمعنى التقليدي. تتعلق قصته بشيء أكثر إثارة للاهتمام وأكثر إشكالية: كيف تتعلم الموهبة الفنية الأصيلة البقاء داخل أنظمة لا فائدة حقيقية منها.” هذا التمييز مهم للأستاذ صقر لأنه يسمح له بالحفاظ على احترامه العميق لفن فخري مع الاعتراف بالغموض لمسيرة مهنية امتدت لثلاثة وسبعين عامًا قضاها بالقرب من السلطة.
تبدأ القصة، كما يرويها صقر، بتلك الأغنية التي أُقيمت عام ١٩٤٨ في القصر الرئاسي أمام شكري القوتلي، وهي لحظة يصفها بأنها “الخطيئة الأصلية للاستمالة الجمالية”. أثار صوت المغني الشاب إعجاب مرافق الرئيس لدرجة أنه أمر فورًا بمنح فخري ١٠٠ ليرة سورية، بينما أوصى الرئيس نفسه مسؤولي القصر “برعايته وتثقيفه في مسيرته الفنية.”
يؤمن صقر بأن هذه لم تكن رعاية بالمعنى التقليدي، وإنما شيئًا أكثر شرًا: اللحظة التي أدركت فيها الدولة في صوت فخري ثروةً وطنيةً تتطلب رعايةً وضبطًا دقيقَين.
يُتابع صقر: “المشكلة أن فخري كان موهوبًا بحق، والموهبة الحقيقية تُشكّل مجال جاذبيتها الخاص. أدركت الدولة أنها لا تحتاج لتجنيده للاستفادة منه، حيث أن أكثر أشكال الاستقطاب الثقافي فعالية هي تلك التي تبدو وكأنها تحافظ على الاستقلال الفني بينما تُوَجِّهه في الواقع نحو غايات سياسية نافعة. بمعنى أن الدولة لا تحتاج أن يمدحها فخري (أو أي صاحب موهبة) علانية، لأن وجود الشخصية ذاتها، ووصولها العالمي هو ترويج لاسم الدولة وإطراء لتوفير بيئة خصبة للإبداع دون أن تبذل أي مجهود حقيقة.”
يُقدِّم الأصل السياسي لاسم فخري للأستاذ صقر الدليل الأبرز على هذه الفرضية. فعندما اختار فخري البارودي، الزعيم الوطني والسياسي والشاعر ومؤسس الكتلة الوطنية التي قاومت الاستعمار الفرنسي، تسمية المغني الشاب باسمه خلال بث إذاعي مباشر، كان يُؤدِّي ما يُسمِّيه صقر “تبنٍّ رمزيٍّ للمشروع الوطني”. لم يكن إصرار البارودي على بقاء فخري في سوريا بدلًا من السعي وراء فرص في مصر مجرد نصيحة مهنية، بل كان نوعًا من التجنيد الأيديولوجي، وسيلةً لضمان أن تخدم هذه الموهبة تحديدًا الجمهور السوري بدلًا من الجمهور الدولي.
يقول صقر، وهو يميل إلى الأمام بحماسة شخص قضى وقتًا طويلًا في التفكير في هذه الروابط: “هنا تكمن الأهمية. لأن البارودي لم يكن مخطئًا في رغبته في إبقاء فخري في سوريا. السؤال هو: هل على الموهبة الفنية أي التزام بخدمة المشاريع الوطنية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يحدث عندما تفسد هذه المشاريع الوطنية أو تتجه نحو الاستبداد؟”
تُمثل اللحظة التي رفع فيها فخري الأذان أمام جمال عبد الناصر خلال الوحدة السورية المصرية عام ١٩٥٨، بالنسبة للأستاذ صقر النموذج المثالي لتوجه صباح السياسي. لقد أُعجب صباح، كباقي الحلبيين وقتها، بجمال عبد الناصر، ويقال إن صباح وراء فكرة إنشاء جامع الكلاسة باسم عبد الناصر. حتى أنه راح يؤذن فيه. لكن هل غنى لعبد الناصر؟ لا؛ ومتى توقف عن الأذان في المسجد المسمى باسمه؟ يوم طُلب منه ببساطة إعلان وفاة أحد أعيان حلب على غير العادة، فرفض. كان للرجل خياراته السياسية الصحيحة والخاطئة ككلنا، لكنه لم يخلط فنه بالسياسة لمرة واحدة، وعلى عكس الكثير من معاصريه لم يغنِّ أي أغنية لأي سياسي، ومن أجل هذا فقط يجب أن نحترمه.
