fbpx .

لحظة الطرب

فادي العبد الله ۲۰۱۹/۰۸/۱٦

يعتمد هذا النص، دون أن يتبعها كلمة فكلمة، على المحاضرة التي ألقيت في دار النمر في بيروت، في ٧ شباط / فبراير ٢٠١٩، والموجودة صوتًا وصورة أدناه.

إذا ما ميزنا الطرب كانفعال عن النمط الموسيقي الذي قد نسميه موسيقى الطرب، أي الموسيقى المهجوسة بإحداث الطرب، سيظهر أن لكل امرئ طربه الخاص. ذلك أن الطرب كانفعال مرتبط بردود الفعل الذاتية على الموسيقى. رغم ذلك هل من الممكن أن نرى قواسم مشتركة في اللحظات التي تستثير الطرب في موسيقانا وما يجري فيها في نفوسنا؟ ربما علينا أولًا أن نميّز بين الطرب وبين انفعالات أخرى تحدث تفاعلًا مع الموسيقى.

يتمظهر الطرب، كما يظهر من ردود فعل السامعين، في الشتائم، أو في الضحك، أو في هز الرأس والتمايل، أو الدق على الطاولات أو الأرض، أو غالبًا في التهليل وقول: “الله”. الطرب إذًا أقرب ما يكون إلى انفجار قصير يطفح إلى سطح الحواس، بعد فترة من التركيز على المسموع، ولا ينحصر في هز الجسم مع الايقاع ولا في التحليل العقلي أو الذاكرة.

لذا في ظني إن الطرب مختلف عن الانبساط والراحة، والموسيقى الهادئة في الخلفية التي لا تتطلب تركيز المستمع وتفاعله. كما أنه مختلف عن الرغبة بالرقص، وعن الخدر والترانس أو الجذب، سواء كان مصدره الزار او الهيفي ميتال. حيث أن هذه كلها مرتبطة بالتكرار الإيقاعي، القوي غالبًا، وأثره البيولوجي على الجسد، وليست مرتبطة حقيقة الأمر بالميلودي الموسيقية، لا سيما التي تتضمن تلاعبًا إيقاعيًا وكسرًا لتكراره.

هو أيضًا ليس انبهارًا بتقنية العازف والسرعة في العزف أو المهارة الخالصة، حيث يظل هذا الانبهار على مستوى بصري غالبًا أو عقليّ محدد، ولا ينطلق منه ليشمل ما نعرفه عن الطرب من خروج المرء عن طوره ووقاره. كما أنه، لنفس السبب، ليس إعجابًا وتقديرًا جماليًا مفكَّرًا فيه نجري له تقييمًا ذوقيًا متأنيًا.

أخيرًا، لا علاقة للطرب بالتماهي الشعوري مع المغني أو المغنية أو كلام الأغنية، وشعورنا بأنه ينطق بما في قلوبنا، بما يُخرجه تمامًا عن التفاعل مع الموسيقى في ذاتها ويصبح انسجامًا مع الكلام أو مع صورة النجم؛ مثلما أن لا علاقة له بمشاعرنا الخاصة التي تستعيد الذكريات الخاصة والحميمة التي صاحبتها مثل هذه الموسيقى في ماضي الزمان، كلقاء أو انفصال أو ذكرى حب، وهو أيضًا ما يخرجه عن التفاعل مع الموسيقى في ذاتها ليصبح حنينًا أو حسرة أو استرجاعًا للماضي.

قد تسعفنا اللغة، بوصفها خزانًا للتجارب الإنسانية ولما التقطه السابقون من جوانبها وحاولوا وصفه عبر طبقات من المعاني تراكمت عبر الزمن، في الاقتراب من وصف الطرب. في لسان العرب، يرتبط الطرب بالصوت طبعًا فهو ترجيع الصوت وتزيينه، ومده وتحسينه، غير أنه يرتبط أيضًا بالخفة إذ قيل: “الطَّرَبُ خفة تَعْتَري المرء عند شدَّة الفَرَح أَو الحُزن والهمّ.” أشيرَ أيضًا إلى أنه خفة الإبل في السير إذا توجهت نحو أوطانها (ربما كان خفة المؤدي ورغبة المستمع أيضًا بأن يتخفف). غير أن الطرب ممكن أيضاً بالنظر (كطرب الدواب إذ ترى البرق فتستبشر بالمطر) أو الشم حيث الأطراب هي الرياحين.

