fbpx .
بحث | نقد | رأي

نائل الطوخي | محاولة مستحيلة لكتابة النوتة الموسيقية

معازف ۲۰۱۲/۰۲/۱۸

منذ سنوات طويلة زارني أحد زملاء الدراسة في بيتي، وفوجئ لمرأى شرائط الكاسيت التي لديّ، وقال له إنه يعتقد كما لو أن شرائط الكاسيت هذه أثمن ما أملكه في غرفتي، و لم يفارقني تعليقه منذئذ. حتى الآن، فأثمن ما أمتلكه على جهاز اللاب توب الخاص بي، وعلى جهاز الهارديسك الخارجي، هو ملف بعنوان موسيقى، يحوي جميع ما حملته من أغان في حياتي، وكلما أعجبتني مقطوعة موسيقية على اليوتيوب مثلاً أقوم بتحويلها إلى ملف mp3 وأضعها على ملف الموسيقى. هكذا تدخل حياتي.

ربما كان أكثر فن ارتبطت به في حياتي، كمستخدم وليس كمنتج، هو الغناء. المفارقة حتى أنني ربما لا أقرأ الكثير من الأدب، أو أن ما أقرأه من أدب لا يعادل نصف ما أسمعه من غناء.

أتحدث عن الغناء وليس عن الموسيقى. ذائقتي الشخصية تفضل الغناء، الصوت الحي، أكثر من الموسيقى، وأنا أستمتع كثيراً كثيراً بالغناء من دون موسيقى أكثر من استمتاعي بالموسيقى المصحوبة بالغناء، وبالتأكيد أكثر من استمتاعي بالموسيقى الصرف. في الغناء، (وأقصد به ما تم التعارف عليه تقليدياً باسم الغناء، ولكن أيضاً تلاوات القرآن ونداءات الباعة، أعني الأصوات المنغمة في جميع أشكالها) دائما ما يرتبط لدي باللحم الحي، بصوت المطربة أو المطرب، بالارتجال والتجويل والخروج عن النص.

لهذا فمن الطبيعي أن يكون الغناء عنصراً أساسياً أيضاً في كتابتي، بالتحديد منذ روايتي الألفين وستة: قصة الحرب الكبيرة. أشعر بالعجز المطلق وأنا لا أتمكن من إدخال جملة غنائية لقلب الكتابة، أعني شرح كيف يتم غناؤها. أتحايل على هذا بذكر الجمل التي أحبها، باللعب عليها وتغييرها وإنتاج معان أخرى لها، وأحياناً أخرى لا أقاوم رغبتي في إدخال الصوت الحي، كما سمعته، حتى وأنا غير واثق أنه سيعني للقراء ما يعنيني أنا. في روايتي نساء الكرنتينا، كانت هناك فقرة مأخوذة من ملحمة أبو زيد الهلالي، والتي سمعتها بصوت جابر أبو حسين وتعليق عبد الرحمن الأبنودي. أدخلت شرح الأبنودي على بعض أبيات القصيدة كما هو للرواية “سمع ندا من قِبل الله، يا اخي كل منا وسعيده، أي: كل منا وسعده”. صحيح أنه لم يصادفني حتى الآن من لاحظ أن المقطع مأخوذ حرفياً من شرح الأبنودي، ولكن هذه ليست مشكلة. يحدث هذا كثيراً في الكتابة، أن ترمي إشارات يفهمها جميع البشر، وإشارات أخرى يفهمها متحدثو لغتك، وإشارات أخرى يفهمها أصدقاؤك، وإشارات لك أنت وحدك.

في مواضع أخرى أيضاً لا أقاوم وصف الموسيقى، في نفس الرواية أشرت لأغنية جفنه علم الغزل، لعبد الوهاب. ولم أستطع التخلي عن الـ دودوم دودوم دودودودوم التي تلي “هاتها، هااااتها”. هذه محاولة مستحيلة لكتابة النوتة الموسيقية في الرواية، وأنا لا أعرف كيفية كتابة النوتة الموسيقيى، لأني مجرد مستهلك للغناء، ولأنني لا أثق أنني لو كتبتها لن تكون مفهومة. أعتقد بداخل نفسي أن الـ دودوم دودوم دودودودوم ستكون مفهومة أكثر للقراء من النوتة.

