.
لم تتخطّ تلك الأغنيات التي عمل عليها أو شارك فيها هيثم عبد الله حيز السوشال ميديا، إذ لا نسمعها في الأفراح أو الكافيهات، ولا حتى في المصيف، بل ظلّت حبيسة فيديوهات التيك توك التي تتداولها الصفحات وتعيد إنتاجها، إما بهدف التريقة، أو لمواكبة الترند وتفادي أثر الفومو الناتج عن ضياع فرصة ركوب الترندات، مثل أغنية مش هبقى مؤدبة، أو أغنية أحط إيدي فين. مع ذلك، لم تصل إلى الحد الذي تصبح فيه محتوًى منتظرًا أو مادة دسمة لميم تتناقلها الصفحات.
بعد زخم الفيديوهات التي أطل بها هيثم على الجمهور، أصبحنا قادرين على قراءة النمط الخاص في إنتاجه والأدوات التي يعتمد عليها لجذب المشاهدين. عادة ما تحتوي فيديوهات هيثم على امرأة ممتلئة، شعرها مصبوغ، تضع عدسات لاصقة، وترتدي ملابس غير منسقة وكاشفة، وترقص بشكل غير احترافي، وتغني بصوت رديء؛ كما في حالة كارمن فريد أولى شريكاته.
بالنسبة للكلمات، يعتمد هيثم في الكتابة على جمل غير متسقة أو مترابطة، لإثارة الضحك والاستغراب؛ كلمات أقرب لما ندندنه أثناء الاستحمام، أو عند التركيز في أداء مهمة يومية. بالنسبة للموقع، يُخرج هيثم كليباته في الأستوديو الصغير أو المنزل، أو في حديقة الفيلا، ما يدل على أنه لا يحتاج سوى لكروما خضراء وموديل بمواصفات معينة، تضمن له استقطاب شريحة معينة من الجمهور، وهم رجال في الخمسين من عمرهم، يمضون مساءهم بتقليب الفيديوهات.
لم يخترع هيثم عبد الله العجلة، ففي عام ٢٠١١ ظهرت قناة المولد على النايل سات، وقدمها عبد الباسط حمودة برفقة فنانين شعبيين آخرين، إذ صدّرت قناة المولد نفسها كمنبع للفن الشعبي المصري المعاصر آنذاك، كما قدّمت شكلًا آخر للغناء الشعبي، بداية من الفيديو كليبات الجريئة والمختلفة عمّا كان يظهر في قناة مزيكا وميلودي، حيث اختفت عارضات الأزياء البيض الشقراوات، وحلت محلهن نساء قمحاويات، شعرهن مصبوغ بألوان فاقعة، أجسادهن مكتنزة، يرقصن بلا احترافية وهن شبه عاريات. كما ظهرت بعض المغنيات اللواتي حاولن تقديم أنفسهن كنجمات إغراء تحت مظلة الفن الشعبي.
بين عام ٢٠١١ و٢٠١٣ استهدفت قناة المولد، ومن بعدها قناة شعبيات وقناة التت، طبقة وسنًا وجنسًا معينًا في مصر، ليكون هؤلاء جمهورها الأساسي؛ وهم الرجال المصريون الذين يفضلون الجلوس في المقاهي آخر الليل. يندر المرور أمام قهوة أو كافيه دون رؤية هذه القنوات على التلفزيون، وأمامها صفوف من الكراسي البلاستيك، يجلس عليها رجال يدخنون الشيشة في صمت وهم يتأملون الشاشة، وفي معظم الأحيان يكون التلفزيون على الوضع الصامت، فهم ليسوا هنا للاستماع، وإنما للفرجة واستهلاك صورة أقرب إلى واقعهم.
بعد سنوات طويلة من محاولات ميلودي استقطاب العارضات من ذوات الأجسام الرياضية، لم يجد هؤلاء الرجال أي صلة تربطهم بهن، في مقابل النساء اللواتي يظهرن بنفس الجماليات الريفية والشعبية التي يفضلونها.
في ٢٠١٥ ظهر هيثم عبد الله مخرجًا للكليبات على فيسبوك، إذ صوّر فيديو يروي فيه قصة حب، وقد وقع اختياره على أغنية يا أصلي لمحمد فؤاد لمرافقة الكليب. بعدها، عاود هيثم الظهور في ٢٠١٦ بعد أن تعرّف على عمر الخيام، وهو شاعر ومغن وملحّن وصاحب شركة إنتاج جولدن لايت، لتبدأ الشركة بتقديم الدعم لهيثم في بداية مشواره الفني. أخرج هيثم الكليب الأول له مع الشركة بعنوان حبينا ناس للمطرب محمد رفعت، ثم توالت الكليبات التي أنتجها عمر الخيام.
لاحقًا، تعاون الثنائي في إنتاج وإخراج أغنية من إمتى كنت أناني لعمرو صلاح، والتي خرجت من الفيسبوك وعرضت على قناة المولد، وفيها استعان هيثم بجماليات قناة المولد المتعارف عليها، من الحركات والرقصات السريعة للمغني، ومن خلفه كروما يتم تعديل ألوانها، وصولًا إلى موقع التصوير الذي غالبًا ما يكون شاطئًا أو حديقة عامة، وتجلّى أسلوبهما بشكل أوضح في أغنية ما انكسرتش.
