.
على مدى العقود الأربعة الأخيرة، غاب وجه العراق الفني والإنساني وراء الحروب والنزاعات المتتالية التي شهدها. من أهم ملامح ذلك الوجه قراءة المقام العراقي؛ و”المقام في العراق ليس كما نعرفه نحن في باقي المشرق العربي، المقام ليس السلم النغمي، وليس حتى المسار أثناء الأداء، وليس الطبع في المغرب العربي؛ إنما إذا أردنا أن نرادف المقام – وليس تمام المرادفة – فأقرب كلمة له عندنا هي الوصلة المقامية”، بحسب تقدمة الأستاذ مصطفى سعيد لحلقة من برنامج دروب النغم تدور حول المقام العراقي.
في ساحة تايمز في منهاتن التقيت بحامد السعدي، أحد آخر قراء المقام العراقي الكبار والوحيد بينهم الذي يحفظ ويؤدي الـ ٥٦ مقامًا جميعها، للحديث عن المقام العراقي وحاله بين اليوم والأمس.
المقام العراقي هو أسلوب غنائي وموسيقي خاص بالعراق. توارثه العراقيون منذ زمن بعيد وأضافوا إليه ما استحسنوه ورأوه موافقًا لأذواقهم من أنغام بعض الشعوب الشرقية التي وفدت إليهم عندما كانت بغداد عاصمة الدولة الإسلامية المترامية الأطراف. والتلاقح الحضاري بين الأمم ليس من البدع المستغربة التي تدل على ضياع أصول الأشياء. بعض المقامات مثلًا جاءتنا من إيران (كمقام الدشت) وتركيا (كمقام الأورفة). لكن عبر إضافة بعض القطع والتوسع في هذا المقام أو ذاك، أصبحت تختلف عن ما يقرؤه المغني التركي أو الإيراني، وتحولت إلى مقامات عراقية مستقلة.
والتركيبة الغنائية في المقام العراقي تختلف عنها في البلاد العربية والبلاد الشرقية. فالمقام العراقي له أصول معينة يلتزم بها قارئ المقام، وليس حر التصرف بها إلا في بعض الأماكن، والتي تشكل نسبة قليلة جدًا. فلكل مقام تحرير وهو بداية المقام، يليه بيتين أو ثلاثة على نغم التحرير. بعد ذلك تأتي الجلسة وهي النزول إلى القرار. ثم يمهد الموسيقيون الصعود إلى الجواب وهو الميانة. ثم يعود القارئ إلى سير المقام الأصلي. ثم يسلم المقام ويسمى التسليم. هذه القواعد ليست موجودة في البلاد العربية ولا في البلاد الشرقية عامةً. هذا ما امتاز به قارئ المقام في العراق.
إضافة إلى ذلك، في أغلب البلاد العربية أو الشرقية يتبع المغني الموسيقيين. بينما في العراق، يتبع الموسيقيون المغني في أغلب الحالات. وهذا دليل على قدرة قارئ المقام العظيمة على التنقل بين الأنغام بحيث يصبح على الموسيقيين اللحاق به.
في عصور التعصب الديني في الحكم، أصبح الغناء والموسيقى أشبه بالحرام. فكف المسلمون عن العزف، وانفرد اليهود العراقيون بعزف المقام العراقي. من نهايات القرن الثامن عشر إلى التاسع عشر كان اليهود هم من عزف المقام. وعندما جاءت شركات الأسطوانات لتسجل في أوائل القرن العشرين كان أغلب العازفين يهود، بينما كانت نسبتهم من قراء المقام قليلة.
أما سنة ١٩٥١ كانت سنة ترحيل اليهود من العراق. وكان أمرًا أُجبروا عليه بسبب الحركة السياسية. وهم تأذوا كثيرًا في البلاد الجديدة لدرجة أن عازف الجوزة صالح شُمَيل توفي بعد أسبوعين من وصوله إلى هناك إذ وُضعوا في مخيمات. صالح كان كل يوم يشارك في حفلة في بغداد، يعني أموره كانت جيدة وكان موسيقيًا مقدرًا.
