.
“إني لست بذلك الأديب الفاضل أو الكاتب الماهر أو المؤرخ الشهير أو الرحال القدير، الذي يحسن نشر علمه وأدبه وإرشاده على العالمين. فكل ما هنالك أنني موظفٌ بسيط أُغلقت أبواب المدارس في وجهي في الحرب العظمى الأولى عندما كنت على وشك إنجاز دراستي الثانوية. ولم يساعدني الحظ على ترك بلادي فلسطين طيلة حياتي، ولكنها طرأت على ظروف ومفاجئات وحوادث مختلفة، منها الطريفة، وذلك في العهدي العثماني والبريطاني، جعلتني أفكر في تدوين البعض منها”
هكذا يفتتح واصف جوهرية مذكراته المنشورة في جزئين من إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية: القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية ١٩٠٤- ١٩١٧، والقدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية ١٩١٨- ١٩٤٨، والتي عبر قراءتها يتضح أن جوهرية لم يظل موظفًا بسيطًا كما يصف نفسه، فقد كان قد ترقى في المناصب الوظيفية تحت الإدارة العثمانية للقدس ومن بعدها البريطانية، لينتهى به الأمر موظفًا كبيرًا في الإدارة المالية والضريبية للمدينة، ولنكتشف لاحقًا أنه غادر فلسطين عدة مرات: أولاً إلى لبنان، ومن ثم القاهرة بعد زفافه، وانتهى به الأمر لاجئًا في بيروت منذ عام ١٩٤٨، حيث عاش هناك حتى وفاته عام ١٩٧٣.
تمنحنا مذكرات جوهرية توثيقًا شخصيًا وحميمًا لتغيرات السياسية والعمران في مدينته، وتفصيلًا لعلاقات طوائفها وجماعاتها في خضم تحولات طارئة وشديدة الجذرية، لكن أهم ما تركه لنا الموسيقي غير المحترف، وغالبًا دون قصد، هو خارطة لأصوات القدس، ومشاربها، والصدام الحتمي ما بين أصحابها والوافدين من الضباط والإداريين الإمبرياليين، والحجاج والرحالة، واللاجئين والمستوطنين اليهود، وغيرهم. وفيما يسجل جوهرية موسيقى الطقوس والاحتفالات الدينية وعروض الأراجوز وموسيقى الشارع وحفلات الشيخ سلامة حجازي و أم كلثوم وعبد الوهاب وفرقة بديعة مصابني وغيرهم في المدينة، وتسجيلات الجرامافون الذي يسجل واقعة دخوله الأول للمدينة، وأغاني الراديو التي أول ما وصلت كانت على موجات القاهرة وأثينا، فإن مذكرات جوهرية، تحمل أهمية استثنائية لأكثر من سبب، تتعدى أهميتها الوصفية.
عالم جوهرية، المولع بالطرب، يقف على طرف النقيض من التصور الأوروبي المعاصر له، عن المدينة التي كان يجب تخليصها من الإسلام واستعادة مسيحيتها، والذي حمل بالضرورة فصلًا حادًا بين مسيحييها ومسلميها، الأمر الذي عملت عليه الإدارة البريطاينة للمدينة بشكل منهجي منذ سيطرتها على المدينة عام ١٩١٧. لكن ولع جوهرية المسيحي الأرثذوكسي بالطرب اقترن بتعلقه بالتلاوة القرآنية التي مثلت له ولغيره من المقدسيين، باختلاف طوائفهم، مقياسًا للتمكن من الإيقاع الداخلي للفصحى ولمقامات قالبها الموسيقي. بالإضافة إلى الجانب الجمالي، قدّم جوهرية مشهداً موسيقياً متعدد الطوائف والأعراق يشمل يهود حلبيين وقاهريين ومقديسيين، ومسيحيين على اختلاف طوائفهم، ودروز ومسلمين من سكان المدينة ومن كافة بقاع المشرق العثماني. كل هؤلاء تشاركوا في العزف في فرق متعددة الطوائف وأحيوا مناسبات واحتفالات أهل المدينة على اختلاف أديانهم.
