عربي جديد

فإلى أي أصالة ينتمون؟ | مفهوم الأصالة في الموسيقى واختراعه في مصر

فادي العبد الله ۳۰/۰۸/۲۰۱٦

(النص الكامل لمشاركة ألقيت مختصرة في أيار/مايو ٢٠١٦ ضمن فعاليات تد إكس القاهرة)


مساءُ الخير لكم جميعاً،

لا شك أن كلامي بالفصحى قد يبدو غريباً بالنسبة إلى البعض، بالمقارنة مع المتكلمين الآخرين بالعامية، لكن بما أن موضوعي يتناول فكرة الأصالة رأيت أن لا بديل عن الكلام بلغتنا الأصلية الأصيلة نفسها، لغتنا المقدسة الجميلة المعبرة العبقرية الضاربة جذورها في أعماق أرواحنا وفي تربة تاريخنا.

أقول هذا على الرغم من أن اللغة التي أتكلم بها الآن، والتي تسمعونها في الخطب الدينية والبيانات الرسمية، ليست في حقيقة الأمر لغة قريش أو بني تميم، والراجح أن لغة قريش نفسها لم تكن تعثر على متحدثين بها، ما لم يكونوا متكلفين الأدب، بدءً من العصر العباسي نفسه، حيث يشير الجاحظ إلى تعدد المستويات اللغوية التي ينبغي التنبه إليها إذا ما أراد المرء أن يروي طرفة من نكت العوام مثلاً.

فاللغة الفصيحة اليوم، لغتنا المهذبة الرسمية الوقع ذات المهابة، هي في حقيقة الأمر لغة معدّلة في العمق اخترعها اللبنانيون من آل البستاني وآل اليازجي وأحمد فارس الشدياق، مؤسس صحيفة الجوائب الاستانبولية أول صحيفة بالعربية والتي لأجلها ابتكر كثيراً من الصياغات والكلمات التي نستعملها اليوم متفاعلاً في ذلك مع معرفته العميقة بأوروبا التي عاش فيها طويلاً ودرس لغاتها، وهي اللغة التي نشرها اللبنانيون الذين أنشؤوا أول مطبعة عربية وأول مؤسسات صحافية في مصر نفسها.

لكن، رغم كوني لبنانياً، فليس هذا منعقد كلامي ولكنه إشارة عابرة إلى المعضلة التي أود أن أشارككم بها، وهي غياب الأصالة أو على الأقل صعوبة العثور عليها. وتحديداً أود أن أبدأ موضوعي من الموسيقى الأصيلة في مصر، أم الدنيا، وذلك لكوني شخصياً موسيقياً هاوياً تفتحت آذانه على الموسيقى المصرية وشغف بالعود كي يستطيع أن يعبر عن هويته الحقيقية بأن يعزف الموسيقى الشرقية الأصيلة وهجر لذلك البيانو الذي بدأت معه.

انطلقت في رحلة البحث عن الموسيقى المصرية الأصيلة من عبد الحليم حافظ الذي أعطاه محمد الموجي ومحمد عبد الوهاب أعذب الألحان الشرقية، ثم لاحظت حجم الأوركسترا وحضور الأورغ والساكسفون وبدأ ذلك يزعجني، فبدأت اسمع محمد عبد المطلب إلى أن وجدته يغني من ألحان بليغ حمدي على أنغام الجيتار الكهربائي ووجدت كمال الطويل، ملحن البيانو، بين ملحنيه. طبعاً مع القراءة في تاريخ الموسيقى وتعميق استماعي، عرفت الكثيرين من المطربين والمطربات، ووصلت، بعد كثير من التعب وتدريب الأذن إلى الاستمتاع بأم كلثوم وأغانيها ما قبل انت عمري وإلى عبد الوهاب القديم. وعرفت أن تاريخ الموسيقى المصرية، بحسب الكتب، ينقسم إلى ما قبل سيد درويش وما بعده. فسيد درويش، بحسب ما قرأت، هو الذي خلّص الغناء المصري من آثار الغناء التركي والأعجمي والغجري والفارسي وأعاده إلى صفاء الطابع المصري الأصيل طبعاً. وأما ما بعده فينقسم إلى مدرسة التجديد الوهابي، ومدرسة الأصالة الكلثومية بملحنيها الكبار زكريا أحمد والقصبجي والسنباطي.