صالح وداوود الكويتي الملحنان لحنوا أغلب الأغاني العراقية في فترة الثلاثينات إلى الواحد وخمسين. أتذكر عندما التقيت الأستاذ حوسقيل كوشمان، وهو من يهود العراق الذين هُجّروا، أخبرني عن سبب تأليفه لكتاب الموسيقى الفنية المعاصرة في العراق. قال لي أنه رأى صالح وداوود الكويتي في الأربعينات في بغداد كأنهم في منصب وزير، يحتاج الواحد منا موعد ليقابلهما. أما عندما ذهب لإسرائيل، وجدهم في محل صغير متر طول متر عرض يبيعون فيه أشياءً بيتية. يعني في العراق كانوا عايشين عيشة ترف وتقدير. تصوري مدى الظلم والحيف الذي حل بالموسيقيين العراقيين عندما ذهبوا إلى هناك. بعض الموسيقيين قدروا يشتغلوا في إذاعة أورشليم، لكن مو مثل ما كانوا في بغداد.
هناك قصة ظريفة تُذكر عن رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد الذي كان حريصًا وغيورًا على المقام وكان يقرأ بعض المقامات. فلما صار التسفير، أخذ جوازات الموسيقيين اليهود، وطلب منهم تعليم الموسيقيين المسلمين. فعلموا شعّوب إبراهيم على الجوزة والحاج هاشم الرجب على السنطور. وبعد بضعة أشهر، اطمأن نوري السعيد على عزف الحاج هاشم وشعّوب بعد أن سمعهم في الإذاعة. عندها أعطى الجوازات للموسيقيين اليهود وسافروا إلى إسرائيل.
كنت مولعًا بالشعر العربي، الشعر الحماسي كشعر عنترة، المتنبي وأبو فراس الحمداني. وعندما كنت في المدرسة الإعدادية، كان مدرس اللغة العربية يكلفني بإلقاء القصيدة لأني ألقيها بتفاعل كبير – يعني كنت أتقمص دور الشاعر إن كان في معركة أو فخر بقومه أو غزل. وممارستي لرياضة بناء الأجسام أيضًا أثّرت على تكوين شخصيتي. فأحببت المقام لأن المقام هو غناء الرجال الأشداء، فيه من الفروسية والفخر والرجولة الحقة الكثير. عندما سمعت أستاذي يوسف عمر يقرأ مقام المنصوري بقصيدة مخمسة، جذبني النغم وجذبتني القصيدة التي قرأها: “ومورد الخدين لف ببرده غصنًا وزرّ عليه طرّة بنده / ناديته لما استبدّ بعهده يا من حكى ورد الشقيق بخده / وحكى قضيب الخيزران بقده.”
قمت أسجل من التلفزيون والإذاعة وأسجل في دفاتري حتى الآهات والصعودات كتابة. فبدأت عن طريق السماع. إضافة إلى تعرفي على سيد سمير الخالدي رحمه الله الذي أفادني كثيرًا إذ كان يعطيني تساجيل نادرة. فكنت في البيت أسمع وأقارن طرق القراءة. لكن تأثري الشديد بقي بالأستاذ يوسف عمر إضافة إلى أستاذه محمد القبنجي، صاحب المدرسة الحديثة في المقام العراقي.
بعدها بدأت أقرأ في المتحف البغدادي حيث قدمت عدة مقامات. وامتحنني الحاج عبد الرحمن العزاوي ومجموعة من القراء والموسيقيين ونجحت في الاختبار. ثم نظمنا فرقة للهواة وقرأنا بعض المقامات في المقهى البغدادي في أبو نواس الذي كان يديره الفنان محمد القيسي. وقد حضر أول حفلة في المقهى البغدادي الأستاذ محمد القبنجي والأستاذ يوسف عمر وشعوب إبراهيم وجمع غفير من قراء المقام وجمهوره.
في هذه الحفلة قرأت مقام من أصعب المقامات وهو مقام الحليلاوي. وكان الأستاذ القبنجي موجودًا فأشاد بي، لكن الأستاذ يوسف عمر أخبرني بذلك بعد ثلاثة أشهر. فسألته: لماذا لم تخبرني من البداية؟ قال: لكي لا يصيبك الغرور. الأستاذ القبنجي قال عني: “هذا الشاب هو من سيصل بعالم المقام العراقي إلى الذروة. إني أعتمد على حامد السعدي وأعتبره أفضل حلقة لتواصل المقامات في سلسلة المراحل الزمنية.” وهذا أعتبره أعظم قول بحقي لأنه يمثلني كامتداد لمدارس المقام التي سبقتني.