لكن لا تخدعنا المذكرات بصورة طوباوية عن تناغم أصوات القدس، فشدٌ وجذبٌ كان دائمًا تحت السطح، وسرعان ما تفجّر، متحولًا إلى صراع مفتوح على المدينة وأصواتها. فبين المقدسيين أنفسهم، يروي واصف قصة طريفة عن والده، جريس جوهرية، ومؤذن الجامع المجاور الذي تطل مئذنته على شباك غرفة المعيشة . بعد نقل إدارة الأوقاف للشيخ محمد السلواني، خريج الأزهر، والذي كان يطرب جريس لسماع آذان الفجر بصوته، حل محله الشيخ عمر وهبة الذي لم يستسغ جريس صوته المزعج وتلاوته غير المنضبطة. تصل القصة إلى ذروتها عندما يتجه جريس إلى إدارة الأوقاف في المدينة مقدمًا شكوى رسمية، ومطالبًا باستعاده مؤذنه صاحب التلاوة القاهرية. كان موقع جريس كمحامي مرموق في المحاكم العثمانية وعلاقته الحميمة مع عائلة الحسيني المقدسية كفيلة بنقل وهبة أو نفيه إلى مسجد آخر بعيدًا عن العمران، لا يجاوره سوى دير دومانيكي وعدد من خيام الغجر، فيما عاد الشيخ الأزهري مرة أخرى، ليستيقظ جريس في الفجر مطروبًا لقراءته. وفيما يبدو أن واصف قدم قصة “والدي والمؤذن” كدليل على حسن العلاقات الطائفية وحميمتها، إلا أن القصة تبدو نموذجًا شديد الوضوح لشبكات النفوذ وعلاقات السلطة ودورها في تشكيل الصوت في فضاء المدينة وترويضه وقمعه وإخضاعه وتعيين حدوده ومجالاته، بل ونفيه أحيانًا. لم يكن التجاذب المقدسي على أصوات المدينة محصورًا على المستوى الجمالي، كما في قصة المؤذن، فالمدينة التي شهدت انتشارًا مضطردًا للتعليم الموسيقي الغربي، وخاصةً في مدارس الإرساليات البروتسانتية، كان يدور فيها صراعٌ مكتومٌ بين الموسيقى الغربية – الشرقية على حدود إيديولوجية هذه المرة، أي قيم التقدم والتقنية والتعقيد. ومن بين نماذج عدة، يروي لنا واصف أن أحد أساتذته العرب ذوي التعليم الموسيقي الغربي كان يكن احتقارًا للموسيقى العربية ويعتبرها متخلفة، وهو الأمر الذي عدل عنه في النهاية بعدما قام واصف بالكشف له عن مواطن جمال الطرب التي كان يجهلها أستاذه.
مع بداية الانتداب البريطاني أصبح الصراع على المدينة وأصواتها أكثر عنفًا ووضوحاً. في الشهور الأولى من الحكم البريطاني، يروي واصف الواقعة التي أمر فيها الحاكم العسكري البريطاني الأول للمدينة، رونالد ستورس، بإعدام ديك جاره الفلسطيني، أسعد خضر، والذي يسجل عنه واصف أيضًا انزعاجه الشديد من عزف ستورس على البيانو في الساعات المتأخرة من الليل. نجح خضر في النهاية في تخليص ديكه من الإعدام، إلا أن الإدارة البريطانية كانت تتقدم بشكل منهجي في عمليات التطهير الصوتي للمدينة وتقسيم مجالاته وعزلها، فمع إنشاء الإذاعة الفلسطينية تحت الإشراف البريطاني عام ١٩٣٦، تم تقسيم البث إلى ثلاث لغات: العربية والعبرية والإنجليزية. لكن الفصل اللغوي لم يكن كافيًا، فاليهود والعرب المسلمين أو المسيحيين الذين طالما عزفوا في فرق مشتركة، تم الفصل بينهم لأول مرة، لتشكل الإذاعة فرقة للموسيقى اليهودية أعضاؤها من اليهود فقط، وفرقة للموسيقى العربية ضمت فقط مسلمين ومسيحيين، كان من بينهم شقيق واصف.
