.
تعود أسطورة كليبس بعد عقد ونصف من التوقف، وهي فترة شهدت تغيرات كبيرة على أعضاء الفريق، الأخوين بوشا تي وماليس، وعلى مشهد الهيب هوب الأمريكي بشكل عام.
توقفت ثنائية كليبس في ٢٠١٠ بعد ألبومهم تيل ذا كاسكيت دروبس، لينطلق كل من بوشا تي وماليس في طريق مختلف. أصبح بوشا تي من أقرب المحيطين بيي (كانيه ويست سابقًا)، مساهمًا في العديد من ألبوماته منذ ذلك الحين، بالإضافة إلى عمله كرئيس لشركة التسجيل الخاصة بيي (G.O.O.D. Music). في الوقت نفسه أصدر بوشا تي أربعة ألبومات حقق بعضها نجاحًا نسبيًا على الصعيد التجاري وقوبلت بإشادة نقدية كبيرة، أبرزها ألبوم دايتونا من إنتاج يي الصادر عام ٢٠١٨. كما رسّخ اسمه كأحد الرابرز الذين لا يُستهان بهم، من خلال ديسات أسطورية مثل إكسودس وذا ستوري أوف أديدون. أما ماليس فاتجه نحو موسيقى الجوسبل راب، واختفى عن الساحة في مسار مختلف تمامًا عن شقيقه.
حملت عودة كليبس مع ألبوم ليت جاد سورت ايم آوت في طياتها عناصر من حقبة سابقة في ثقافة الهيب هوب، حيث جاءت الحملة الترويجية للألبوم بمنهجية كلاسيكية. أعلن كليبس عن الألبوم عبر إصدار أغانٍ منفردة، تبعتها لقاءات صحفية ومقابلات. بالإضافة إلى ذلك احتل بوشا تي السوشال ميديا بإثارته للجدل من خلال مهاجمة كل من صديقه السابق يي وترافيس سكوت، مستغلًا ذلك الجدل في الترويج للألبوم ومنحه دفعة تسويقية من نوع آخر.
الألبوم من إنتاج فاريل بالكامل، المنتج الذي كان له دور محوري في تقديمهم للجمهور في بداياتهم. يأتي التعاون مع فاريل بشكل حصري كخطوة ذكية، إذ يعرف فاريل كليبس جيدًا، وهذا ما يتجلى في الإنتاج الموسيقي للألبوم، حيث ينسج بيتات فخمة في تركيبتها وإحساسها، تعمل كمنصة لبوشا تي وماليس لاستعراض كلماتهم حول مواضيع متعددة، من بينها المال، المخدرات، صناعة الموسيقى، والعائلة. رغم أن هذه المواضيع قد تبدو مستهلكة أو متوقعة، يعرف الأخوان كيف يقدمانها بأساليب مبتكرة.
موسيقى كليبس بعيدة عن أن تكون قابلة للتعاطف أو قريبة من المستمع، مع ذلك تنجح في جذب الانتباه بفضل بلاغة الكلمات وقوة الأداء التقني. يتفوق بوشا تي بالتحديد في خلق مسافة بينه وبين المستمع، حيث يصف نمط الحياة الفارهة بأساليب غير تقليدية وملفتة. على سبيل المثال في تراك “E.B.I.T.D.A” يقول: “أنا أعادل عشرة أضعاف الـEBITDA”، وهو مصطلح مالي بحت يشير إلى الأرباح قبل احتساب الفوائد والضرائب والاستهلاك والإطفاء. تتكرر مثل هذه الإشارات في الألبوم في سياقات متعددة، سواء عند الحديث عن ماضي الثنائي الشهير في تجارة المخدرات، أو عن مستوى الثراء الذي وصلا إليه، أو عن المكانة التي يعتقدان أنهما بلغاها في محيط الهيب هوب.