استمر تعاون هيثم مع جولدن لايت، وبعد ذلك، عرضت قناة المولد لهما العديد من الكليبات، إذ أصبح هيثم مخرجًا معروفًا في القناة. بعدها بفترة، حاول هيثم استكشاف عدة بدائل، والدخول في تجارب منفردة بمعزل عن الخيام، ما دفعه لاحقًا للظهور بشكل خاطف في برنامج حسين مملوك في الشارع، وكان من بطولة الممثل والكوميدي حسين مملوك ومن إخراج هيثم عبد الله نفسه، والذي بثّته حينها قناة نيو دريم.
مكّنت هذه المحاولة المتمردة قصيرة الأمد هيثم من الوصول إلى صوته الذاتي بشكل أولي، إلا أن قناة نيو دريم لم تستمر، فعاد للدوران مرة أخرى في فلك جولدن لايت، وعلى إثر ذلك، أخرج المزيد من الكليبات لعمر الخيام.
عرفتُ هيثم عبد الله من خلال فيديوهين اثنين نشرهما على فيسبوك بدعم من جولدن لايت؛ وكانا رقصة وداع ومسلسل لعنة الموت. كنت أدخل في غياهب الفيسبوك ليلًا وأجد نفسي أمام أفلام درجة ثانية، تجارية بميزانية رخيصة مكتوب عليها هيثم عبد الله وجولدن لايت بكل الألوان والأشكال.
مع انعدام أفلام الدرجة الثانية في مصر، عن قصد أو غير قصد، كنت أتابع أفلام هيثم التي يستطيع المشاهد معرفة نهايتها من المشهد الأوّل، وأتابع بشغف ذلك التمثيل الرديء المُصاحب لمحاولة جادة من صناع الفيلم إيصال رسالة أو عظة شعبية معينة. بذلك، انقسم مسار هيثم الفني إلى قسمين؛ الأول يشمل كليبات الفيسبوك التي شاهدتها أنا وعشرة آخرون، والثاني رحلته الأساسية مع عمر الخيام وأصدقائه.
في ٢٠١٩ استمر هيثم في الإخراج ومعه الخيام الذي كسب مالًا أكثر، واسمًا في الإنتاج والتلحين، ليظهر بعدها هيثم مغنيًا ومخرجًا في انتي طالق، وهي أول أغنية مشهورة له، من كلمات سوزان يوسف وألحان وإنتاج عمر. كما كان ذلك أول ظهور لكارمن فريد، لكن كموديل. يعتبر كليب انتي طالق بداية تدشين ثلاثية هيثم والخيام وكارمن، والتي استمرت حتى الآن، مع تغير الديناميكيات وانقلاب الأدوار، إذ أصبح عمر الخيام من يعمل في فلك مشاريع هيثم عبد الله، وأصبحت كارمن فريد مغنية أساسية وهيثم مخرجًا وكاتب كلمات وصانع تريندات.
لم يقتنع هيثم وعمر أن اتحادهم مع كارمن سيكون نقطة قوّتهما، إذ حاول الثنائي إنتاج عدد من الأعمال بعيدًا عنها، يكون فيها هيثم المغني والمخرج وعمر المغني والملحن والمنتج، مثل أغنية أندال وصوتي عل حب يا بت. حتى مع عودة هيثم لإخراج أفلام الدرجة الثانية بعد شهرته، إلا أنهم فشلوا تمامًا في لفت الأنظار إليهم ولمشاريعهم الشخصية، فعادوا مرة أخرى إلى كارمن، وأدركوا أن الجمهور الذي خاطبوه منذ بدايتهم يريد كارمن، ويريد كذلك الفيديوهات المبنية على الرقص والكروما والفوتوشوب السريع، فيصدران بعد ذلك أغنية قلب بلاستيك، وتنضم كارمن إليهما كعارضة، وتنتشر الأغنية على السوشال ميديا في أيار / مايو عام ٢٠٢٠ بالتزامن مع جائحة كورونا، وتلفت الأنظار، ويشتمهم الناس وتعلو المشاهدات، ويحصل هيثم على ثاني أغنية مشهورة في مساره الفني، ثم يعود بعدها ليتأرجح ما بين إنتاجه الشخصي مع شركة إس إم أو، والإنتاج مع كارمن وعمر.
في ٢٠٢١ تعاون الثلاثي مع شركة إنتاج لمستحضرات تجميل تدعى جو ميرو ماهر، إذ عملت هذه الشركة على تثبيت عمر الخيام كملحن واستبعاده كمنتج وتصدير كارمن فريد كمغنية، وعليه، يخرج هيثم ويغني مع كارمن في ٢٠٢٣ وينتج ميرو ماهر أغنية على الكوتشي التي حققت انتشارًا واسعًا في مصر والعالم العربي، ويتصدروا التريند مجددًا، فيكرر هيثم التجربة في مهرجان في الحمام كمغن وشاعر غنائي ومخرج، ويغير قليلًا من نمط إخراجه، ويستعين بجماليات شعبية مستمدة من فيديوهات النساء على اليوتيوب اللواتي يصورون أنفسهن أثناء تنظيف البيت وهن مرتديات النقاب كنموذج للأونلي فانز الشعبي.