لكن ما أثار حيرتي أن بعض الكتاب، مثل توفيق الحكيم، حين يمتدحون سيد درويش البحر[Mtooltip description=” الاسم الكامل لسيد درويش” /] يمدحونه بكون التجديد كان ملازماً لدمه متدفقاً منه كالنهر، في حين يقول آخرون إنه صنع الشخصية الغنائية المصرية كما لو أنه صنعها من لا شيء! ويشدد آخرون على أنه أعادها إلى المدرسة العربية الأصيلة التي بدأت في بغداد في العصر العباسي! فحيرني طبعاً سؤال الفارق ما بين الشخصية الغنائية المصرية الأصيلة وبين المدرسة العربية البغدادية الأصيلة، فأيهما الأصيل؟ وإن كان المفكر حسن حنفي يعرف الأصالة بأنها عمل يضرب جذوره في التاريخ وفي التراب، فإنني قد أفهم الجزء الأول لكنني عاجز بالطبع عن فهم الجزء الثاني من كلامه، فكيف يمكن للموسيقى مثلاً أن تنبع من التراب؟

وما زاد في حيرتي أيضاً أن القصبجي، رائد المدرسة الكلثومية الأصيلة، هو أكبر المجددين في العزف على العود وفي التلحين وكتابة المقدمات الموسيقية وفي استخدام الأوركسترا والتوزيع وفي اقتباس الآريا[Mtooltip description=” أغنية طويلة ضمن أوبرا أو أوراتوريو” /] من الأوبرا وترسيخ فن المونولوج الغنائي على يد أم كلثوم.

وأما زكريا أحمد فآثاره في التجديد لا تنقضي سواء في تطوير قالب الطقطوقة إلى أرقى أشكاله أي الطقطوقة المتعددة الأغصان، غير المعروفة من قبله، أوفي اللعب بقوالب الدور والموشح ونسف قواعدهما أو حتى في نسيج جملته واستخدام الأربيج الصوتي كما في اللي حبك يا هناه.

وأما السنباطي الذي يعتبر ربما الأكثر أصالة ورمز المدرسة الكلثومية التطريبي البارز، فوجدت أن عزفه على العود لا يشبه في شيء المدرسة الأصيلة، مدرسة القصبجي وأمين المهدي والليثي وداود حسني، وأن تلاحينه شديدة الدرامية والتضاد بين جملها على نسق الموسيقى الرومنطيقية الأوروبية، بل حتى استخدامه للفرداش، أي لضربات العود المستمرة كأنما الصوت يصدر دون انقطاع، يبدو درامياً ومحاولة لإيجاد صوتٍ للعود يكون مرادف استخدام الاوركسترات الأوروبية للوتريات في افتتاحيات السمنفونيات أو الأوبرات! بل إنه لم يتردد في أن يستعيد أراك عصي الدمع، القصيدة الشهيرة التي غناها عبده الحمولي وتناقلتها الأصوات، ليعيد تلحينها ويدخل البيانو في مقدمتها!

فإذا كان هؤلاء هم رموز الأصالة، لكنهم لا يشبهون ما قبلهم، ولا سيد درويش نفسه (رغم اعجابهم به واعجابه هو بالأوبرا الإيطالية التي أراد دراستها) فإلى أي أصالة ينتمون؟ إلى أي عصر؟ العثماني أم المملوكي، أم الفاطمي، أم العباسي؟ أم إلى ما قبل ذلك؟

وإذا فكرنا في الغناء النهضوي، أي ما قبل سيد درويش، وجدنا أيضاً التعارض مكتوباُ بين مدح عبده الحمولي بأنه مخلّص الغناء المصري من العجمة التركية، وبين القول بأنه سافر إلى الآستانة وتعلم فيها وعاد ليضيف إلى الموسيقى المصرية! بل إن كتاب وصف مصر يدلنا على مشهد موسيقي معقد وبالغ الثراء موجود في مصر من ايام الحملة الفرنسية، وهو الغناء الذي يقول الكتاب بأن عبده الحمولي ومحمد عثمان خلصونا منه! لا الأصيل نقي ولا الأصل نفسه، فما العمل وأين أجد هويتي؟

الحقيقة أنني لم أعثر على جواب لهذا السؤال عن أي أصالة ينبغي أن أعثر عليها، ربما لأن لا جواب له، لأن التاريخ لم يتوقف في لحظة كي تكون هي لحظة البداية، او ربما لأن سؤالي نفسه خطأ. ربما على أن أسأل نفسي في الحقيقة، لماذا شعر المصريون في وقت من الأوقات بضرورة العثور على خط موسيقي أسموه الأصالة، ولماذا في لبنان مثلاً لم يحدث مثل ذلك؟

