.
ظهر مصطلح تريب هوب كجنرا لأول مرة في مجلة ميكسماج عام ٩٤، في مراجعة أندي بمبرتون لتراك إن/فلَكس للمنتج دي جاي شادو. جاءت كلمة تريب للتعبير عن الرحلة التي ينغمس فيها المستمع مع التراك. ارتكز التراك على سامبلز عديدة من جنرات مختلفة وفواصل إيقاعية تنصهر معًا لتشكيل كولاج موسيقي من خلفيات مختلفة. كان فريق ماسيف أتاك القادم من مدينة بريستول قد سبق دي جاي شادو في صوت قريب إلى حدٍ ما، قبل ثلاث سنوات في ألبومهم الأول بلو لاينز، وألحقوه بـ بروتكشن. ارتبط صوت ماسيف أتاك بسياق يعكس التنوع الثقافي في بريطانيا، لتظهر عناصر من الهيب هوب في أسلوب السمبلة وإلقاء ثري دي ودادي جي، والدب في الارتكاز على البايس العميق والسول والريجي في طريقة الغناء؛ بالإضافة إلى توظيف الأصوات الإلكترونية والسنثات وعناصر من الجاز في الألحان. من نفس المدينة، التحق بالمشهد تريكي وبورتيسهد بصوت مشابه وإصدارات لاقت احتفاءً نقديًا قويًا، ليُدرجوا جميعًا تحت جنرا التريب هوب؛ أمر تصدى له ماسيف أتاك رافضين ما اعتبروه استسهالًا صحفيًا بحصرهم في جنرا واحدة.
لاقى التريب هوب رواجًا كبيرًا خلال الثلاث سنوات التي تلت إطلاق المصطلح، ومع تركيز تسجيلات نينجا تيون ومو واكس على إصدارات المشهد حول العالم، وصل المشهد حالة من التشبع والتكرار. اختلفت موسيقى ماسيف أتاك عن باقي العوالم المتواجدة وقتها؛ صوت مستقل يختلف عن أغلبية منتجي التريب هوب من حيث الاعتناء بالإنتاج والتركيز على عناصر الدَب وتأثر ثري دي بمشهد البوست بَنك، بالإضافة إلى التخلي عن عينات أصوات التريب هوب المستهلكة. كما اختلف أسلوب الفريق عن التعقيد والتجريد الذي طال الآي دي إم وقتها، ولم يخضع للحث المغترب لمشهد الرايف أو الحث القومي للـ بريتبوب.
كان عام ٩٨ نقطة فارقة في عدة جنرات في المشهد البريطاني. من ناحية أمعن مشهد الجانغل أو الدرَم أند بيس في الاغتراب بسبب زيادة الطابع السوداوي والعنيف، الذي بلغ قمته مع النيورو فَنك، ليلجأ جزء كبير من جمهور الجنرا إلى الغراج والتو ستِب. من ناحية أخرى جاء ألبوم ذيس إيز هاردكور لـ بالب ليدق المسمار الأخير في نعش البريتبوب، بعد أن هيأ ألبوم بلور الرابع لذلك في العام السابق. أما بالنسبة لـ ماسيف أتاك، فقد جاء ألبوم ميزانين معلنًا عن تحلل التريب هوب وإفساح المجال لمزيد من الأفكار الإنتاجية والتجريب لفنانين آخرين، وإعلان خروجهم كليًا عن الجنرا.
