.
ليلة 10 أيّار/ مايو من العام 1968. الثورة الطلابيّة الفرنسيّة. المغنّي الفرنسي الأشهر ليو فيرري يقف على مسرح قصر Mutualité كعادته السنويّة منذ العام 1948. الليلة هي “ليلة المتاريس” في الحيّ اللاتيني بباريس، حيث خرج أكثر من 20 ألف طالب وعامل من محيط الحيّ، محاولين الانتقال إلى الضفّة الشرقيّة من نهر السين، لتتم مواجهتهم بقنابل الغاز وهروات الشرطة الفرنسيّة التي أعادتهم إلى الحيّ. ليقيم المتظاهرون المتاريس في الحيّ لمقاومة موجات هجوم الشرطة. هناك، حول جامعة السوربورن التي هتف الطلاب في إحدى قاعاتها أمام جان بول سارتر وهو يخطب فيهم مشجّعاً ومعنّفاً ذاته وطبقة المثقّفين، ليتم اعتقاله لاحقاً بتهمة العصيان المدنيّ.
لكن إن طمع المتظاهرون في مصدر إلهام شعبيّ، سيكون بالتأكيد ليو فيرري. فعلى مدار الأعوام، قام المغنّي الذي ولد عجوزاً، بهالة شعره البيضاء والكثيفة، بتفكيك العلاقة بين المجتمع والفنّ. فكما غنّى عن الوحدة: “بيولوجيّاً، أقوم بوظائفي كلّها: أبول وأُخرِج وأبكي. لكنّني وحيد“. وحياة الفنّان: “أعطيتك ما أملك، ما يلزم للغناء، ما يلزم للحلم. وكنت تؤمنين بحياتي البوهيميّة. لكن إذا كنت مقتنعة في العشرين، أنّ بوسعنا العيش على سجيّة الزمن، فإنّ وجهة نظرك لم تعد نفسها“. ومن قصائد آراغون وبودلير ورامبو. غنّى أيضاً منتقداً الشباب الذين “يمتلكون شعراً قصيراً، ويتنزّهون على الأرصفة بملابسهم البريطانيّة والإيطاليّة وغيابهم الواضح“. وضد الاحتلال الفرنسي والتعذيب في الجزائر، مؤسٍّساً فرقة موسيقيّة في بداية مشواره من مهاجرين جزائريين، وضد دولة شارل ديغول الشموليّة، وجمهوريّة فرانكو الفاشيّة، وضد الاستهلاكويّة.
وعندما وقف تلك الليلة ليغنّي، لأوّل مرة، أغنية “الأناركيين“، هتف الحاضرون بحماس: “ليو: فلتنزل معنا إلى الشارع“. لكن ليو أنهى الحفل، وسافر إلى جنوب فرنسا من دون المرور بالشوارع المحترقة التي عاد الطلاب والعمال إليها، مستذكرين مقطعاً من أغنية فيرري “شكراً أيّها الشيطان“: “ولد الأحمر في برشلونة، وعلى الأسود أن يموت في باريس“. مشيراً إلى علم الأناركيّة.
لكن، في مقال نشره قبل وفاته بفترة قصيرة سنة 1993 بعنوان “تقنيّات المنفى“، كتب فيرري بما يلمّح إلى يأسه من الحركات الثوريّة: “أعتقد أن التمرّد لم يعد ملائماً. التمرّد هو طريقة للدخول إلى المدينة. وهذه هي فضيلة قبليّة، سلاح دفاعيّ“.
ونحن نحتفي بذكرى مولد مغنٍّ، كان التمثيل الأدقّ لعبارة صديقه الشاعر أندريه بريتون: “مسدّس بشعر أبيض“، نستعيد التساؤل الأكثر إلحاحاً هذه الأيّام: ما هو دور الفنّان الأكثر تأثيراً: تطوير الوعي السائد وتثقيفه، من خلال تجاوز حدود القمع اللغويّ والصوريّ، أم، تحويل الفن، في حالة فيرري، إلى أداة تحريضيّة راديكاليّة؟