خاتمة
الصورة الأخيرة التي يشترك معجبو صباح فخري الحلبيون في تذكرها له هي حفلة القلعة عام ١٩٩٥ (أو ١٩٩٦ كما يجزم آخرون). يتذكر البعض بأن صباح فخري اختفى تقريبًا بعد تلك الحفلة الأسطورية فيما عدا خبر تنصيبه بوسام الاستحقاق. كل ما عرض له على شاشة التلفاز بعدها كان تكرارًا لأعماله السابقة. يتذكر آخرون أنه بعد حفلة القلعة ببضع سنوات ترشح صباح لمجلس الشعب تحت شعار: “لخمسين عامًا أعطيتكم صوتي. أعطوني صوتكم”. ثم انشغل بالسياسة وإدارة المعهد ونقابة الفنانين، لكن ليس الفن.
أقيم الحفل داخل مسرح القلعة التي تطل على الأزقة الضيقة حيث كبر فخري، وتعلم عند الكُتاب، وحضر جلسات الخوانم. يصفها الحاضرون بأنها أكثر من مجرد حفل، بل كانت بمثابة تواصل بين فنان وشعبه، تحيط بهم جدرانٌ صامدة منذ شهدت حلب ولادة التاريخ. صعد فخري الذي تجاوز الستين من عمره على خشبة المسرح، بنفس الإيماءات الواسعة التي ميّزت مسيرته الفنية.
ما جعل هذا الحفل مؤثرًا بشكل خاص هو رقص فخري. تحرك طوال الأمسية بحركاته الصوفية التي لطالما كانت ميزة في عروضه، ورقصة السماح التي ربطت جسده بإيقاعات صوته. رسمت قدماه أنماطًا على أحجار القلعة، وكان كيانه كله بمثابة وعاء للتراث الموسيقي الذي أمضى حياته في إتقانه.
تمايل معه الجمهور، المكتظ في الفناء العتيق، في تلك النشوة الجماعية التي تُعرّف الطرب في أصيل صوره؛ الأطفال الذين سمعوا صوته على راديوهات أجدادهم، والمهنيون في منتصف العمر الذين تذكروا أيام مجده، وكبار الحلبيين الذين شهدوا تحوله من صبي سوبرانو إلى مُغنٍّ بارع.
اختتم الحفل قرب الفجر، كعادته، مع تردد الجمهور في كسر السحر الذي خيم على القلعة؛ وبينما تردد صدى التصفيق على الجدران العتيقة، قلّما كان ليتخيل أنهم يشهدون نهاية حقبة، ليس فقط لفخري نفسه، بل لعلاقة خاصة بين الفنان والمدينة سرعان ما انقطعت بفعل قوى خارجة عن سيطرة أحد.
في الذاكرة الجماعية لحلب، يبقى صباح فخري مُعلقًا إلى الأبد في تلك الرقصة الأخيرة في القلعة؛ ذراعان ممدودتان، وصوتٌ مُرتفع، يتحرك برشاقة من اكتشف سرّ هندسة البقاء واختار مُشاركته من خلال الغناء. تتذكر الحجارة، وتتذكر المدينة؛ وفي المقاهي، لا يزال الناس يتحدثون عن تلك الليلة عندما ذكّر أستاذ القدود الحلبية جميع الحاضرين لماذا تتجاوز بعض الفنون مجرد الترفيه لتصبح شكلًا من القداسة.