أحب مقطوعات بلا عدد، وكثير منها شديدة المركزية في حياتي، لدرجة أن تصبح محاولة الإجابة عن الموسيقى التي أفضلها عبثية، سيد درويش وأم كلثوم وفيروز وزياد رحباني ونصري شمس الدين وسيمون وحميد الشاعري ومحمد منير وحسن الحفار وهدى عمار ودنيا مسعود والفور كاتس وعفاف راضي وكاظم الساهر وعمرو دياب ويس التهامي وأسمهان وسميرة سعيد.

شخصياً، لا أعتبر أن لديّ ذوقاً معيناً في الغناء. ليس هناك شيء موحد أستطيع الإشارة إليه وأقول إن هذا هو نوع الغناء الذي أحبه. يقيني أن حبنا لمقطوعات موسيقية لا يأتي بفضل أسباب عقلانية يمكن الإشارة إليها، وأنه مطلوب منا، في مهمة ثورية، الدفاع عن ذوقنا في الغناء، فقط بوصفه غير مبرر، ولا تفسيراً عقلانياً له.

ولكن على الأقل يمكنني قول إني أفضل الغناء العربي على الغناء من الثقافات الأخرى، وأن هذا يرجع إلى تمرسي أكثر بالغناء العربي، وأنه يمكنني الدندنة مع الغناء العربي ومشاركة المغني أكثر مما يمكنني مع أغان من ثقافات أخرى. ولو كنت نشأت في ظروف أخرى لاختلف الأمر.

أذكر أن أول أغان أحببتها في حياتي، بمعنى أنني شغفت بها وحرصت على كتابة كلماتها في كراريس صغيرة، كانت الأغاني الوطنية لعبد الحليم حافظ والتي كتبها صلاح جاهين، في مديح عبد الناصر غالباً. أحببتها بشدة وأنا أبلغ الثانية أو الثالثة عشر عاماً، وحتتى الآن عندما أسمعها أبتهج بشدة، رغم أنني لا أقتنع عقلانياً بكلماتها. صحيح أن إعجابنا بأغنية معينة ليس له أسباب محددة، ولكن النوستالجيا أيضاً تلعب دوراً كبيراً في هذا. وليس فيها، بالنسبة لي، ما يستدعي أي خجل.

أنا غير متأكد بخصوص رتابة الأغنية العربية. ربما لأن الحياة كانت تحدث في مكان آخر غير المفردات، في صوت المؤدي ربما، بارتجالاته وتنويعاته على الجملة، وأن هذا يناسبه أكثر مفردات “مريحة”، لا تشجع على التفكير، لأن التفكير سيعطل مسيرة الانطراب الحي من آداء المطرب أو المطربة، وسيصرف النظر عن الاختلافات الطفيفة بين نطق الجملة بآداء ونطق نفس الجملة بآداء آخر. على العموم، هذا موضوع إشكالي. كنت عند صديق أمريكي مؤخراً، وتكلمنا عن أم كلثوم وقال إنها لا تعجبه، لأنه يلزمه لأن تعجبه أن يفهم ما تقول باللغة العربية. كانت حجته أنه إن لم يفهم العربية فلن يلاحظ تنويعات الآداء بين طريقتي نطق نفس الجملة. لن يلاحظ أصلاً أن نفس الجملة تكررت مرتين. ربما كان كلامه صحيحاً، في كل الأحوال، أعتبر نفسي محظوظاً لأنني أستطع فهم الجملة المتكررة، وبالتالي تقدير الاختلاف في طريقة أدائها في كل مرة.

المزيـــد علــى معـــازف