ففي لبنان، ومنذ بداية إرهاصات الموسيقى اللبنانية بعد الاستقلال، كان الموسيقيون على وعي تام بأنهم يخلقون هوية موسيقية جديدة لهذا البلد، رغم أن لبنان عرف قبل الاستقلال مطربين أفذاذاً كمحي الدين بعيون وفرج الله بيضا وصليبا القطريب. فبدؤوا بالأغنية البدوية، التي سرعان ما هجرت وتركت للأردن ولفلسطين في مرحلة لاحقة، وانتقلوا بالأخص مع الرحابنة ومع ما سمي بعصبة الخمسة في بيروت، إلى هوية تعتمد على التوزيع الأوركسترالي الغربي والمؤثرات الكنسية البيزنطية والمارونية مدمجة مع إرث الطقطوقة والتلحين الوهابي المصري ومع رشةٍ من الموشحات وتطوير للموسيقى الجبلية الزجلية. كان هذا المزيج أنسب لهوية لبنان من حصره في الجانب البدوي، فهذه هوية تقدم البلد كنقطة تقاطع ما بين مؤثرات مسيحية وإٍسلامية، عربية وأوروبية، متقدمة وتراثية في الوقت نفسه. وهذه الهوية تعرف نفسها بأنها مختلقة، لكنها تسعى لأن تعكس في الموسيقى دور لبنان كما تصوره منظروه، كجسر بين العرب والغرب، وبين العروبة والحداثة، وبين الأصالة والمعاصرة. فقام كل مشروع الأخوين رحباني في جوهره على تصوير قدرتهما على التجديد والابتكار من خلال الإحاطة بهذه العناصر كلها والسيطرة عليها إرادياً في مشروع واحد.

لماذا لم يشعر اللبنانيون بعد الاستقلال، ومن ثم تحديداً ابتداء من الخمسينيات بضرورة الأصالة والدفاع عن الهوية ولم يظهر ممثل واحد لمثل هذا التيار؟ وفي المقابل، لماذا نسي المصريون منذ الثلاثينيات، أي ما بعد مؤتمر الموسيقى العربية في 1932، تراثهم، أي الموسيقى النهضوية التي كان بعض ممثليها الكبار مثل داود حسني ودرويش الحريري وصالح عبد الحي احياء يرزقون، وانجرفوا في إشكالية التجديد الوهابي مقابل الأصالة الكلثومية (ولاحقاً السنباطية تحديدا)؟

ربما لأن لبنان ومصر هما طرفا النقيض الأبرز في العالم العربي، طرفا الخفة والثقل، في تعاملهما مع تاريخهما. التعامل اللبناني يتناسى التاريخ أو، حين يسترجعه، يستعيده لخدمة حاضر راهن وقصير وبشكل أداتي سطحي. لبنان الحديث بني على أسطورة الخفة، والسرعة في التنقل والانتقال ما بين أقطاب الشرق والغرب، والعروبة والحداثة، وعلى التجارة والخدمات والترانزيت العابر الذي يأخذ من أوروبا ويصدر إلى العرب منتجات وأفكار واتجاهات وتصورات اجتماعية يجري تحويرها قليلاً كي يستطيع سائر العالم العربي أن يتقبلها. واللبنانيون يعلمون أن بلدهم مصنوع حديث، وأن التاريخ لا يدعم فرضية استمرار وجوده، فيحاولون أن يروا، في نقاط متقطعة ومتباعدة، ما بين الفينيقيين والجراجمة والإمارتين المعنية والشهابية في فترة العثمانيين إشارات إلى كيان لبناني يختفي ثم يبرز كل بضع مئين من السنين. ومن كانت هذه حاله كان متحرراً من التاريخ خفيفاً ومتخففاً من أوهام استمرارية التراث وفكرة الأصالة.

