.
في بداية الحكم البعثي خلال الستينات والسبعينات، تبلورت الأغنية الشعبية العراقية بشكل فذ نتيجةً للرخاء الاجتماعي واهتمام المؤسسة العامة بالفن والثقافة، كما اقتحم الشعر العامي الأغنية الشعبية مع توافد الجنوبيين إلى بغداد، خصوصًا بين الخمسينات والستينات. أما في الثمانينات بدأت الأغنية العراقية بالانحراف عن مسارها العاطفي تحت وطأة الحرب الدامية بين العراق وإيران وتجييش النظام لكل المستلزمات الثقافية لمدح القائد. رغم ذلك برز في تلك الفترة فنانون جدد قادوا الأغنية الوطنية الحيادية، بينما أُجبر آخرون على مسايرة أيديولوجيا النظام. أما الذي أبى الانخراط في هذه الموجة انتهى به الحال إما في المنفى أو في غياهب السجون أو على حبل مشنقة.
في ظل الرقابة بدأت تظهر أغنيات وطنية مبطنة المضمون أعلنت بدء مرحلة جديدة من النضال والمعارضة السياسية (خصوصًا اليسارية منها). في هذا السياق، يروي الموسيقار حميد البصري حوارًا مع الشاعر زهير الدجيلي في السبعينات قائلًا: “وقد اتفقنا على أن يكون مضمون الأغاني غير مباشر، يتكلم عن حب الوطن والتمسك به وحب الناس، مع تضمين مبطن لقضايا شعبنا العراقي والعربي، لأننا واثقون من أن السلطة الحاكمة لن تسمح لنا إذا شعرت بمضمون الأغاني ضدها.” هذه المحاولات للالتفاف على المحظور والممنوع في عهد النظام البعثي هي السمة الأكثر إثارةً للفضول في أغاني تلك الفترة. هنا علينا الإشارة إلى أن الالتفاف على الممنوع لم يكن محصورًا بعبارات سياسية، بل سنرى كيف كان للشعر العاطفي نصيب يسير من مسيرة مقاومة بطش الرقابة.
يطلق الصحفي والكاتب علي عبد الأمير على الحملة التي أطلقتها سلطة النظام عبارة “تأميم الحناجر الغنائية”، ويشير: “لم تنج من فخ أغنية الحرب التي سادت بحسب التعبئة الإعلامية الرسمية في سنوات الحرب شتى أنواع الفنون والآداب، ومن النادر أن تجد مطربًا أو ملحنًا أو شاعرًا داخل العراق، كبيرًا كان أم صغيرًا، لم يندرج في صناعة أغنيات الحرب التي تحاكي أجواء الخنادق في جبهات القتال.” رقصة الفستان الأحمر الأخيرة - سبعة عقود من تاريخ العراق المعاصر عبر الغناء والموسيقى، منشورات المتوسط، ٢٠١٧
من أشد الحملات الغنائية ولاءً وشراسةً كانت تلك المرتبطة بقادسية صدام، أي الحرب العراقية – الإيرانية (١٩٨٠ – ١٩٨٨). إذ حشد النظام موسيقيين وفنانين للاحتفاء بالمنجزات العسكرية، ناهيك عن تسخير مؤسسات الدولة الثقافية والاعلامية للترويج للحرب. بين تلك المبادرات، الأغاني التي أنتجتها وزارة الإعلام ووثّقها المركز الدولي لدراسة الموسيقى التقليدية التابع لوزارة الثقافة العراقية، تحت عنوان للحب للقائد للوطن نغني: موسيقى وأغاني قادسية صدام، والتي تحتوي على عشرات الأناشيد والأوبّريتات الوطنية التي شارك في كتابتها وتلحينها نخبة من الفنانين آنذاك، على رأسهم الملحن جعفر الخفاش والشاعر كريم العراقي. من أبرز تلك الأغنيات التي جمعت فنانين وممثلين هلا بصدام، التي يبدو أنها سُجّلت في مبنى الإذاعة والتلفزيون، وجمعت كوكبة من نخب فناني العراق، منهم الممثلة النجمة سعدية الزيدي وابتسام فريد وأمل طه وغيرهم. تميزت تلك الأغنيات بالإيقاع الحماسي الجماهيري ووُزعت على يد كبار المؤلفين.
لاحقًا، تحررت بعض تلك الأغنيات التعبوية من ثقلها الأيديولوجي وأخذت أبعادًا وطنية خالصة، كأنشودة منصورة يا بغداد التي لحنها المؤلف الكبير طالب القارغولي، والتي أصبحت بمثابة النشيد الوطني الثاني للعراق. لا بد أن نذكر أيضًا يا كاع ترابج كافور التي لا زالت تملأ المناسبات الوطنية في العراق حتى يومنا هذا. رددت حشود الثوار الأغنيتين بحماسة في مظاهرات أكتوبر ٢٠١٩ في العراق.