بدايةً من غلاف الألبوم، يمكن تبيّن قدر من السوداوية واللزوجة في الخنفساء المصوّرة على خلفية بيضاء. يقول ثري دي عن علاقة تصميم الغلاف بتحوّل صوت الفريق “كنا في مرحلة شرنقية، نحاول فيها أن نتحول إلى شيء مختلف. أردنا فقط ترسيخ هويتنا الخاصة، وأعتقد أن ميزانين كان فرصة للقيام بذلك.” يهيء التصميم المستمع لثقلٍ قادم من التراك الأول، آينجل، حتى نهاية الألبوم. يبدأ التراك ببايس مشؤوم وريم-شوت مكتومة وأصوات ناشزة، ليظهر غناء هوراس آندي مغني الريجي المخضرم المعروف بالفايبراتو القوي. يبني آندي التوتر ببطء مع نوت جيتارات مقلة ودرَمز لإطلاق سراح ديستورشن الجيتارات في الكورس. أتذكر أول رد فعل لي عند سماع التراك وقتها؛ ذلك ليس الفريق الذي عرفته بصوته الذي يبعث على الاسترخاء ومزجه للهيب هوب والسول والدَب. تحضر هذه العناصر في الألبوم لكن بتحوير واضح مع زيادة الأنسجة الصوتية والطبقات الموسيقية واتّباع بنية أكثر تركيبًا من بنية بقية منتجي التريب هوب المعتمدة على اللوبس مع تنويعات بسيطة. يتضح أيضًا ميل ثري دي إلى البوست بَنك وأجوائه الداكنة وبناء صوت ثقيل يختلف عن تأثير الريجي والهيب هوب الخاص بـ دادي جي ومشروم. يسير تراك ديسولفد جرل وميزانين على نفس النهج، بناء تدريجي بطيء ينذر بقدر كبير من ضجيج الجيتارات وحدّة الدرَمز. كان لتلك التراكات وغيرها أثر واضح على نضج ماسيف أتاك، فيمكن القول إن إنتاج وكتابة الألبوم أخذت في الحسبان العروض الحيّة وظهورهم بصوت ممتلئ وبشكل أفضل في الحفلات.
تزداد الجرعة السوداوية بشكل مركّز في تراكي رايزينجسون وإينرشيا كريبس. دائمًا ما يتملكني شعورٌ مؤرق بأنني مراقب عند الاستماع إليهم، إذ يلائم الأداء الغنائي الهامس الغريب كلمات الأغنيتين عن العلاقات العاطفية الفاشلة والسامة. هذه التراكات تطوّر مظلم لتراكات من ألبوماتهم السابقة مثل فايف مان أرمي ويوروتشايلد. همسات ثري دي ودادي جي تعززها الأصوات الشبحية الممطوطة والجيتار المحمل بالشر في رايزينجسون، ومن حيث لا ندري يجري استحضار صوت لو ريد من خلال سامبل من أغنية آي فاوند إ ريزون لـ فلفت أندرجراوند. تأتي إينرشيا كريبس بقوافٍ موزونة بدقة يمشي إيقاعها مع عينة أولترافوكس الموظفة كـ ليد سنث، بالإضافة إلى عينة المزمار والإيقاع الشفتتلي – المأخوذين من شرائط تركية قديمة – التي تعكس مهارة ثري دي في السمبلة، والتي تجعل إينرشيا كريبس أحد أقوى تراكات الألبوم إنتاجيًا. يعد التراك امتدادًا أكثر تعقيدًا لـ كارما كوما، مثلما يعد تيردروب امتدادًا لتراك بروتكشن.
يوازن غناء إليزابيث فرايزر فير الملائكي الممزوج بطابع حزين الجزء المظلم من الألبوم، فيعطي فرصة لالتقاط الأنفاس في تيردروب وبلاك ميلك، إضافةً إلى أداء أندي في cover أغنية مان نكست دور لـ جون هولت. كان غرض وولتر شترن مخرج فيديو تيردروب الاحتفاء بالحياة من خلال ظهور الجنين الذي يلائم كلمات فرايزر المجرّدة عن الحب، والتي فسرها البعض أنها مهداة لـ جف باكلي (صديق فريزر) بعد موته. اختلف دادي جي وثري دي مع مشروم في تيردروب حيث أراد إهداءها لـ مادونا وأصر الآخران على فرايزر ليضاف ذلك إلى رصيد الخلاف الموسيقي بين أعضاء الفريق، إضافةً إلى اختلافات جمالية مثل تخلي ثري دي عن جانب الهيب هوب. أدى ذلك إلى انسحاب مشروم من الفرقة بعد إطلاق الألبوم، لكننا ما زلنا نرى إسهامه الواضح في تراك إكستشينج الذي يرجعنا إلى مرحلة ما قبل ميزانين وأثرها المسترخي بفضل سلاسة تداخل عينتين لـ أيزاك هايز وكوينسي جونس. برغم جمال بلاك ميلك وأداء فرايزر، كانت الأغنية سبب توقف ماسيف أتاك عن السمبلة نهائيًا بعد مقاضاة مانفرد مان لهم بدعوى “سرقة” ١٢٠ بار من أغنية تريبيوت ومطالبته بمائة ألف جنيه استرليني، إلى أن انتهى الأمر بتسوية خارج المحكمة لم يعلَن عن تفاصيلها. في نهاية الألبوم يأتي تراك جروب فور ككابوس مدته ثماني دقائق، يجد فيها المستمع نفسه نفسه في الطابق الأوسط (ميزانين)، حائرًا بين همسات ثري دي المتربصة ولحن فريزر المخيف ليقبض الكابوس على صدره في النصف الثاني من التراك مع تراكم طبقات الجيتار.
