.
يبدو الحديث عن موسيقى بديلة في مصر كالحديث عن سفينة رفض طاقمها الإبحار مع التيّار، واختاروا شق قنوات جديدة للإبحار من خلالها، كمحاولة للتغلّب على ما أصاب التيّار السائد من ركود . ليصير الأمر، كما لو أن تعبير “تعيش مصر حرّة مستقلّة” الذي تردّد كثيراً في العقود الأولى للقرن الماضي، قد تطوّر أخيراً ليشمل الموسيقى أيضاً.
ففي سبعينيّات القرن الماضي، وكمواكبة لنزعة الاستقلال التي انتابت أبناء هذا الجيل، والمتمثلة في تبنّي تيّارات فكرية مستقلّة عن التيّار الحاكم، تبنّت عدة فرق غنائية مثل “المصريين“، “فور إم“، و“فرقة الجيتس” مهمّة تقديم لون غنائي مستقلّ في المحتوى والمضمون، ومختلف فنيّاً عن اللون المتعارف عليه. كمحاولة أولى للتنويع وتطوير القالب الفنّي وكسر جموده.
وفي مطلع الألفيّة الجديدة، تطوّرت معالم التجربة واتضحت أبعادها، لتصبح الموسيقى البديلة أكثر من مجرد قناة جانبية للعبور، وتتحوّل لتيار مستقل بذاته يشهد اتجاهات غنائيّة متعددة، وكل اتجاه يتبنّى فكر موسيقي مستقل بذاته: إما إعادة إحياء للتراث، أو تطوير في الموسيقى والدمج بين الشرقي والغربي.
كأكثر الفرق الغنائية إثارة للجدل، يأتي فريق كايروكّي ليحتلّ المرتبة الأولى. إذ تحوّل الفريق الذي لمع نجمه عقب الثورة المصريّة في 2011 بأغنيتيّ “صوت الحريّة” و“مطلوب زعيم“، وقام بتعريف نفسه كفريق روك مستقل، في خلال سنوات قليلة ليتخذ قالباً تجاريّاً من حيث آليّات الإنتاج والتمويل المادي. ورغم ذلك، لا يمكن التصريح بفشلهم جماهيريّاً، بل أنّهم من أنجح الفرق الغنائيّة وصولاً للشارع. كما لا يمكن أيضاً الجزم بخروجهم بشكل صريح عن عباءة التيّار المستقل، طالما أن الفريق لم يزل ملتزماً بالقالب الفني المندرج تحت فئة الموسيقى المستقلّة.
يقدّم الفريق في الاسطوانة الأخيرة لكايروكي “السكّة شمال“، والتي يفصح عنوانها أكثر ممّا يبطن، يقدّم الفريق ثلاثة عشر أغنية متنوّعة من حيث النبرة الغنائية والحِسّ الموسيقي والإتجاه كمحاولة للتنويع ومخاطبة فئات مختلفة – كالتعاون مع سعاد ماسي في أغنية، ومع عبد الباسط حمودة بأغنية أخرى – وتقديم تنويعات متعددة في الاتّجاه الموسيقي، مع الحفاظ على الروك كخط أساسي لجميع الأغاني. الأمر الذي كان ليُحسَب للفريق فقط لو لم يكن قد أضر بالعمل أكثر من إفادته.
إذ أتى العمل مفككاً، لا تجمعه وحدة فنيّة محددة، كما لا يمكن التكهّن بالاتجاه الذي يعتزم سلوكه. علاوة على ذلك، خلقت فالتنويعات المتعددة في الطاقة المحرّكة لكل أغنية حالة من التباين، أدت بالتالي لفجوات كبيرة بين الأغنيات من حيث المستوى.