بین أهم الأصوات التي مُنعت في عهد النظام البعثي قحطان العطار وفؤاد سالم اللذَين هربا خارج العراق، وصباح السهل الذي أُعدم شنقًا بعد أن سرّبت زوجته أشرطة يُسمع فيها المطرب وهو يشتم رمز النظام. اشتهر الثلاثة في السبعينات، كما عُرفوا بتوجههم اليساري، خصوصًا فؤاد سالم الذي قدم لاحقًا أغانٍ وطنية، وبسبب مواقفهم السياسية مُنعت تسجيلاتهم وألبوماتهم.
انتقل قحطان العطار إلى أمريكا سنة ١٩٧٦ لإقامة حفل مع فنانين آخرين، ثم عاد إلى العراق سنة ١٩٨٠ ليلتحق بمعهد الفنون الجميلة، ويتخرج سنة ١٩٨٢ تحت إشراف الملحن والمطرب عباس جميل، ثم يغادر العراق في نفس السنة تحت وطأة الظروف السياسية. في منفاه، أدّى العطار أشهر أغانيه: يا غريب الدار من دار الأهل، كما غنى قصيدة للشاعر جبار الغزي: يقولون غني بفرح (١٩٧٧) يقص فيها الشاعر طلب مسؤولي الإذاعة والتلفزيون آنذاك من الملحنين والشعراء تأليف أغاني “فرحة” بحسب قولهم، فكان رد الشاعر بصوت العطار وألحان محسن فرحان، رائد التجديد اللحني في الأغنية السبعينة والمتأثر بالمدرسة المصرية آنذاك، خصوصًا في التوزيع الهارموني واستعمال الأورج، كما في الأغنية:
“يقولون غني بفرح واني الهموم غناي
بهيمة زرعوني ومشوا وعزوا عليه الماي
نوبة انطفي ونوبه اشب
تايه بنص الدرب
تايه وخذني الهوى لا رايح ولا جاي
يقولون غني بفرح”
أما فؤاد سالم، الملقب بـ فنان الشعب، فرغم أغنياته الرومانسية إلا أنه كان محط شك السلطات بسبب توجهاته الشيوعية. مُنع أولًا من الغناء في الأماكن العامة ثم من دخول مبنى الإذاعة، وفي النهاية حكم عليه بالإعدام. بعد منعه من دخول مبنى الإذاعة والتلفزيون هرب سالم إلى الكويت، وبعدها أمريكا ثم دمشق حيث توفي سنة ٢٠١٣. في مقابلة معه، أشار سالم الى التضييق الذي تعرض له: “منذ البداية كانت طموحاتي تنطلق من قناعتي بأنني أتمكن من أن أضع قدراتي في خدمة الفن الغنائي. عملت في ظروف صعبة، حتى إذا ما وصلت إلى خلق القنوات والوشائج التي تربطني بالجمهور، بدأت مسيرة الطريق المحفوفة بالمطاردة والمضايقة والتوجس من الاعتقال. حتى عندما كنت أقيم حفلة غنائية، لم أكن أعرف عما إذا كانت تلك الحفلة ستنتهي بي إلى حيث يؤويني بيتي أو إلى إحدى زنزانات التوقيف.”
ألّف فؤاد سالم أشهر أغانيه: مشكورة (١٩٨٢)، في المنفى، والتي يعتب فيها على حبيبته العراقية التي لم تلحق به إلى الكويت واليمن. إضافة إلى أغانيه العاطفية، أنشد سالم إلى جانب شوقية العطار أشهر الأغاني الوطنية المحببة إلى قلوب العراقيين: يا عشقنا (١٩٨٨)، أوبريت من ألحان الموسيقار الرائد في تلحين المسرح العراقي المعاصر حميد البصري. تستعير الأغنية مفرداتها من المعجم العمالي – اليساري المرتبط بالأرض:
“خذني للمرواح عود
خذني شن لمنجلك
من يوجّ ضي الخدود شمعة في دير هلك
أضوي لأيام الحصاد الجاية
والبيادر كالجبال العالية
وقاعنا فضة وذهب واحنا شذرها
وايش حلاة العمر لو ضاع بعمرها
يا عشقنا، يا عشقنا، يا عشقنا”
لم يمنع حظر أشرطة الفنانين الثلاثة جمهورهم من تسريب تسجيلاتهم عبر الحدود الجنوبية (من الكويت عبر البصرة)، ونسخها وتوزيعها بشكل سري. كنت كلما أسأل عراقيًا عن فؤاد سالم والعطار يأتيني الرد: “كل ممنوع مرغوب.” حتى يومنا هذا، تتواجد أشرطة تسجيلات الثلاثة في أرشيفات بعض العراقيين ومحلات بيع الأشرطة القديمة.
