.
خلال ازدهار سوق شرائط الكاسيت، تربع حميد الشاعري على عرش أغنية البوب المصرية، كما قدم العديد من الأصوات الشعبية مثل حكيم وحمادة هلال؛ ووسط استمرار النجاح الكبير لعدة مغنيين شعبيين من الثمانينات، مثل حسن الأسمر وعبد الباسط حمودة، اختار العديد من المطربين والمطربات الجدد في التسعينات تقديم أنفسهم وبدء مسيرتهم من زاوية الغناء الشعبي. ظهرت العديد من الأصوات الشعبية البارزة في تلك الفترة، مثل شعبان عبد الرحيم، والمطربة الأهم في تاريخ الغناء الشعبي، شفيقة، إلى جانب أصوات أكثر تجاريةً مثل جواهر. كما ظهرت واختفت العديد من الأصوات والأسماء الأخرى، مقدمةً أغانٍ حققت شهرة كبيرة في تلك الفترة، مثل خالد زكي ومحمد أحمد وعوض عبد العزيز.
في مواجهة مشكلة التأريخ التي تعاني منها الموسيقى الشعبية على وجه الخصوص، تحاول القائمة استعادة ملامح ذلك العقد عبر أبرز الأغاني الشعبية التي شكَّلت التسعينات في مصر.
خالد زكي اسم لا يعرفه الكثيرون، ظهر في بداية التسعينات واختفى سريعًا، لكن لا أحد لا يعرف أغنيته الواد ده عينيه حلوين كده ليه التي يمكن اعتبارها من أكثر الأغاني الشعبية شهرة حتى الآن، وهي مثال نموذجي عن شكل الأغنية الشعبية في تلك الفترة، من التوزيع الموسيقي إلى الكورس النسائي ذو الأصوات المسرعة.
أيضًا واحد من غير المشهورين، لكنه قدم اثنتين من أهم أغاني تلك الفترة، الواد الجن، التي غناها آخرون بكلمات مختلفة، مثل أحمد الشوكي وحسن الأسمر، واسمع لما أقولك، التي تُعرَف أكثر باسم يلي وسطك وسط كمنجه. تنتمي هاتين الأغنيتين إلى حقبة التسعينات شكلًا ومضمونًا، حيث التوزيع المعتمد على الأورج والإيقاعات المتداخلة. توضح لنا هاتين الأغنيتين أيضًا كيف اشتهرت بعض الأغاني بأصوات غير مطربيها الأوائل، خاصةً عندما يكون المغنون الأوائل ممن نجحوا لفترة ثم اختفوا عن الساحة.
https://youtu.be/iYP_iUJyfQY
أغنية أخرى قدمها كثيرون، فغناها محمد أحمد وأضاف عليها صوت الكورس بشكل مسرع، ليحقق صوتها الغريب نجاحًا في وقتها. لكن الأغنية لم تحقق نجاحها الأكبر وتصل إلى الجميع ويكتب لها الخلود إلّا على يد حسن الأسمر، الذي قدمها في العديد من أعماله السينمائية والمسرحية. الشوكي له أغنية أخرى حققت نجاحًا كبيرًا في وقتها، كفاية حرام، ومنها أتت الجملة التي تم استخدامها بعد ذلك في التشجيع في مبارايات كرة القدم، وأصبح الكل يهتف “كفاية حرام … كفاية حرام.”
هذه إحدى الأغاني التي فاقت شهرتها شهرة مطربها، في هذه الحالة عادل الخضري، والذي غاب عن الساحة الفنية وعاد إليها دون أن يهرب من ميراث الأغنية الواحدة. ربما أتى نجاح إنت مين من محاولة الخضري أن يحشد لها كل الأدوات الأسلوبية للأغنية الشعبية وقتها، أو ببساطة من كلماتها سهلة التداول “لو إنت نار، أنا مايه”، والتي كانت سببًا في تحول الأغنية إلى نشيد راقص في الأفراح يغني الجميع بصحبته.
رغم إنه بدأ الغناء منذ كان عمره ١٥ عام، وأنه من عائلة فنية، فوالده هو عازف الترومبيت رؤوف الجنايني، إلا أن حمدي الجنايني لم يشتهر إلا في التسعينات، بأغنية واحدة: على نار قلبي قاعد على نار، التي اقتربت من شكل الأغنية الفلكلورية في التوزيع واستخدام المزمار الصعيدي.