أما مصر، فمثالها لا خفة السرعة والتنقل، بل الثبات في المكان والمكانة، وليس التجارة والخدمات، بل الزراعة وإذا أمكن التصنيع فعليه أن يكون ثقيلاً كما غنى عبد الحليم، وهي في السياسة والثقافة لا ترتضي غير التزعم، وأما في علاقتها مع التاريخ، فتئن تحت وطأة توهم استمراره المتواصل دون انقطاع لآلاف من السنين. فلئن كان الضحك العارم وحده نصيب من يقول للبنانيين أحفاد الفينيقيين، يأخذ المصريون بجدية واعتداد فكرة أنهم أحفاد الفراعنة، ويفترضون أن تغييرات الحدود التي لم تهدأ وانقلاب الحكم واللغة والثقافة في مصر من أيامهم، مروراً بالإغريق والرومان والعرب والفاطميين والمماليك والعثمانيين والأسرة العلوية والانجليز، لم تكن سوى عوامل سطحية لا تؤثر في جوهر وجود الكيان المصري ودولته. ومن كان هذا تاريخه المتوهم لا بد أنه متعب طول الوقت يحمل هم المقارنة الظالمة دائماً به في كل لحظة وفي كل علاقة بأي آخر، لا سيما وأنه يتعامل مع هذا التاريخ ككتلة صارمة موحدة لا مجال لتفكيكها ولا للاختيار ما بين عناصرها.

لبلد له مثل هذه العلاقة بالذات والآخر والتاريخ، كان لا بد للحظة مؤتمر الموسيقى العربية المتزامن تقريباً مع نضوج مطالبات الاستقلال والمعاهدة مع الانكليز، أن يتولد عنها ما لاحظه المشاركون في المؤتمر آنذاك من أن الأساتذة الأوروبيين كانوا حريصين على المحافظة على الإرث الشرقي الموسيقي في حين أن الأساتذة المصريين والعرب عموماً كانوا يبحثون عن التجديد والتطوير والوقوف على قدم المساواة مع أوروبا من خلال اعتماد الكتابة والتنويط والأوركسترا والبحث عن الهارموني وعن النظريات الحديثة للتحليل الموسيقي.

أي أن الهوية الموسيقية المصرية، التي ليس صحيحاً أن سيد درويش قد شكّلها (وتسجيلات ابنه في مؤتمر الموسيقى العربية ضئيلة العدد نسبياً)، كان عليها أن تنبني من جديد في مواجهة الهوية الموسيقية الأوروبية. فمنذ عهد الخديوي اسماعيل كانت مصر تبتعد عن الآستانة ونماذجها الفنية. ولئن كانت الحكاية تروي أن دور عشنا وشفنا أداه الحمولي أمام الخديوي وضيوفه للدلالة على عظمة الموسيقى المحلية وثرائها، فإن من الجائز الافتراض أن هؤلاء الضيوف الأوروبيين لم يفقهوا شيئاً من هذه العظمة وفضلوا الانتقال إلى دار الأوبرا. وما كان سيبدو بالفعل عظيماً وثرياً أمام ضيوف عثمانيين كان يفقد أهميته المقارنة أمام ضيوف من ثقافة موسيقية بعيدة تماماً. في الوقت الذي كانت مصر تتبنى فيه فن الأوبرا ويعود النحت إليها ويدخل إليها الرسم من بوابات الأوروبيين، كان المسرح أيضاً يبدأ نهضته من خلال الاقتباس من أوروبا، وكذلك كانت الموسيقى تبدأ رحلة الابتعاد عن إرثها والدخول في معترك المسرح الغنائي في صورته الدرويشية ومن ثم السينما الغنائية في الثلاثينيات، وكان المطلوب من الهوية الموسيقية أن تكون قادرة على الوقوف نداً مع تلك التي تسمع في الاوبرا أو في الإذاعة البريطانية أو في دور السينما. من هنا التخلي عن التخت والانتقال إلى الأوركسترا والبدء بالتوزيع لها من خلال خواجة مثل أندريا رايدر قبل أن يدخل هذا المعترك مصريون دارسون للموسيقى الاوروبية وتقنياتها.