في ظل التضييق السياسي على الفنانين والمثقفين، انكفأ بعض الملحنين والمغنين عن مواهبهم. اتسعت الساحة لأصوات أخرى لتقدم للشارع العراقي أغانٍ تعبر عن واقع حالهم، ومع بروز المدرسة الشعرية ذات النزعة الشعبية، لمع نجم عدد من الشعراء من بينهم سعدون قاسم، الذي قدم شعرًا في ظاهره رومانسي، بينما يروي بين سطوره الوقائع الأليمة التي نالت من إخوته وأولاد إخوته. صدحت حناجر كبار المطربين العراقيين بكلمات قاسم، مثل سعدون جابر وحسين نعمة وقحطان العطار ورضا الخياط. من أشهر أغانيه التي يرددها العراقيون حتى يومنا هذا بس تعالوا بصوت كريم منصور. رغم ظاهر كلامها العاطفي، يروي العراقيون قصتها التي تؤرخ وفاة إخوة الشاعر في سجون النظام في التسعينات. كما أن الملحن الجنوبي كاظم فندي أتقن تقديم الطابع الجنوبي الحزين ومواله في قالب توزيعي منسجم مع الأذن التسعينية:
“بس تعالوا
وفرحوا روحي معذبتني تريدكم
سهري ما مر ع الليالي
حالي حال الشمعة حالي
والله لو احکيلكم
من أول حکاية تهل دموعکم”
كذلك، يردد العراقيون قصة أغنية تعتب علي، التي يروي فيها قاسم رده على أخيه الذي عاتبه من السجن بسبب صمته على المظالم التي يتعرضون لها:
“علي تعتب علي ولا حي لغيرك ما سهر طرفي
ولا حي ولا حي ولا حي
ولا لذ بكرب معشر ولا حي
يا ويلي ولا حي لاني ميت بشوقك”
في خضم المعاناة الشخصية للشعراء، عبّر آخرون عن تجربتهم في النضال الحزبي (خصوصًا في الحزب الشيوعي)، حيث أنشد رضا الخياط – صاحب الأغنية الوطنية الشهيرة جنة يا وطنا (١٩٨٢) – أغنية والله لو مشوا، التي يقول بعض العراقيين أنها كتبت لأصحابهم في الحزب الشيوعي آنذاك. وبلحنها السهل الممتنع وإيقاعها السريع نسبيًا، الذي يعبر عن رغبة الموسيقار المجدد جعفر الخفاف بالابتعاد عن التقليد اللحني الحزين. يغني الخياط:
“والله والله لو مشوا
موسم ربيع يظلون
وکنا بديهم سنبله
وجانوا علينه يمطرون”
كان من أسباب نجاح تلك الأغنيات الحزن الغالب على بنيتها وألحانها. جاء ذلك الطابع الوجداني ليعبر عن رواسب تاريخية، اجتماعية وسياسية متأصلة في الذات العراقية وهوياتها العرقية والدينية المتشابكة.
صورة لجدار في دائرة الفنون الموسيقية في بغداد تظهر فناني فترة السبعينات والثمانينات
لم تكن أشكال المقاومة الثقافية خلال فترة الحكم البعثي محصورةً بتعريف واحد من تعريفات الأغنية السياسية ومعجمها الضيق، بل شملت مساحات إبداعية وألوانًا لحنية وشعرية واسعة. اليوم، وبعد مرور عقدين على سقوط النظام السابق، يحتل كثيرٌ من فناني تلك الفترة، الداعمين للنظام منهم والمعارضين، حيز الفنان العراقي الجامع الحافظ للتراث العراقي والأغنية العراقية الأصيلة. يوقظ ذكرهم نوستالجيا الزمن الذهبي للأغنية العراقية، الذي تزامن مع فترة ازدهار العراق. اليوم، تغطي صورهم جدران المقاهي الثقافية والدوائر والمراكز الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة، كما تنشَد أغانيهم في أهم المناسبات الوطنية، كأغنية يا عشقنا لـ فؤاد سالم وشوقية العطار، التي قُدمت على مسرح بابل خلال الاحتفال الوطني لإعلان بابل على قائمة التراث العالمي في تموز الماضي.