تكشف المذكرات عن صورة شديدة التعقيد لعلاقات جوهرية بمرؤوسيه البريطانيين وبينه وبين الوافدين اليهود. فبالرغم من الكراهية الذي كنّها واصف تجاه البريطانيين، إلا أن علاقته الحميمة بمدير التعليم بإدارة الانتداب، دبليو ستيوارت، على سبيل المثال، لم تتوقف عند قضاء حفلات الطرب المشتركة والسهرات المنزلية في القدس، بل امتدت إلى تل أبيب أيضًا حيث ذهب واصف مع صديقه للعب العود ومساعدة اليهود على تعلم الأغاني العربية والدبكة. في قصة أخرى، سهر واصف مع بعض زملائه البريطانيين برفقة بعض اليهوديات الشرقيات الجميلات، واستمع كلٌ منها لموسيقى الآخر.
يروي واصف أيضًا بأريحية عن الواقعة التي اصطحب فيها صديقه الحلبي، سامي الشوا، الذي يشير إليه بلقب أمير الكمان، إلى معهد الموسيقى العبرية في القدس ليقابل رئيس المعهد، السيد هاوزن، وهو عازف كمان أيضًا، وعددًا من أعضاء المعهد من عازفي الكمان الألمان اليهود. يخبرنا واصف أنه توسط في الترجمة بين الشوا وهاوزن، وشجعه على لعب بعض المقامات العربية أمامهم. قام بعدها الشوا بلعب مقطوعة ادعى أنها من تأليفه عن خروح بني إسرائيل من مصر، لكن عندما طلب منه أساتذة المعهد العبري النوطة للمقطوعة، اكتشف واصف أن الشوا الذي لم يتعلم كتابة النوطة ارتجل تلك المقطوعة بالكامل.
تستدعي الباحثة راتشيل بيكلز ويلسون في مقدمة الترجمة الإنجليزية للمذكرات تلك المشاهد لتشير إلى الدور الذي لعبه واصف، بشكل غير متعمد، في تمكين المشروع الصهيوني، مثال على ذلك “الدبكة، [التي] كانت واحدة من العديد من القوالب العربية التقليدية التي تعلمها الصهاينة، وأعادوا تعريفها بوصفها يهودية، واستخدموها لتأكيد ادعائهم بامتلاك الأرض”. يخبرنا واصف نفسه عن انزعاجه من غناء بعض اليهود للموشحات الأندلسية بكلمات عبرية وادعاء يهوديتها في إحدى السهرات التي حضرها. لكن الأمر لم يتوقف عند مجرد الاستيلاء على الأصوات وإعادة تعيين ملكيتها، فالوافدين اليهود كان لديهم بالإضافة للدعم السياسي والمادي والتسليحي البريطاني، مواطن قوة استثنائية في مجال الأصوات، فتمكن أساتذة المعهد العبري الذي عزف أمامهم الشوا من تدوين المقطوعة التي ارتجلها وحفظها واستخدامها لاحقًا، في الوقت الذي لم يكن باستطاعة الشوا إعادة لعبها مرةً أخرى.
يبدو واصف واعيًا بتلك المعضلة، فعدم قدرة الموسيقيين المقدسيين على تدوين موسيقاهم وقراءتها كانت تعني أكثر من فصلهم من الإذاعة، وهو ما حدث لاحقًا لعدد من أفراد الفرقة العربية الذين فشلوا في تعلم النوطة أو أتضح أنهم أميين أيضًا، بل تمتد أيضًا إلى قدرتهم على امتلاك تراثهم الموسيقي من جهة، وتطويره من جهة أخرى.