المقام كان يحظى ببعض الاهتمام من السلطة، خصوصًا من خلال إنشاء معاهد وبيت المقام الذي أُنشئ سنة ١٩٨٧ وكنت مدرسًا وخبيرًا فيه. كان مدير البيت الأستاذ يحيى إدريس. قبل بيت المقام كان هناك برنامج تلفزيوني اسمه سهرة مع المقام العراقي، من إعداد الحاج هاشم رجب الذي ذكرناه وتقديم الأستاذ يحيى إدريس. دعوني إلى هذا البرنامج سنة ١٩٨٤ حيث كلفني الحاج هاشم رجب بأصعب المقامات وأديتها بكل إجادة. وكانت الحلقة انطلاقتي وتعريف الجمهور بي.
رغم ذلك، لم يأخذ المقام نصيبه من الاهتمام والرعاية مثلما كان حاله في الخمسينات والستينات. كان التركيز في الثمانينات والتسعينات على الحرب والسلاح والغناء للحرب. أما المقام فليس مطواعًا لهذه المواضيع.
المقام العراقي داخل في الديني والدنيوي: في الدنيوي هناك الحفلات الخاصة والعامة، وفي خان مرجان حيث كان يقرأ فيه يوسف عمر كل خميس ويحضر نخبة المجتمع. وفي المجال الديني، يُقرأ المقام في المنقبة النبوية أو المولد النبوي الذي يتكون من أربعة فصول، ومن مقامات عديدة مرتبة ترتيبًا نغميًا مدروسًا. وهناك التهليلة التي تقام بحضور العشرات يقفون على شكل دائرة ويرددون لا إله إلا الله، يا دايم يا حي، ويكون بينهم قارئ يقرأ المقامات متبعًا الأصول. وهناك أيضًا الذكر التي تستعمل فيه الدفوف، لكن قليلًا ما يُقرأ فيه المقام. أما بالنسبة للطور الريفي، فهو أبسط من المقام. هو عبارة عن أنغام من البيات والصبا والحجاز السيكاه والراست. وهي أنغام بسيطة ليس لديها تفرعات كتفرعات المقام. والمقام فيه تفاصيل من تحرير وميانة وأوصال وقطع وجلسة، بينما الطور الريفي يبدأ وينتهي بأبوذية قصيرة، وهو هيّن الأداء يؤديه أهل الجنوب، وفيه من الحنين والحزن الشيء الكثير.
إن أغلب المراثي الحسينية تؤدى بالأطوار الريفية لأن الجنوب هو الموطن الأكثر رواجًا للمراثي الحسينية أكثر من بغداد والمحافظات الشمالية. كما هناك بعض المقامات تُقرأ بالمراثي الحسينية ولكن ليس بصيغتها التقليدية وإنما يؤخذ من نغمها ثم يعرج على الأبوذية أو النعي. كما أن قراءة القرآن الكريم تتم بأنغام المقام العراقي.
كان طبعًا وجودي في لندن راحة نفسية لي، وعملت على كتابي في لندن وكانت فرصة لي أن أكتب الكتاب الذي يمثل خلاصة خبرتي وتجربتي في المقام العراقي. دونت فيه أكثر من ٢٥٠ نص شعري من الفصيح والعامي وشرحت المقامات العراقية بالتفصيل. وكذلك نوّط أمير الصفار المؤلف وعازف الترومبيت والسنطور بعض المقامات مغنيًا الكتاب من الناحية العلمية.
أنا جيت لأميركا للمرة الأولى سنة ٢٠١٣ لمدة قصيرة. أما هذه المرة فزيارتي إن شاء الله أطول. عندي أولًا مشروع تسجيل المقامات العراقية لأني الوحيد المحافظ على المقامات جميعها إضافة إلى إحاطتي بطرق الأداء المختلفة. سيكون تسجيلًا جامعًا لطرق الأداء وسيكون مرجعًا فنيًا للمقامات العراقية. إضافة إلى أملي بطباعة كتابي باللغة الإنكليزية. كما سيكون عندي محاضرات عن المقام العراقي لأنشر هذا التراث العظيم الذي بقي مخفيًا عن الأنظار لسنين عديدة.
ويبقى الحنين إلى الوطن وهاجس العودة إليه.