شكل هذه الأغنية المنتمي إلى فلكلور الدلتا وغناء المجموعة جعلها سهلة الغناء وسط مجموعات الشباب، بينما جعلها توزيعها التسعيناتي وإيقاعها السريع، مع محاولات احتوائها لقالب المونولوج الفكاهي، تستحق مكانةً هامّة وسط الأغاني الشعبية في تلك الفترة.
https://youtu.be/AGjJq_Zc2VY
منذ بدايته، كان حكمدار الأغنية الشعبية، عبد الباسط حمودة، يؤكد على أنه مطرب شعبي من الدرجة الأولى، بأسلوبه في الغناء ولازماته الخاصة. احترت أي أغانيه الأشهر والأهم في تلك الفترة، استبعدت كلك عاجبني لأنها في الأصل أغنية سمير كوكو، كما استبعدت قدري لأنها لا تمثل عبد الباسط رغم جمالها، بينما أفسد التوزيع والكورس النسائي أغنية سيبوني أبكي. بين إديني قلبك ومتصحوش المواجع، كانت الكفة تميل دائمًا إلى الأخيرة، الأغنية الأقرب إلى شكل وطعم الحكمدار، الرقص على الأحزان. تشعر أن عبد الباسط يمسك سلاحًا أبيضًا ويطوح به في الهواء، يبتسم رغم كل الطعنات في جسده، ويصرخ: “سيبوني وارجعوا وانسو اسمي ومكاني”، ثم يكمل: “ده الجرح اللي انجرحته أحن عليّه منكم / صدقت كدبكم عشان بحبكم.” بكل بساطة يرقص وحيدًا مع أحزانه، لا يهتم ولا يبالي بالكورس، فيعيد المذهب بنفسه مؤكدًا على أن لا أحد سواه يستطيع التعبير عن حزنه.
https://youtu.be/3LQL_0anLaY
لو كان الاختيار من باب الأجمل وليس الأشهر، لوقع اختياري على موال بعتب عليك، لكن الأغنية الأشهر والأكثر انتماءً لفترة التسعينات من بين أعمال حسن الأسمر كانت أنا أهو وإنت أهو، خاصةً بعد غنائها مع فيفي عبده في فيلم امرأة وخمس رجال. جمعت الأغنية كل أدوات الأغنية الشعبية بنت تلك الفترة في اللحن والتوزيع والكورس، وصارت اختيارًا معتادًا كأغنية راقصة في الأفراح وجلسات السمر بين الفتيات.
لا يمكن كتابة قائمة مماثلة دون أن يكون شعبان في قلبها، هذه الظاهرة التي ضربت بقوة الصاروخ، وحققت نجاحًا وشهرةً بشكلٍ شبه فوري. لشعبان أغانٍ التصقت باسمه مثل أنا بكره إسرائيل، وأخرى ناجحة لكن لم يعرف الكثيرون أنها له، مثل كداب يا خيشة. لكنني اخترت أهل الطرب لأنها كانت إلى مدىً بعيد مدخله الرئيسي إلى الأوساط الشعبية في كافة أرجاء مصر، ونموذجًا مبكرًا لشكل الأغنية الشعبانية المعروفة. يسخر شعبان في أهل الطرب من سوء كلمات الأغاني والموسيقى، مكررًا الخطاب الذي يوجهه الآخرون إليه نفسه. ربما كانت سياسته أن الهجوم خير وسيلة للدفاع. على كل حال، كان سبب شهرة الأغنية هو الجزء الأخير الذي يتحدث فيه عن البانجو، والولد كريم والواد لانجو، وهو الاسم الذي اشتهرت به الأغنية وسط الجمهور.
ربما شفيقة هي الوحيدة التي لقّبت بالست بعد أم كلثوم، فعندما تكون في أجواء شعبية وتطلب أن تسمع للست، لا ست هناك سواها. كانت شفيقة نجمة شرائط الكاسيت، إذ تخطى نجاحها مساحة سرادق الفرح الشعبي، لتصبح جزءًا من أي مكتبة أغاني شعبية، من التسعينات وحتى وقتنا هذا. راجع تاني هي أكثر أغانيها شهرةً، يكفي صوتها وهي “تقول جاي بيشكي عيني يا عيني / راجع يبكي كان على عيني”، وكأنها تعلن أن صوتها خلق كي يغني الشعبي، ويصون نفسه من النسيان الذي غمر جزءًا كبيرًا من التسعينات.
