.
قلةٌ من أعمال القصبجي وجدت طريقها إلى جمهور اليوم، وما زال الكثيرون يجهلون مكانتها في تاريخ الموسيقى وهوية ومكانة مبدعها. أبرزها رق الحبيب، ما دام تحب بتنكر ليه، ليه تلاوعيني، وإن كنت اسامح وانسى الأسية لـ أم كلثوم ولأسمهان يا طيور، إمتى حتعرف، فرّق ما بيننا ليه الزمان، أنا اللي أستاهل، واسقنيها. هناك أيضًا أنا قلبي دليلي لـ ليلى مراد. في قائمتنا هذه، سنبتعد عن الأغاني المذكورة لصالح أخرياتٍ للقصبجي ليست أقل مكانةً تاريخيًا أو جماليًّا، لكنها ليست من طوال أم كلثوم الشهيرة، وليست أنا قلبي دليلي.
ألف القصبجي في جميع قوالب الأغنية العربيّة، فأُحصي له ١٨٢ طقطوقة، ٤٣ مونولوجًا، ٣٠ قصيدة، ١٣ دورًا، موّالٌ واحد، موشّحٌ واحد، و٩١ أغنية سينمائيّة بين طقطوقةٍ ومونولوج. انحصرت أغاني هذه القائمة بين ١٣ مونولوجًا وطقطوقتَين، كون هذَين القالبَين خضعا للغالبيّة العظمى من تجديدات القصبجي. الطقطوقة هو القالب الذي تكاد تنحصر فيه كل الأغاني العربية المعاصرة، والمؤلّف من ثلاثة أو أربعة مقاطع غنائيّة، الأوّل يُسمّى المذهب، والبقية أغصان، يُكرّر غناء المذهب بعد كل غصن، ويكون إما للمذهب والأغصان لحنٌ واحد وإما للمذهب لحن ولكل الأغصان لحن. المونولوج قالبٌ مستوردٌ من الآريا في الأوبرا الإيطالية، وهي مناجاةٌ فرديّة عمادها السرد الوجداني الدرامي المتطور على طول الأغنية، لا تكرار فيها للكلمات والألحان إلا في حدود معيّنة.
لتوثيق المقامات وتواريخ صدور الأغاني اعتمدنا على موسوعة أم كلثوم لـ فيكتور سحاب.
https://www.youtube.com/watch?v=ypQDCVLQ1qY&list=PLRvp7aDy-UkFXa49mDt4B8QNBIos5whEV
عُرِف هذا المونولوج عند البعض بصوت سناء موسى دون أن يعلم أغلب مستمعيه أن تاريخه يعود إلى عام ١٩٢٦، وأنه من ألحان القصبجي وغناء أم كلثوم. يُمكن اعتبار قلبك غدر بي ممثّلًا للمرحلة القصبجيّة الأولى مع المونولوج. هنا بدأ القصبجي بتقسيمه اللحني الهندسي، والذي بدأ يؤثر في طريقة كتابة أحمد رامي لمونولوجاته وطقاطيقه مع القصبجي فيما بعد، سواءٌ في تقسيم الشعر لمشاهد وشكل ختام كل مشهد، أطوال الأشطر وعددها في البيت الواحد، وتنويعات القوافي الداخلية والخارجيّة. في هذا المونولوج ثمانية أبيات قُسّمت إلى جزأَين متساويين، لا يخلو كلاهما من لوازم قصيرة مُعتنى بها، ويفصل بينهما لازمة موسيقيّة جميلة وطويلة (١٢ ثانية) نسبةً لما كان دارجًا في الفترة التي صدرت فيها الأغنية، فوقتها لم تكن اللوازم جزءًا أساسيًّا من اللحن إلا عند القصبجي.
في الجزء الأوّل ذروة دراميّة تتوسُّطه على مرحلتين، تبدأ في البيت الثاني “ولما طال بي هواني”، وتكتمل في الثالث “والدمع أفصح لسان للي يخونه لسانه”، بينما يبدأ الجزء وينتهي بنبرة عتابيّة منكسرة في البيتين الأول والرابع. أما الجزء الثاني فيبدأ بتصعيد انفعالي يستمر حتى نهايته. يستكمل القصبجي بعد ذلك بناء الأغنية بتحديد مواضع التكرار، بدل تركها لارتجال المغنّي، فأول وآخر ثلاثة أبيات يُغنّى كلٌّ منهم مرّتَين، بينما الرابع والخامس يُغنّى كلٌّ منهم مرّة. بنيةٌ كهذه لا تنتج عفو الخاطر.
كما وجب ذكر وجود ملامح عرض صوتي أوبرالي تجريبي ما زال غير ناضج، ولم يبرر بعد وجوده ضمن السرد لدى غناء كلمتَي “لسان” و”راحة”.