لاحقًا، انضم هيثم إلى عالم التيك توك، إلا أنه لم يلق التفاعل المطلوب، فعاود التفكير في متطلبات جيل زد، والوصفة الناجحة لصناعة أغنية بمحتوى جذاب أو محتوى يستطيع إعادة إنتاج نفسه على تيك توك. لاحقًا، أصدر الرباعي أحط إيدي فين ثم مش هبقى مؤدبة، وبعرف أبوس بالتعاون مع سيلا بدلًا من كارمن ليتصدّروا التريند لعدة شهور.
لا أعتقد أن فكرة التصنيف مهمة عندما يتعلق الموضوع بمحتوى هيثم، لكنني عندما أرى ما يقدمه من موسيقى، أطرح على نفسي سؤال: ما الجنرا التي يقدّمها؟ فن شعبي أم مهرجانات أم ترندات والسلام؟ فقد صدّر هيثم محتواه كأغان ثم كمهرجان عندما انتشرت المهرجانات، وبعدها عاد ليطلق عليها أغان مرة أخرى. لكن لا الموسيقى موسيقى مهرجانات، ولا حتى تحاكي البوب، ولا أعتقد أن ذلك يرجع لكثرة التجريب، وإنما يعود لعدم وجود مضمون فعلي خارج نطاق التريند أو الكرينج، ومن المؤكد أن هيثم ليس صانع نجوم، ففي كل محاولاته نستطيع رؤية استماتته لتحقيق الشهرة وفرض الذات، ليحفظه الناس ويتعرفوا على شكله واسمه وصوته، وبناءً على ذلك، فإنّه يستعين بمغنيات مثل كارمن وسيلا وأخريات، في محاولة منه لجر أقدام الناس من أجل متابعة قنواته، وحينما يفشل كمحور لأغنيته، يستعين بهن مرة أخرى.
نستطيع القول إن عالم هيثم وشركائه؛ الخيام وكارمن فريد وميرو ماهر وسيلا، يتشكّل في أسفل الهرم، ومن الممكن اعتبار المنتج الذي يقدّمه هيثم توثيقًا لإحدى محاولات صعود السلم الفني أو الاجتماعي درجة درجة، مع كل الارتباك والتردد المصاحب لهذه العملية والتنقّل ما بين الانتماء للهيكل الفني المرضي عنه، وبين النفور منه والتمسك بأسفل الهرم في سبيل طرح نموذج مختلف سيجلب المتابعين لاحقًا.
كما لا نستطيع كمشاهدين تجاهل السيطرة الفنية والشكلية التي يمارسها هيثم على من يعملن معه، من خلال استدعاء الفنانات وإقصائهن بين الفينة والأخرى، ونرى أيضًا عدم اكتراث الفنانات بذلك، وكيف أنهن في كل مرة يفضلن التعامل معه من جديد، لأنهن أيضًا يردن الصعود وتحقيق المكاسب والشهرة. في مقابلة لهيثم وكارمن في قناة الشمس، يخبر المذيعة بعد اتهامه بالإسفاف، أنه بيجيب حاجات من واقع البني آدمين وأن هؤلاء البني آدمين حابين دا.
يتعامل الكثير من المتلقين على السوشال ميديا مع إنتاج هيثم الفني بشعور العار أو الخزي، وهذا العار غير موجه لذواتهم بشكل مباشر، إنما هو عار موجه لهيثم ومنتجه ولمن يشاركونه اختياراته الفنية. إذ تتكرر تعليقات مثل “يا بخت الأطرش والأعمى” أو “أنا مكسوف له”، والكثير ممن أعادوا تداول وتدوير فيديوهات مش هبقى مؤدبة، لا لأنها كرينج أو غريبة، ولكن ليقولوا إننا لا ننتمي لهذا العالم بكل ما يمثّله.
طوال هذه السنوات حاول هيثم أن يكون محتواه قادرًا على إعادة إنتاج نفسه حتى في غيابه، لكنه نجح نصف نجاح. ليس لأن تيك توك يعتمد على جملة غنائية تنتشر لبضعة أيام ثم تزيحها أغنية أخرى، أو لأن فيسبوك عبارة عن دوامة كبيرة تتوه فيها الأشياء، لكن لأن هيثم برسائله المحبطة غير مشغول سوى بظهوره كصايع وصانع، فهو غير مشغول بالكتابة، إذ يكتب كلمات مدفوعًا بالاستسهال ، بلا حدوتة أو قصة درامية، فينتج موسيقى وكلامًا غير ناضج. بذلك يظل هيثم محبوسًا في حيز ضيق من السوشال ميديا غير قادر على أن يكون صوتًا يعبّر عن أسفل الهرم، وغير قادر على صعوده كذلك.