.
تأتيني في الركعة الثانية. يقتحم صوتها صلاتي. يرفض الانتظار والتأجيل رفضاً قاطعاً. تمتزج كلماتها بكلماتي، أنغامها بآياتي، جنتها بجحيمي، وتفوز هي دائماً.
أذكر بوضوح أول مرة سمعتها. في المقهى، وأنا على الأرض، بجانب أرجيلة والدي وشبشبه الذي يتأرجح على طرف قدمه، جاهزاً للانطلاق إلى وجهي. بدأ صوتها يهدر من المذياع فاستقر صمت، واستمر حتى بعد أن انتهت. خشوع تام لا يكسره إلا صياح طفل أو مجنون. كنت أسمعها لما يسنح لي دون أن أسعى لذلك، كانت دومًا تجربة طارئة، ضربة حظ، كأن تقع على طبق كنافة متقن ساخن.
بعد عدة أعوام، وبعد أن أنهيت دراستي وسكنت وحدي وحصلت على وظيفة، اشتريت مشغل أسطوانات. كنت قادراً على شراء أسطوانة واحدة، واخترت واحدة لم أسمعها من قبل. أذكر أن أملي خاب أول مرة شغلتها، أني شعرت بالخذلان وأنني خرجت من الدار غاضبًا. أني صفقت الباب خلفي كأن هناك من يسكن معي.
مرت أيام قبل أن أجربها مرة أخرى. لا فائدة. لم أستمتع بها، ولكن لسبب ما شعرت بحاجة لسماعها مرة أخرى، وأخرى، ثم أخرى. استمعت إليها وأنا في الحمام، وأنا ألبس ملابسي، وأنا أغسل الصحون، وأنا أتناول وجبة العشاء. بدأت أعرف تفاصيل الأسطوانة قبل أن أحبها. أعرف متى ترتفع وتدنو، متى تشب وتهدأ. استقرت في صميمي. صرت أجد نفسي أتمتم مع هذا الجزء أو ذاك، وأشعر بحرقة عند مقاطع معينة. تجاوزت مرحلة المتعة. أصبحت أركض من السرير نحو مشغل الأسطوانات. أركض عائداً من العمل لأستمع إليها. ألحانها لا تفارق ذهني حتى تلتقي بمسامعي. جنة وجحيم هي في آن واحد. حفظت كل تفصيلة صغيرة وكبيرة على الأسطوانة. سمعتها آلاف المرات. ثم وضعتها جانباً.
اكتشفت موسيقات جديدة. الجاز ونجاة الصغيرة والكلاسيكيات ومزيداً من أسطواناتها. ولكن تلك الأسطوانة، تجلس هناك، تشدني إليها. تأمرني. كان هذا منذ سنين طويلة. وأنا الآن يا بني رجل متقدم في العمر، تهمني صلاتي ولا أكترث لمتع زائلة. أعيش قرب أبنائي وأحفادي. لا أثقل عليهم. مشاويري إلى المسجد وإلى السوق. (يشير إلى الأكياس بحوزته) صحتي جيدة، ولكن ذهني معذّب.
عندما أصل إلى المسجد، أسلم على أصدقائي، أحيي الشيوخ، أتلو الأدعية، ثم تبدأ المعركة. أحياناً فوراً، وأحياناً في الركعة الثانية أو الثالثة. ولكنها تبدأ دوماً. يدخل صوتها مجرّدًا إلى روحي، دون آلات أو إيقاع. يدخل عذبًا مزمجراً لا يقف في طريقه شيء. أحاول أن أخشع، أن أبقي ذهني في الآيات، مع ربي، ولكن لا فائدة. أسمع صوتها بكل وضوح، كأن الأسطوانة أمامي، لا بل كأنها هي أمامي، على المسرح، تعلوني قليلاً ولا تراني، تخاطب الملايين. تأسرهم لدقائق أو ساعات. أتساءل أحياناً إن خطر ببالها أبداً أنها ستسكن، بل تقتحم، عقل امرئ ما مثلي. إن أدركت قوة ما جلبته إلى الدنيا.
تدخل الآلات شيئاً فشيئاً وتختفي الآيات واحدة واحدة. أقاوم وأتمسك بآياتي، أرفع صوتي بالتلاوة حتى لو كانت صلاة سرية، أعيد نفس الآية مرات ومرات مركّزاً في كل كلمة، لكن صوتها جبار. أقاوم لثوانٍ، وأحياناً دقائق هي بالنسبة لي دهر. كلما قاومت أكثر كانت هزيمتي أكثر عذوبة، وكانت جنتي أوضح وأبعد. أحياناً تكون الهزيمة مريرة لدرجة أن عيني تملؤهما الدموع ويرتج جسدي. أشعر بنشوة لا مكان لها في دار عبادة. أبكي. يظن أصدقائي أني حجزت مكاني في الجنة، بينما أنا في الجنة الآن، وجحيمي على بعد أيام قليلة.
ملعون ذاك اليوم عندما سمعتها. أستشيط غضباً على أبي، أما كان عليه أن يحميني؟ أما كان عليه أن يبقيني في المنزل، أعارك أخي الصغير وأكسر بعض الأواني؟ أكان عليه أن يسمح لهذا المخدر بالولوج إلى قلبي؟ أن يقلب حياتي على رأسها ويدمر علاقتي بربي؟ لكن ربك واسع كريم، وإني متيقن أنني سوف أتغلب عليها يوماً. سوف أخرجها من رأسي ومن روحي إلى الأبد، وأتمنى أن يكون قد بقي عندها وقت كافٍ لأكفر عن ذنوبي.
بنيّ كيف ألقى ربي بهذه الحال؟ كيف أشرح لملائكة الحساب أن لقاءها أعذب من لقاء الرب، أن ما تغنيه محفور في صميمي أكثر من كلماته؟ أتُرى لما تحين الساعة، أتمنحني صفاء الذهن لأتشهّد قبل مماتي، أم تغزو تلك اللحظة أيضاً؟ هل تأتي بيني وبين ربي في لحظة الحسم؟ إنها لفكرة تجعلني أرتعد خوفاً، وأكثر ما يخيفني أن هناك في داخلي، في أعماق نفسي، ما يريد ذلك. هناك في داخلي ما يريد لي أن تكون سكرات موتي معها، أن تغني لي موتي، أن ترافقني، أن تأخذ بيدي وتسلمني للعدم، سعيداً منتشياً. أن تكون آخر ما في روحي. أوليست تلك جنة أيضاً؟
(يولف سائق الباص المذياع، يمر على عدة محطات ثم يتوقف. يخبط هو على ركبتي بحماسة). ها هي! ها هي! على المذياع. اسمع. (تغرورق عيناه بالدموع، يحرّك رأسه بوقار. يتنهد بأسى، ويتنفس الصعداء).