.
اللطم، لغةً، هو ضربك الخدّ وصفحة الجسد ببسط اليد، وفي المحكم: بالكف مفتوحة، لطمه يلطمه لطمًا ولاطمه ملاطمة ولطامًا. والملطَمان: الخدان… والملاطِم الخدود، واحدها مَلطَم … واللَّطمُ: إيضاح الحُمرة، واللطم: الضرب على الوجه بباطن الراحة … ويحيل اللطم غالبًا في ذهن المتلقي إلى طقسٍ دينيّ متصل بالجماعة الشيعية. طقس تذكيريّ وإحيائي باستشهاد سبط النبيّ، الحسين بن علي وفاطمة عام واحد وستين للهجرة؛ وهو طقسٌ خيضت في طرائقه ومسلكياته وأنماط إحيائه نقاشاتٌ عديدة. على أنّ تلك الإحياءات السنوية الراهنة في غير بقعةٍ من العالم العربي والإسلامي تتيح بناء تصوراتٍ عن جنينيّة لطمية مبكرة في ندب السبط لم تلبث ان أمست قابلةً للتكيف في البيئات والثقافات المخصوصة عبر سنين طويلة. الحال أنّ ما يشغلنا في هذا النص هو راهن المادة اللطمية العاشورائية عند الرواديد لناحية تقنياتها ومغزاها التفاعليّ، وتماساتها في البيئة المخصوصة وفي سواها من البيئات والمنابت التي تتيح تراكمَه، فضلًا عن معنى استمراريتها وانفلاشها، على غير نحو، في مزاج الجماعة من خلال المسيرات والحلقات وسوى ذلك من أشكال الإحياء.
اللطمية هي نصٌّ طقوسيّ يُنطق بالمحكية أو بالفصحى على أنه شعيرةٌ دينية لجماعةٍ مخصوصة. إذًا، فإن اللطمية تستولد مزاجاتها اللحنية، ابتداءً، من مجمل التمثّلات المتصّلة بهويّة الجماعة وتاليًا من أداءٍ جمعيّ يحيل إلى حنينٍ مؤلم ومكرَّر بالذكرى، وقابلٍ مرارًا وتكرارًا لأن يكون مستَثمرًا في شتى تمثلاته وعبر مختلف أزمنة إحيائه. بهذا المعنى، تشترط نجاعةُ اللطميةّ دقّةً في رسم الأداء وفي وشم هذا الأداء على وجوه اللطّيمة من خلال نسَقيّةٍ تصاعديةٍ بسيطة مكرّرة تصّاعد عبرها الأكفُّ في الهواء منهمرة على صدر الواحد؛ وهو تصاعدٌ يحاكي شكلًا من أشكال انتشال الألم من أمكنته السحيقة في التاريخ أو في الذات ونشره، مجازًا، على ملَأٍ من النّاس. إنّها حركة لا تقتصر على كونها تعبيرًا عن حزنٍ مثاليّ ذاتيّ بل تساهم، عبر نحته، متشعّبةً في الزمان والوقت في إنشاء هويّة تحزينيّة وإحيائية هي في العمق إعلانٌ خطابيٌ مهيمِنٌ بالموسيقى.
يكون النسقُ الترديديّ الصارم للازمة قوليّة جوهرَ الأداء في اللطمية، عادةً. هنا، تأتي الخامة الصوتية الغائرة مكمّلةً للمنجَز الجماعيّ. نتحدّث عن فعالية تعيد إنطاق ميراثٍ ضخم من الشهادات والإيثارات والتحزينات والوقائع الحيّة على ما هي عليه، ونحتها في ذهن المريد اللطّيم. هذا الميراث هو المنبع التحفيزيّ الأوّل شعوريًا للحالة شكلًا ومضمونًا. إنه تصوّرٌ تراكميّ ساهمت المناسبات الترديدية اللطمية عبر قرونٍ طويلة وفي شتى الأشكال ومن مستوى بدائي في التحزين وفي استثماراتٍ جماعيّة لهذا الحزن. نقول ساهمت في توصيله إلى ما هو عليه راهنًا وفي جعله قابلًا لأن يحاكي بقدرٍ أنماطًا فنية ونصّيّة مخصوصة، فينهل منها وتنهل منه (الراب العربي مثالًا) وأن يكون مستدخَلًا في أسواقها اللحنية من داخل سوق الجماعة غالبًا ومن خارجها.