للوهلة الأولى، سيهيّأ للمستمع من القراءة المبدئية أن الاسطوانة محاولة لربط التيار الموسيقي المستقلّ بالشارع وتقليص الفجوات بين الاتجاهين. كالاستعانة بمشاركة عبد الباسط حمّودة في إحدى الأغنيات كمثال. الأمر الذي كان ليُعدّ صحيحاً لو لم تكن المحاولات كلها قد أفضت إلى حالة من التماهي لدرجة الذوبان في ضوضاء الشارع. من المفهوم اختيار الكلمات المُبّسط لمخاطبة الذائقة الشعبيّة، خاصةً وأن النجاح التجاري والجماهيري للفريق أتاح لهم الوصول للفئات البسيطة عن طريق إعلانات دعائيّة لشركات كُبرى. ولكن المُباشرة المفرِطة في الكلمات أدّت في النهاية إلى ركاكة أقرب للسذاجة، وعلى قدر من السطحيّة، ما قد يؤدي مع الوقت لتحوّل الفريق من نغمة مستقلّة بذاتها لنشاز آخر أحادي اللون، ومن محاولة لعكس ضوضاء الشارع إلى جزء أصيل منتمٍ لها.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1448″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
المثير للاستهجان في الاسطوانة هو نبرة التمرّد الموجّهة، وبالتحديد آليّة توظيف التمرّد. فمن المعروف عن موسيقى الرّوك بشكل عام أنها موسيقى التمرّد والخروج عن القواعد. لذلك، من الغريب أن يحمل العمل نبرة مهذبّة للتمرد والخروج عن القواعد. فعلى سبيل المثال، تأتي أغنية “أنا مش قادر” لتحمل في مطلعها صيغة اعتراض على أنظمة التعليم في مصر، لتأتي الكلمات ركيكة وجوفاء بشكل صريح. يزداد الوضع سوءاً عندما تتتبادر إلى ذهنك مقارنة ليست في محلّها مع أغنية “بينك فلويد“ الأيقونيّة Another Brick in the Wall، والتي تناقش الموضوع ذاته. هنا تنكشف محاولة “كايروكي” بصناعة أغنية أصيلة من خلال توظيف نبرة التمرّد.
ربما تكمن المشكلة في اختيار الفريق للكلمات، فالأمر غير متعلّق بمحدوديّة اللغة، والدليل على ذلك، وجود فرق غنائيّة عربيّة تحمل نفس الطابع المتمّرد، بنبرة صريحة بعيدة عن التهذيب. مما يحوّل “كايروكّي” إلى تلميذ نجيب يستخدم موسيقى المشاغبين للاعتراض على إلغاء الامتحان.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1451″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
الأمر الأخير، والأكثر إثارة للاستهجان بين كل ما سبق، هو حرص الفريق في العمل – وبشكل عام كتجربة غنائيّة– على تقديم ما يعرف اصطلاحاً بالفن الهادف الذي يحرص على توصيل رسالة سامية. ما يعكس تناقضاً كبيراً لدى “كايروكّي” كمشروع فنّي: فالغناء منذ الأزل انتشر كثقافة شعبية للاعتراض، ولطالما كانت الرسالات النبيلة أهداف نخبويّة بعيدة كل البُعد عن الشّارع. بالتالي، القاعدة الذهبيّة واضحة، فإن كنت قد انتويت مخاطبة الشارع – وهو ما يدّعيه العمل– فتحدّث بلغته، أو على الأقل، لا تحاول تهذيبه.
في النهاية، وعلى الرغم أن “السكّة شمال” لم يُضف للفريق أي جديد، لا يمكن الإنكار أنّه من أكثر الفرق الغنائيّة إثارة للاهتمام في مصر. لكن النجاح الفنّي مرتبط بنسبة كبيرة بالمشروعات القادمة للفريق من جهة، وبالفرق المنافسة من جهة أخرى. فهل سيستمر نجاح كايروكّي الجماهيري، أم سيظهر فريق غنائي آخر على الساحة ليصل لعقلية الشارع، لا قلبه، ويسحب البساط من تحت كايروكّي؟ وهل سينتهي الفريق بنهاية دورة حياته، أم سينبعث مرات عديدة في قوالب غنائيّة مختلفة. والأهم، هل سينجح الفريق في موازنة المعادلة الصعبة وإرضاء الشارع والتيار المستقل؟ أم سيواصل التماهي إلى أن يفقد هويّته. لا توجد قواعد يمكن الجزم استناداً إليها، كل تجربة ولها ملابسات وظروف مختلفة، وحدها التجربة ستوضح أبعادها.