لكنه لا يقتصر على ذلك. هو أيضًا في بعض الأقوال الفرح او الحزن في ذاتهما، وذكر الشدياق أنه من الأضداد، وقال ثعلب: “الطَّرَبُ عندي هو الحركة.” في لسان العرب أيضًا إنه الشوق، والثَمَل أي السكْر. أما إذا رجعنا إلى المعاني الحسية المباشرة التي قد تكون أقرب إلى الأصل زمنًا، فنرى أن المَطْرَبُ والمَطْرَبةُ: الطريق الضيق، او قيل الطريق الواضح ولعله على الوجه الأصح  طُرُقٌ صِغار تَنْفُذُ إِلى الطرقِ الكبار. كذلك يقال: طَرَّبْتُ عن الطريق: عدَلْتُ عنه، مثلما كان اللحن في الأصل العدول عن صحة الكلام وقواعد اللغة.

في قول عبد الله العلايلي في أبحاثه عن معاني الحروف في مقدمة لدرس لغة العرب، وفي حواره مع أحمد بيضون في كتاب كلمن، تدل الطاء على الالتواء والانكسار، والراء على الانتشار والتكرار، والباء على بلوغ المعنى بشكل تام. يكون الطرب إذًا انتشارًا تامًا بالغًا للالتواء، او تكرار الانكسار. يتحصل من ذلك، في تقديري، أن الطرب أساسًا هو الانتشار والالتواء المفضي إلى مكان أوضح وأوسع، بما ينشر الراحة والخفة ويتسبب في الحركة، من ثم أصبح هو في نفسه الشعور بالخفة حتى لو تسبب بها الحزن أو الشوق أو الخمر. أما الصوت فهو الذي ينتشر ويلتوي ويخاتلنا حتى يصل بنا من طرق صغار إلى طرق كبار بعد أن يطرب عن الطريق، أي يعدل عنه، ثم يرجع مزينًا وممدودًا ومحسنًا فيحدث فينا هزة الطرب. الطرب إذًا مخاتلة الحاصل للمتوقع من سياق الماضي، انفراج بعد عسر أو تغيير بعد إقامة، أو مفاجأة تشبه الضحك وتنشر تأثيرًا مشابهًا له (وربما كما الضحك يكون الطرب جماعةً أسهل) وحركة تطفو إلى سطح الحواس. ما يشدد على هذه الحركة الظاهرة قول السُّكَّريّ الذي ينقله ابن منظور: “طَرَّبوا صاحُوا ساعةً بعد ساعةٍ.” تحمينا هذه الحركة والخفة حتى من طغيان الفرح أو الحزن في ذاتهما وتنقلنا إلى الراحة بعد التوتر.

هذه المخاتلة غالبًا على علاقة بالارتجال، حيث يفاجئ المؤدي حتى نفسه. على ما يروى عن أم كلثوم مثلًا أنها في أحيانٍ كثيرة تكون غير مصدقة لما أدته عندما تسمع تسجيلاتها بعد الحفلة. في كل الأحوال الطرب على علاقة بخيارات الأداء التي تسمح بإنتاج الحاصل الصوتي النهائي، بما يتضمن مفاجأة تخالف المتوقع الذي سمح به السياق المبني من قبل. يمكن الحصول على ذلك بأساليب مختلفة، لذا فإن أدوات الطرب وتقنياته كثيرة، خاصة في موسيقانا الطربية التي تتخذ من إثارة الطرب هدفًا أساسيًا لها، ويمكن لهذه الأدوات أن تتراكب بعضها فوق بعض، شرط أن يكون المستمع متنبهًا إلى الموسيقى. نعدد بعضًا من أبرز تلك الأدوات في ما يلي:

  • اللعب بخامة الصوت وتغييرها (تبسُّم أم كلثوم أو بحتها، أو رقة صوت الشيخ صلاح الدين كبارة او حسن الحفار حينما يشاءان) أو بالناتج من صوت الآلة (كما يفعل حازم شاهين أو مصطفى سعيد أحيانًا).
  • الزخرفة ضمن الجملة الأصلية في مجال ضيق (مثال تحليل عمار الشريعي لجملة “الموجة تجري ورا الموجة” التي تؤديها أم كلثوم في فاكر لما كنت جنبي)، أو ارتجال جملة جديدة (مثل نور الهدى على يا جارة الوادي أو بكري الكردي) خصوصًا في مساحة ضيقة وضمن إيقاع معقد (القصبجي مثلًا أو حسن الحفار)، وأحيانا مفاجاة العودة إلى المألوف بعد الارتحال في الارتجال (في ارتجال أم كلثوم في حفلة المغرب).
  • الانتقال من مقام إلى آخر (كانتقال عبده داغر غير المتوقع أثناء التقسيم من الحجاز إلى الصبا).
  • أحيانًا التغييرات الصغيرة جدًا، الميكروتونالية، التي تغير صوت النوتة نفسها (كخفض اللا والسي بيمول مثلًا في جملة هابطة في مقام الراست كما في تقسيم ممدوح الجبالي)، أو تركيب الجملة لإشباع المقام وإبراز مفاصله بما يضفي نكهة مختلفة على نوتة معينة (مثلًا تقاسيم السنباطي).
  • التغيير في الإيقاع (بما في ذلك تغيير إيقاع التفاعيل داخل الجملة المرتجلة، كما يفعلان أم كلثوم والشيخ علي محمود)، أو التلاعب معه بخلخلة مواضع الضغط في مقابل الجملة الميلودية كما يقوم به مثلًا زكريا احمد.
  • شحن القفلة فوق المتوقع (فيحصل أحيانًا تصفيق حتى قبل القفلة نفسها، كما يحضّر السنباطي لقفلات أم كلثوم) أو خطفها قبل المتوقع (تقاسيم عبده صالح)، والقفلات المخادعة التي لا تقفل فعلًا (مثلًا الشيخ علي محمود).

بالإضافة إلى الدمج بين هذه التقنيات المختلفة (حسن الحفار مثلًا)، واللعب مع المستمعين (ولعب المستمعين والمطيباتية، كما في أيام المنيلاوي وتغنيه في منتصف الدور الشهير يا مانت واحشني بالنون السابقة على نون أم كلثوم المغربية الشهيرة، حيث أنهم يُشعرون المؤدي بتفاعلهم معهم فيطيب له التفنن أكثر، كما حين ذكرت أم كلثوم اصطفاءها سامعًا او اثنين تغني لهم تحديدًا في كل حفلة)، واللعب مع الفرقة (أم كلثوم مثلًا في ارتجالات مطلع حفلة أهل الهوى القصيرة) في سياق من الخفة، شرطه طبعًا خفة المؤدي ورغبة المستمع في الوصول إلى مثل هذه الخفة، واستعداده من خلال التنبه والتركيز على حركة الموسيقى في ذاتها، وإن لم يُشترط لذلك أن يكون المستمع خبيرًا بالموسيقى.

الطرب إذًا مرتبط أيضًا بقدرة المؤدي على إنشاء السياق وتمكنه من ذلك، ومفاجأته للمستمع وحتى لنفسه. من ثم تسمح ألفة المستمع بالفن والسياق بإنشاء التوقع، وكذلك تقدير ما هو مكرور وتمييزه عما هو حقًا مفاجئ، أي الاستمتاع أكثر بالطرب تفاعلًا مع هذه الموسيقى. قد يكون عصرنا هذا أقل إنتاجًا لموسيقيين مدربين على أداء موسيقى الطرب، غير أن هذه الموارد والتقنيات لا تزال حية، فإلى جانب كبار مثل الحفار وعبده داغر، هنالك أجيال أخرى مهتمة بالتفاعل مع موارد الطرب واستعمال موسيقاه وتقنياته في إطار موسيقي حداثيّ، مثل مصطفى سعيد وحازم شاهين وطارق عبد الله وليال شاكر وريما خشيش وسواهم، فضلًا عن استمرار هذه الموسيقات بأشكال مختلفة في الأداء الشعبي الديني، سواء الإسلامي أو المسيحي، في العراق وسوريا ومصر. مثل هذا التفاعل ليس انقطاعًا لكنه محاولة لبناء سياقات جديدة، تسمح بالألفة معها وتاليًا بطرب جديد، مرتكزة على موارد من الطرب ومن سواه (التوزيع، التجارب التونالية أو الهارمونية أو الإيقاعية، المزيج الجديد للآلات). محاولة بناء مثل هذه السياقات الجديدة هي في أساس أي عمل فنيّ جديد، بحسب رأي أمبرتو إيكو، من حيث هو تأسيس لكودٍ (أو لقانونٍ) جديد للجماليات. 

الطرب دعوة إلى لعب لا نهاية له، وهو في الآن عينه ـ مثلما يصف فرانسوا شاتليه الواقع ـ حاضر، حيوي وجديد في صورة ما، ومثل الفلسفة، حيث أنه من وظيفة الكتابة عنه أن تعبر عن قدرته هذه وأن تحميها، قدرة أن يتحقق دون أن يتكرر ولا أن يُستنفد.


لقاء دار النمر، لحظة الطرب:

نسخة صوتية.

نسخة فيديو.

المزيـــد علــى معـــازف