ميزانين أحد أكثر ألبومات التسعينات تماسكًا. تأسر التراكات المستمع في حالة من التوتر تعقبها انفراجة، من خلال لحظات هادئة بكلمات وثيمات مترابطة وتعاونات عدة. الألبوم مرحلة أكثر نضجًا للفريق وإضافة صوت جديد له، تأكيدًا على قطع أية صلة من بعيد مع التريب هوب كجنرا، بل وإنهائها. بعد خمسة وعشرين عامًا من إطلاق ميزانين، من السهل تصور صدوره الآن، ليس بسبب فقر المشهد الإلكتروني الحالي، لكن من فرط بعد نظر ماسيف أتاك وحسهم المغامر بدل التمسك بمنطقتهم الآمنة في أول إصدارين، قالبين توقعات الجمهور رأسًا عن عقب.
بجانب تحقيقه أعلى مبيعات على مدار مسيرتهم وحصده لعدة جوائز وعدم توقف جولاتهم لبضعة سنوات، من الممكن تتبع أثر ميزانين على العديد من المنتجين. بدايةً من أول ألبومين لـ بريال، بريال وأنترو، نتبين الحالة الضبابية والأجواء القاتمة التي تبثها السنثات والأصوات الممطوطة وشخشة الفاينل. كان تركيز بريال بشكل كبير على الإمكانيات الضائعة لصوت التو ستب وما تبقى من مشهد الرايف بشكل عام، واتسم العقد الأول من الألفية بفقر إنتاجي وبموجات استعادية. حلل المنظّر مارك فيشر موسيقى بريال وتوقها إلى فترة التسعينات على أنها رثاء ماضٍ حافل بالإمكانيات، وصنّف موسيقته بالـ هونتولوجي، أي موسيقى تحتوي أشباح من موسيقات سابقة ذات صدى مستقبلي محمّل بإمكانيات في ظل حاضر فقير. على هذا الخط، يظهر شبح ميزانين وتأثير ماسيف أتاك في موسيقى بريال. ما يؤكد ذلك هو سمبلة بريال لـ تيردروب في تراك بريار، إلى أن تعاونوا لاحقًا عام ٢٠١١ في فور وولز / برادايس سيركس. يظهر أثر ميزانين في الإصدارات الأولى لـ إف كاي إ تويجز بالأخص في إل بي١.
مع مطلع العقد الحالي وبعد عجز عن ظهور صوت جديد في بريطانيا، نرى أثر ميزانين وبشكل أعم صوت بريستول التسعيناتي الخاص بـ تريكي وبورتيسهد وماسيف أتاك في تشكل صوت بريطاني حول مانشستر. حيث يظهر شبح الثلاثة بجمالياتهم في أعمال سبيس أفريكا وكوبي ساي وأيا.
بعد ترك مشروم لحقه دادي جي لبضعة سنوات، حيث أنتج ثري دي ١٠٠ ويندو متخليًا عن الاستعانة بأي سامبلز. جاء الألبوم بصوت بارد وأقل ديناميكية من ميزانين. عاد دادي جي في هليجولاند عام ٢٠١٠ وبعد ستة سنوات صدر آخر ألبوم قصير لهم، ريتشيوال سبيريت. كلها إصدارات قوية لكنها لا ترتقى إلى مستوى ميزانين، حيث لا شك أن مشروم ترك فراغًا في الفريق.
مازال الفريق يحظى بجماهيرية واسعة لإرثه الموسيقي ونشاطه السياسي، لكن شيئًا انطفأ من بعد ميزانين كما لو كان هذا الألبوم الضارب لعنة. ليس من السهل التفوق على ميزانين، لكن بعد خمسة وعشرين عامًا ما زلنا نأمل في تحرر ماسيف أتاك من قبضته.ِ