تكتمل الصورة أكثر عبر قراءات تتكئ على عينات من نصوص الرواديد الشائعي الذكر. في هذا الحيز، يرقى إلى ذهن السامع بداهةً اسمان: الأوّل لعراقي هو باسم الكربلائيّ (مواليد ١٩٦٧) ولبحرانيّ هو حسين الأكرف. الأخير صاحب لطمية الاسم الأعظم الواردة أدناه شرحًا وتفصيلًا.
الأكرف (مواليد ١٩٧٢) من الدرّاز إحدى قرى البحرين الساحلية. درس ابتداءً في البحرين ثم سافر إلى العراق لاستكمال الدراسة الدينية في النجف سنة ١٩٨٩. عاد إلى البحرين إثر حرب الخليج الثانية ثم ما لبث أن سافر إلى قم مدينة في إيران فيها مزار فاطمة المعصومة سنة ١٩٩١ لاستكمال الدراسة الدينية ومن ثمّ رجع إلى البحرين سنة ١٩٩٥. اعتقل مدة أربع سنوات لمشاركته في المظاهرات. له العديد من الإصدارات اللطمية، والاسم الأعظم (٢٠٠٥) من أشهر هذه الإصدارات.
الاسم الأعظم مطوّلة رثائية تبجيليّة مدحية في حق صهر النبي وزوج ابنته علي بن أبي طالب أبي الحسنين، وهي تنحو، غالبًا، عبر متنها النصيّ إلى “الغلوّ“؛ على أنه الغلو الساحر الجذاب الذي يمتلئ في نفوس المريدين إذ يُستدخل في أفق النسق الترديدي، أفقٌ تنعدم فيه المسافة بين مقام الربوبية ومقام الإمامة بحيث يكون فيه الإمام القطب هو المتصرف عبر “الاسم الاعظم” بالأشياء والمخلوقات وتاليًا متصرّفًا في الأزمنة وفي نفوس الذائبين المحبّين.
وتعالى نعش حيدر / جبرائيليا وأطهر / فوق أزمانه يسعى / وعليها تتقهقر
هنا، يصير اللطم انخطافًا في الطقس وتنتفي النقلة الوقتية الخاطفة الريتيمية بين اللازمة الترديدة وأختها. نتحدث عن استحضار شعوريّ لحظي مكثّف لكل ما يمتّ بصلة لهذا الميراث الشعوري الذي تكون صفته الأساسية الانزراع باللطم في النفوس المتحلّقة وتفتيحَ مجالاتها وتصوّراتها الدينية على حقيقة واحدة مفردة، حقيقة الاسم الاعظم المتحّكم في مصائرها ومشاعرها. اللطم في مستوى من المستويات له بعد خلاصي عكسيّ وخارقٌ بمعنى انطوائه بالحالة الشعورية على تطهير هو الوعد القادم، مرارًا وتكرارًا، من المستقبل بنيل الرضى بحبّ الإمام من الإمام ذاته.
