.
أغنية “في الشارع” ليسرا الهواري: ليس كل ما خرج على “الماينستريم” ذهباً
تتكلّم قصيدة أمينة جاهين– بنت الشاعر الراحل صلاح جاهين– “في الشارع“، عن الشارع الذي لا يلقي بالاً للعب والغناء ولا الشتيمة والضرب ولا القتل والنوم فقراً في العراء ولا بيع الشرف. فكل تلك الأشياء أصبحت عادية على سبيل التعوّد والاعتياد. لكن الفضحية، الشيء الخارق للمعتاد، تحدث إن نسي العاشقان مرة وقبّلا بعضهما في وسط الشارع.
جاءت القصيدة في بداية فيلم “الحريف” لـلمخرج محمد خان، وألقاها أحمد زكي بصوت رجوليّ عميق ورخيم. لاحظهنا نلاحظ أن كاتب الأغنية امرأة، والهمّ يخصها أيضاً، لكن الصوت الذكوري هنا هو من أخذ على عاتقه عرض هذا الهم الحسى العاطفي وبادر بإعلانه، خافياً في الخلفية الصوت الأنثوي، ليواجه هو عوار المجتمع ممثلاً في الشارع.
انتبهت يسرا الهواري هذه المفارقة بذكاء، وقامت بتلحين الأغنية وأدائها في كليب جديد بصوتها هي. وهو بالضبط الأمر الذي قامت عليه تجربتها: الصوت الأنثوي ممثِلاً همومه الاجتماعية والسياسية والعاطفية والحسية بنفسه. وهو ليس صوت امرأة شعبية في السوق تحتمي بشعبيتها، ولا سيدة مجتمع في نادي الروتاري تتحصّن بأجوائها العالية، ولا امرأة ناضجة تبث نجوى الحب لنفسها في غرفتها المغلقة. بل صوت شابة “كيوت” أقرب إلى جارتك بالباب المجاور أو إحدى صديقاتك.
تمثل يسرا بشكل ما الروح الشبابية الثورية الحاليّة: الجرأة والتحدي وكسر التابوهات وإثارة الجدل والسخرية من المستقرات. من ضمن التعليقات الأكثر تكراراً على تجربتها، أن لو كان مؤدي هذه الأغاني شاباً ما كانت قد حازت على كل هذا الاهتمام والانتشار.
التجربة نفسها تجعل هذا التمثيل غير الموسيقي هو بطل الحالة. بداية من أغنية “السور” حيث البطل فيها الكلمة والحالة الثورية التمردية، ومروراً بأغنية “الأتوبيس” الذي يخرج “خرا“.
أما المضمون الموسيقي نفسه، ظاهراً في أوضح صوره في أغنية “في الشارع” الأخيرة، فهو بلا بروز. مرة أخرى لا بطل للتجربة سوى الكلام الصادم والحالة التوليفيّة.
هنا تتّخذ الأغنية نموذج اللامطرب، حيث صوت المؤدي مجرد آلة من ضمن الآلات، لا البطل ولا المركز مرة أخرى. ومن دون وجود للـ“فرونت“، بل هو عنصر في التضافر النغمي والموسيقي لا يتقدم على العناصر الأخرى، دون خوض حقيقي في الإمكانات الموسيقية للتجربة التي تكون عادة مصدر المتعة والدهشة.
العزف– على الأكورديون– ليس بطلاً أيضاً، لا تمكُّن ولا تسيطر على الغناء أو العزف. هناك قتل مقصود لمفهوم التمثيل الطربي والغناء. لنصل إلى نتيجة أن التسميع هو الوصف الأقرب.
تصوير الأغنية بسيط ويساعد على خلق هذه الروح الخفيفة بتقاطعات تسجل أداء الأغنية في الاستوديو مع مشاهد من الشارع المصري. تنتهي ذروة الفيديو بمشهد لطفلة صغيرة ترقص وهي جالسة بجانب طفل، معبرة عن أنوثة صغيرة، ثم تتثاءب منهية الأغنية.
كان الهدف واضحاً منذ البداية: تقديم حالة مغايرة، مميزاتها الصدام والمباشرة وكسر تابوه صمت الصوت الأنثوي عن التعبير عن همومه الخاصة اليومية، والعامة السياسية والاجتماعية.
لكن للأسف، الروح الحلوة والتضاد المفارق بين “الفتاة الكيوت” والكلمات الصادمة الجريئة لا تصنع تجربة غنائيّة حقيقيّة متكاملة. فهما يثيران الانتباه والفضول في البداية، ثم ينطفئ اللمعان بعد ذلك على لا شيء: لا تجربة موسيقيّة للسماع والاستمتاع. فليس كل ما خرج عن “المينستريم” ذهباً.