يظهر تباين واضح بين بوشا تي وماليس من حيث الشخصية والتوجهات، فبينما يغلب على أداء بوشا تي الطابع الاستعراضي والتبجح، يقدم ماليس تأملات من نوع آخر في السياقات ذاتها، لكنها تنبع من منظور إنساني وديني، وأحيانًا يتطرّق إلى مواضيع أعمق مثل علاقته بالله وماضيه. يضفي هذا التباين على الألبوم طبقة إضافية تكسر حدّة بوشا تي وتوازن الأداء العام.
الاختيارات الموسيقية لألبوم كهذا حساسة. فبعد مرور ١٥ عامًا تغير خلالها مشهد الهيب هوب جذريًا، لم يعد بالإمكان إعادة إنتاج نفس العناصر الموسيقية السابقة، وفي الوقت ذاته لا يمكن الانغماس الكامل في صوت معاصر قد يخاطر بهوية كليبس. ينجح فاريل هنا في تحقيق معادلة دقيقة بين الاثنين، فلا يعيد تدوير العناصر التي صنعت صوت كليبس، لكنه يستمد جوهرها، خصوصًا الإيقاعات والبيتات التقليلية ذات الإحساس الضخم. يتجلى هذا بوضوح في تراكات مثل سو فار أهيد، حيث يمزج فاريل تلك العناصر بأسلوب إنتاج حديث، مستخدمًا تقنيات معاصرة وخيارات انتقائية تنصهر بسلاسة، لتنتج تجربة استماع طازجة ومتجددة.
لا نشعر في الألبوم بغياب تشاد هوجو، العضو الآخر في نيبتونز، وشريك فاريل في إنتاج ألبومات كليبس السابقة؛ إذ يعتمد فاريل على الخلطة المعروفة لنيبتونز لتقديم بيتات كلاسيكية الجوهر، لكن بطابع حديث لا يشوبه التكرار الذي يطغى على مشهد الهيب هوب المعاصر.
توظَّف الفيرسات في الألبوم بدقة، سواء في مشاركة كندريك لامار في تشينز آند ويبس، حيث يقدّم فيرسًا شديد التعقيد على مستوى البنية والقوافي المتشابكة، أو ناز في التراك المعنون باسم الألبوم، أو تايلر ذا كريتور، الذي ربما يقدّم أفضل فيرس ضيفي في مسيرته على تراك بي أو في، أو ستوف جود كوكس، أحد أهم رموز الكوك رابcoke rap: تعد كليبس من أكثر الفرق تأثيرًا في الكوك راب، وهي جنرا فرعية للراب تركز بشكل كبير حول سياقات تجارة المخدرات والكوكايين بالتحديد. حاليًا، في تراك فيكو F.I.C.O. كذلك الأمر على مستوى التعاونات الغنائية من خلال ذا دريم وجون ليجند في تراكات ذا بيردز دونت سينج وأول ثينجز كونسيدرد.
يضبط فاريل استخدام السامبلز دون إفراط، ومن أبرزها سامبل لطلال مداح ومحمد عبد الوهاب من أغنية ماذا أقول، الذي يستخدمه كركيزة أساسية للبيت. يكثّف فاريل حضور السامبل حد أن تطغى على الفوكالز وتعطي للبيت إحساسًا بالضخامة، بينما تعزز البارات الاستعراضية لبوشا تي وماليس. كما تظهر عينات أخرى متفرقة من دي جاي كلو، إلى جانب جملة “This is culturally inappropriate” (هذا غير لائق ثقافيًا)، التي تستمر عبر معظم تراكات الألبوم في نقد صريح من الثلاثي لما يحدث في مشهد الهيب هوب المعاصر.
يأتي ألبوم ليت جاد سورت ايم آوت كتمرد واعٍ على موجة صناعة المحتوى وفقدان الهوية التي سيطرت على مشهد الراب مؤخرًا. فهو يمثل عودة إلى جذور الهيب هوب، وتمسك بالعناصر الثقافية التي تشكل جوهر الراب من خلال التركيز على الكتابة والسرد والأسلوب والأداء التقني، ويقدم مادة هيب هوب دسمة لا تحاول إرضاء المستمع عن طريق مقابلته في المنتصف، بل تتحداه للجلوس والتركيز في تجربة التلقي.