تبدو علاقة واصف بالباحث الموسيقي والمستشرق في الجامعة العبرية، روبرت لاخمان، وهو لاجئ ألماني يهودي انتقل إلى فلسطين أثناء الحكم النازي، واحدة من أكثر محاور المذكرات أهمية. فواصف، الذي ألهمة هوس لاخمان بالتحف الشرقية للبدء في تكوين مجموعته الخاصة من القطع النادرة والتسجيلات والآلات الموسيقية وغيرها، كان يعاون المستشرق الألماني في تجميع وتسجيل التراث الموسيقي الفلسطيني والعربي وتدوينه، وهي التسجيلات التي انتقلت ملكيتها للجامعة العبرية بعد وفاة لاخمان عام ١٩٣٩. كان واصف يقوم أيضاً بالعزف أمام طلبة لاخمان في الجامعة مقدمًا نماذجًا صوتيةً عن المقامات العربية، وهو الأمر الذي سينتهي بمواجهة عنيفة بين الصديقين.
لاخمان، وعلى عكس زملائه من أساتذة الجامعة العبرية والمستشرقين الألمان، لم يكن يظن أن الموسيقى العربية تعكس مرحلة بدائية ومنحطة من التعقيد التقني والجمالي الموسيقي، بل على العكس كان يرى أن عدم قدرة الباحثين الغربيين على تذوق الموسيقى العربية وإدراك جمالياتها يعود في الحقيقة إلى فرط تعقيدها وتطورها، بل وتفوقها في بعض الجوانب على مقابلها الغربي. لم يتمتع لاخمان بوضع جيد في الجامعة العبرية بسبب تلك الأفكار، لكن سرعان ما ورطته تلك الأفكار في خصومة مع صديقه الفلسطيني أيضاً. فعلى عكس واصف الذي رأى في تقاليد الطرب المصري الصاعد والأغنية الإذاعية المصرية السبيل لتطوير الموسيقى العربية عبر تبني نظام التدوين الموسيقي الغربي والفرق الموسيقية الكبيرة على النسق الأوروبي، مع استخدام الإيقاعات والآلات والتقنيات الموسيقية الغربية لإثراء الصوت الشرقي، فإن لاخمان رأى أن أي تغييرات أو تعديلات على الموسيقى العربية ستفسدها بالكامل. على سبيل المثال، رأي لاخمان أن الارتجال هو جوهر الموسيقى العربية، وبالتالي فإن تدوينها واستخدام النوطة سيشوه جوهرها بالكامل. في المحاضرة الأخيرة التي حضرها واصف، يقوم بمقاطعة لاخمان ولا يكتفي بتفنيد أفكاره أمام طلبته، ولكن يتهمه بأنه يسعى عمدًا إلى منع العرب من نشر موسيقاهم وتطويرها لأبعد مما هي عليه. يرد لاخمان غاضبًا : “الأمر ليس له علاقة بالسياسة”.
يدون واصف لاحقًا رثاءه للاخمان بعد علمه بخبر وفاته، وبعد سنوات من الصراع على الأصوات في القدس وتفتتيها وعزلها وإعادة تعيينها والشد والجذب بين الرغبة في امتلاكها وتجميدها وتطويرها، ينتهي الأمر بواصف هاربًا من بيته، تاركًا وراءه تسجيلاته وآلاته الموسيقية وبيته الذي وقع على الجانب اليهودي من خط التقسيم البريطاني، وبعد عدة سنوات قضاها بلا آلة موسيقية أو عزف في الشتات في بيروت، نجح أخيرًا في تدبير مبلغٍ كافٍ لاستئجار عود، ليعزف عليه بعد انقطاعٍ طويل، مستعيدًا الأصوات التي خلفها وراءه.
يترك لنا واصف وثيقة استثنائية لتاريخ مدينته وأصواتها، وعددًا محدودًا من تسجيلاتٍ بصوته للتراث الموسيقي الفلسطيني والعربي، وتستكمل ابنته، الباحثة يسرى جوهرية عرنيطة، صاحبة كتاب الفنون الشعبية في فلسطين، مسيرته في تدوين وثائق ملكية الأرض وأصواتها وفنونها، في تأكيدٍ مرةً أخرى على أن الصوت كان دائمًا ولازال متعلقاً بالسياسة وصراعاتها.