غير أن مصر، بسبب علاقتها مع تاريخها وتصورها لموقعها المركزي في منطقتها، لا تستطيع أن تتبنى موسيقى أوروبية الطابع بالكامل، فكان على عبد الوهاب والقصبجي مثلاً أن يحُدا من طموحاتهما التجديدية من خلال الحفاظ على درجة متفاوتة من عناصر الطرب والإشباع المقامي والقفلات. كان على الهوية الموسيقية المصرية، في وقت انبنائها على التجديد، أن تخترع لنفسها تقليداً تحتمي به لتقول أنها لم تنفلت عن موروثها ولم تنقطع عن تاريخها. والأمم، بحسب هابزباوم[Mtooltip description=” مؤرخ ماركسي انجليزي توفي في ٢٠١٢” /] وأصحابه، تخترع التقاليد عندما تكون في حالة تغير سريع فتتمسك بهذا التقليد، ولو أنه في حقيقته مُحدث، وتدعي له سلطة تسمح لها بالاستقرار والتغير الآمن من هزات الانقطاعات التاريخية الكبرى. هكذا كان على الموروث المصري أن ينسى لأنه لم يكن على تماسٍ مع موسيقى يراد لمصر أن تقف نداً مساوياً لها، وكان على التجديد الموسيقي المصري أن يبحث لنفسه عن أسماء أخرى، وكان على عبد الوهاب مثلاً أن يدعي أن سيد درويش سلفه المباشر، كان ذلك في اللحظة التي بدا لمصر فيها أن عليها أن تكون حديثة للمطالبة بالاستقلال ومصرية مختلفة عما سواها بالشكل الكافي لجعل هذا الاستقلال مشروعاً وحتمياً، فكانت الأصالة في الموسيقى، مثلها مثل التأصيل في الفكر الديني وفي الأدب وفي التعليم والفلسفة والنظريات السياسية، بحثاً عن تجديد لا يقول اسمه ولا يتورع عن اختراع الأسلاف كما يقول بورخيس.

كان هذا جائزاً ربما في فترته. لكن المشكلة التي صادفتها كانت أن الأصالة، تلك الفكرة التي اخترعناها مثلما اخترعت بريطانيا الفيكتورية تقاليدها ولأسباب مشابهة لناحية ضبط آثار التغيير وتبرير قيام سلطة حاكمة، قد انتقلت عن مهمتها الأصلية. وبدل أن تكون تجديداً متخفياً باتت عائقاً امام التجديد الحقيقي باسم هوية جامدة لم تتغير على مدى آلاف السنين وانحصرت مهمة الموسيقيين الكبار، مثل الأدباء والمفكرين الكبار، في محاولات إحيائها المتواصلة. فأقفلت أم كلثوم باب الطرب، وأقفل عبد الوهاب حدود الانفتاح، وأقفل السنباطي في تلاحينه وفي تقاسيمه باب المشرقية المطربة، وانحصرنا في الجدلية العقيمة ما بين التعبير والتطريب، وبين التطوير والتقليد الأصيل. في كل ذلك نسينا أن ليس هنالك من هوية، بل هنالك عملية تماهٍ تستعمل هذه الرموز التاريخية من اجل بناء الهوية في شكل مستمر، يجعل إحياءها مهمة متناقضة معها هي نفسها، لأن الهوية لا تحيا مرتين.

حين وصلت إلى هذه الإجابة عن تساؤلاتي عرفت أن علاقتي بالتراث كما صاغها لي الفكر العربي منذ فترة الاستقلالات العربية كانت قيداً وسلسلة حديدية تشلني بدل أن تكون مورداً أنهل منه لأبتعد عنه. وحين فهمت أن الأصالة نفسها لم تكن فكرة لتخطر في بال الجاحظ أو التوحيدي، بل هي فكرة شديدة المعاصرة، عرفت أن بإمكاني الآن أن أستمع إلى الموسيقى التي أحبها من دون هواجس، فبدأت في تعلم التشيللولأعزف باخ وأفكر في باروك بنكهة عربية أو العكس!

ذلك أن التراث مكتبة كبيرة وثرية، لكن لا فائدة في قراءة كتبها ما لم تكن تنفعني في حياتي الراهنة، ولا فائدة في قراءة صفحاتها القديمة ما لم أكن متنبهاً أنني لست ملزماً بما جاء فيها، وانني أقرؤها لأنقدها وأتحرر من سلطتها وأجد فيها تقنيات وأفكار وموارد ربما احب ألا أخسر بعضاً منها، وربما يجب علي أن أحطم الكثير منها.

في الموسيقى تحديداً، أحب ألا اخسر تلك العُرب الصوتية والانتقالات المقامية والجمل التي لعب بها الدهر وتقصفت أطرافها وانفتحت على عمل الخيال، وأحب أن أتذكر أن كل مقام أو سير مقامي كان خلاصة تجربة حياة فريدة وأن خسارته ستعني قدرةً أقل على قول الحياة وعيش اختباراتها، مثلها مثل خسارة كلمة أحبكأو كلمة الله“.

المزيـــد علــى معـــازف