عمومًا، تُسعف النبرة العربية المحكية (بحرانيّة \ عراقية غالبًا) اللطميات لناحية طرائق نطقها وتخريجاتها اللفظية. إنها المحكية المشبعة بالمدّ المرقّق الذي يناسب إلى حدود قصوى مغزى النواح بين كونه تحزينًا واستذكارًا من جهة وكونه تأبيدًا لواقع الاشتياق إلى تلك الشخوص التي تجسد مطلق هوية الفرد أو المريد؛ اشتياقٌ يقيم في معجم تلك المطوّلات التي تستغرق ساعات من اللطم أحيانًا ومن تكرار المواجع على الملأ، كأنها، في وجه من الوجوه، هي محكية للاستغراق، محكية منحوتة ببطء عبر تاريخ مديد من التأويلات الشعورية للحالة الوجدانية التي تتصل بالوقائع الكارثية المؤسِّسة. اللطمية عزاءٌ مضاعف أو هي، في شكلٍ من الأشكال، السردية العلوية أو الحسينية أو الفاطمية وقد بلغت حدّ الذروة شعوريًا فصارت ترديدًا لمقام اللطم المألوف، ترديد لا يكترث إلا إلى الاستغراق لساعاتٍ وساعات بتكرار الضرب على الصدر وكأنّ الضرب هو التجسيد الايقاعيّ لأنماط المدّ والتمييع الكلامي المرقّق.
يا نبض ليلي ونهاري / من صغر سني ارتويتا / يا علي حبك توأم انفاسي / يا ملك شوقي وسيد إحساسي / وعلى موتي يا كل هلي وناسي / ما يشيلونك من على راسي
أسولفلك يا محبوبي / عن اللي شفتا في قلبي / من أول ساعة في الدنيا على عيني انكتب حبك / اجيت مشمع باسمك / لقيتك في المهد قربي
لا تستقيم جودةُ اللطميات عمومًا إلا في استثمارها للشخوص الأعلام في ذاكرة الجماعة على نحوٍ بالغ الإثارة، أي على نحوٍ يقيم الفرد في ذروة شعورية تتخلّل سرديات الجماعة الكبرى. هنا، لا تقتصر اللطمية على كونها طقسًا دينيًا رتيبًا يصِل الفردَ تعبّديًا، بعقائده، بل تُجاوز ذلك لتصير شكلًا من أشكال تشييد المزاج الشعوري للجماعة وذائقتها عبر حشود اللّطيمة الذين يردّدون نصّا بعينه. تجذب اللطميةُ في هذه الحال، وربما من خارج المألوف المكرّس للجماعة كلها، سرديات وحكائيات تناسب تلك الإيقاعات بمعزل عن معقولية مضامينها، بل إنّ لا معقوليتها قد تساهم إلى حدود بعيدة في تثمير ما يراد للحلقة أو الجماعة أن تحتفيَ به. مثلًا، عليُ بن أبي طالب في الاسم الأعظم في متن لطمية الأكرف، هو عليّ خطبة البيان المشكوك أصلًا في نسبتها إليه والتي تفيض جمالًا وفتنة و غلوًّا.
من غير الممكن تصوّر تاريخ للجماعة الشيعة، الاثني عشرية تحديدًا، بمعزلٍ عن مثل هذه الطقسيّات. لم تنقك تلك الإضافات الفنية الشعائرية عن كونها سمة تَمايز بها هذا المذهب؛ وهي بذلك إضافات جوهرية قد صارت في أزمةٍ متأخرة ركنًا مؤسِّسًا في مزاج مريدي هذا المذهب، وحصنًا إيمانيًا لا يكتمل إيمان واحدهم فيه إلا بانتسابه إلى تلك الحضرات الشعائرية. بهذا المعنى، تبقى هذه الأنماط شكلانيًا أو متنيًا مجالًا خصبًا للاستثمار السياسيّ والاجتماعي، بمعنى أنها خطابٌ ضمنيُّ ترجيحيّ من داخل الجماعة لتيارات على حساب أخرى، أو خطاب لشدّ عصب الجماعة في تماساتها مع جماعاتٍ مغايرة؛ فضلًا عن كونها، مثلما ورد أعلاه، أرضًا خصبة للغلوّ النصي في التعبير وفي ترجيح سردياتٍ دينية \ مذهبيّة على حساب أخرى.