بدأت شيماء الشايب، بنت المطربة فاطمة عيد، بالغناء ثم اختفت من الساحة وكانت لا تزال فتيّة، بعد فشلها في اقتحام ساحة البوب. اشتهرت شيماء بإعادة أداء الأغاني القديمة من أم كلثوم ووردة، وكانت تتقاسم هذه الأجواء مع طاهر مصطفى الذي كان لا يزال فتيًا بدوره. لم تقدّم شيماء سوى القليل من الأغاني الخاصة بها، حقق بعضها شهرةً في تلك الفترة، منها رجعتلي التي حاولت فيها شيماء تقديم أغنية شعبية تنتمي إلى تلك الفترة من حيث التوزيع والإيقاع، وفي نفس الوقت حرصت على أن تترك الأغنية لها مجالًا لتبرز صوتها، بداية من دخول الأغنية الهادئ، وحتى تزايد سرعة الإيقاع، إذ حافظت شيماء على دور البطولة مستغنيةً عن الكورال المعتاد في أغاني تلك الفترة.
في الحقيقة جواهر مطربة سودانية وليست مصرية، لكنها حققت النجاح والشهرة في مصر، خاصةً لغنائها بالعامية المصرية المطعمة باللهجة النوبية، ما جعل الكثر يتعاملون معها على أنها مصرية. اشتهر لجواهر أغنية على الكورنيش، لكن الأغنية الأهم والتي حققت التعارف بينها وبين الجمهور المصري، كانت أغنية حمادة، التي نرى فيها شكل الأغنية الشعبية وهي تتخطى حاجز الشعبي وتتجه صوب أغنية البوب الرائجة. كانت الفترة الثانية من التسعينات تشهد هذا التحول عند العديد من المطربين، على يد حميد الشاعري وعصام كاريكا ومصطفى كامل وأشرف عبده وغيرهم من الملحنين والموزعين.
ربما كان حكيم أول مطرب استطاع أن يعبر من الشعبي إلى البوب التجاري ويستمر في النجاح والشهرة، وأن يخلق مساحته الخاصة التي بات من الصعب أن ينافسه فيها أحد. في التسعينات، كانت انطلاقة حكيم الفعلية مع مكتشفه حميد الشاعري، مع أغاني مثل نظرة وبيني وبينك ونار. ثم كانت أغنية الحق عليه، مثال واضح وجميل للقناة الجديدة الواصلة بين الأغنية الشعبية والبوب التجاري. لحَّن حكيم الأغنية بنفسه، واعتمد على تجديدات توزيع حميد الشاعري من جهة، وعلى الكلام الشعبي المستند إلى نفس فكرة أغنية عدوية كونت دي مونت كريستو من جهة أخرى، ليفرض نفسه على الساحة ويؤسس لنجاحه المتسارع الذي أتى خلال الأعوام التالية.
كان الظهور الأول لخالد عجاج بألبوم يحمل اسم هذه الأغنية الشعبية من الدرجة الأولى، والتي تنتمي إلى المرحلة الأولى من التسعينات، حيث التوزيع والكورس ذو الصوت المزعج للأذن. تظل شكى على كل حال من أشهر وأهم أغاني خالد عجاج الشعبية قبل عبوره إلى ساحة البوب عبر تعاوناته مع حميد الشاعري.
انطلق حمادة هلال بدوره من الأغنية الشعبية، مقدمًا عدة أغاني في بداياته، مثل دموع التي حققت نجاحًا كبيرًا وشعبيةً لحمادة هلال وقت صدورها. كانت هناك أيضًا أغنية الأيام من ألبومه الأول. أصدر حمادة الألبوم وكان عمره لا يتجاوز السابعة عشر، السبب في خروجه علينا بصوته الرفيع المختلف والغريب، ما جعل الكل يعيد النظر في الأغنية الشعبية ومعايير جودة الصوت فيها ومدى قدرتها على الاستمرارية والنجاح.