كانت، كما قال الكثيرون لاحقًا، اللحظة التي رقصت فيها حلب مع نفسها قبل أن يتغير العالم إلى الأبد.
المراجع
- مقابلات مع ٩ أفراد من معجبيه وطلاب المعهد ومحبي الموسيقى الحلبية الذي شكلوا سويًا نواة الشخصيات المذكورة هنا.
- مقابلات صباح فخري على يوتيوب: مقابلة أغانينا – حوار تنقصه المجاملة – لقاء ساعة صفا – لقاء التلفزيون العربي الأمريكي – جودلية – لقاء سعدالله آغا القلعة – حوار مع هيام أبو شديد – لقاء نجوى ابراهيم.
- مقابلة مع ابنه أنس في حلب. كان السيد أنس كريمًا بوقته ومعلوماته التي لم يتسن لي استخدامها كلها هنا، لكن أعظم فائدة من اللقاء كانت الحب والتقدير الذي يكنه لوالده، والإحساس بشخصية الفنان الخاصة كما لم ينقلها غيره.
- الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين، الكتاب الرابع: كتاب آداب السماع والوجد.
- خياطة، حسن أحمد. موسوعة المواويل الحلبية، ٢٠٠٩.
- نصار، شذى. صباح فخري: سيرة وتراث.
- ولاية، جميل. حلب بيت النغم، ٢٠٠٨.
- Abu Shumays, Sami. “Maqam Analysis: A Primer.” Music Theory Spectrum, Vol. 35, No. 2, Fall 2013, pp. 235–255.
- Alia, Alaa, and Sasan Fatemi. “The Evolution of Mawwal and its Late History in the Syrian Vocal Nūbāt.” Journal of Fine Arts: Performing Arts and Music, Vol. 28, No. 2, Summer 2023, pp. 5–14. doi:10.22059/jfadram.2023.360131.615762.
- Antikha, Sindy, and Muhammad Hasyim. “Qadduka Al Mayyas: Unraveling Romance and Misinterpretation Through Sternberg’s Triangular Theory of Love.” Ranah Research: Journal of Multidisciplinary Research and Development, Vol. 7, No. 3. doi:10.38035/rrj.v7i3.
- Dima. “Sabah Fakhri: The Second Citadel of Aleppo and Arab Singing.” Fanack: Chronicle of the Middle East and North Africa.
- Dubois, Simon. “Streets songs from the Syrian protests.” Perspectivia.net.
- Iino, Lisa. “Inheriting the Ghammāz-oriented Tradition: D’Erlanger and Aleppine Maqām Practice Observed.” Ethnomusicology Forum, Vol. 18, No. 2, November 2009, pp. 261–280. doi:10.1080/17411910903141932.
- Kahel, Darin. “Tarab: a Phenomenon of Arab Musical Culture.” C-uppsats (C-essay/thesis), Uppsala universitet, Institutionen för musikvetenskap, 2021.
- Rachael Borek (Rachael Raqs). “Demystifying Muwashshahat!” Bellydance by Rachael, 19 August 2015.
- Sabah Fakhri. Arabic Music Library (Web Resource).
- Sabah Fakhri. Mawawil Sharkawi (Eastern Mawal), Syrian Cassette Archives, Ref No: 0378, 1970.
- Sabah Fakhri. Qasr Al-Motamarat (Au Palais Des Congress- Paris), Syrian Cassette Archives.
- Saad Ibrahim (Pseud.). “The Heretical Harmony of Sabah Fakhri.” New Lines Magazine, 11 November 2021.
- Shannon, Jonathan H. “al-Muwashshahat and al-Qudud al-Halabiyya: Two Genres in the Aleppine Wasla.” MESA Bulletin, Vol. 37, No. 1, 2003, pp. 82–101.
- Shannon, Jonathan H. “Emotion, Performance, and Temporality in Arab Music: Reflections on Tarab”, Cultural Anthropology, pp 76-79