كتب ياسر عبد الله عن هذه الأغنية في قائمته إماطة اللثام عن الألحان القدام : “أغنية قصيرة تصلح مثالاً على التكثيف القصبجي وصناعة لحن مشبع يستحق أن تصيح بعد سماعه “هو قصير بس كرباج”.” هي فعلًا كذلك. هُنا نجد بذور تقسيم الأغنية لمشاهد شعرًا ولحنًا. ١٢ بيتًا كل اثنين منهما بقافية، ويفصل بين كل قافية وأُخرى لازمة موسيقيّة أطول من اللوازم التي تتخلل بيتَي القافية الواحدة، لكن تقسيم المشاهد ما زال أقل وضوحًا مما سيصبح عليه في مونولوجات الثلاثينات.
تابع هنا القصبجي تجاربه البنيويّة والسرديّة بنجاحٍ كبير، لكل بيتين ذروة تُقدَّم بما يناسب كلماتهما وموضعهما، فآخر بيتَين من أوّل ستّة تغنيهما أم كلثوم دون إعادة، بينما يتم تعديل هذا الأمر جزئيًّا في الختام، فتُكرّر صدر البيت “أنا بحبّك لروحي/ واحتار ف حبك يا روحي” ولا تُكرّر عجزه “وارضى بطول الملام/ والشك يحيي الغرام” مُضيفةً لأثر الختام. مثالٌ آخر على تدعيم الذروة في البيتَين الثالث والرابع، فصدر وعجز الثالث “لو كنت دايمًا أشوفك أو كنت أملك فؤادك” مع صدر الرابع “ما كانش يسعدني طيفك” يُغنَّون مرّتين بينما يُغنّى الشطر الأخير “لما يزورني ف بعادك” لمرة واحدة مع تصعيد يبدأ بمد ألف “لمّا”. ومثالٌ على سحر الأداء واللحن في بيت “هو البلبل لما يرتّل.”
للأسف، لا نجد لهذه الأغنية نسخة بالسرعة الأصليّة، إما صوت أم كلثوم حاد لأن الأسطوانة المأخوذة منها مُسرّعة، وإما صوتها من الستينات بسبب تبطيء نسخة الأسطوانة أكثر مما يجب. هذه المُسرّعة والأجمل وقعًا على الأذن.
المونولوج الآيل إلى الطقطوقة، والذي أثمرت بنيته بعد عامَين طقطوقة إنتي فاكراني لـ أم كلثوم. ما يجمع هذه الأغنية بالطقطوقة تكرار البيت الرابع والأخير من كلٍّ من مقاطعها الأربعة شعرًا ولحنًا، مما يجعلها طقطوقة أخرى متعددة الأغصان (لكل غصنٍ فيها لحنٌ خاصٌّ به) قبل ظهور اللي حبك يا هناه لـ زكريا أحمد بعامَين. وما يجمع الأغنية بالمونولوج غياب بدء الأغنية بمذهب، وغياب المذهبجيّة قبل أن يُصبح الاستغناء عنهم تقليدًا، كما يغلب على النص طابع المناجاة وبروز الصوت الفردي فيه.
بالإضافة إلى البيت المُكرّر، يجعل القصبجي المونولوج مُقيّدًا بتوحيد لحن البيت الثالث لكل مقطع، كأن منيرة المهديّة طلبت منه أن يُقدّم لها مونولوجًا يُشابه إن كنت اسامح وانسى الأسيّة في كل شيء، العودة إلى اللحن ذاته في كل ذروة، الجرعة الانفعاليّة والعاطفيّة الكبيرة، والإضافة المُهمّة إلى أسلوب الأداء التي جعلتها تُقدّم هُنا أحد أنضج أداءاتها وأكثرها انضباطًا وشاعريّة حتى لدى الصعود إلى الجوابات.
في خاصمتني نجد أحمد رامي قد بدأ يطوّع شِعره بما يوافق أسلوب القصبجي من حيث طول الأبيات، وبدأ اللحن يحمل ملامح مزاجٍ وجدانيّ حزين سنميّزه في الكثير من أعمال القصبجي اللاحقة. هُنا بالذات نجد مسحة تأمُليّة مُحبّبة تبلغ أوجها في بيت “وافترقنا”، مع كلمة “خيال” التي تُذكّرنا بمزاج السنباطي الصوفي.
كتب رامي الشعر على شكل أربع رباعيّات، كل رباعيّة مكوّنة من ثلاثة أبيات بشطرَين، وبيت رابع من شطر واحد ينطلق معه القصبجي إلى ذُراه الدراميّة. لكن القصبحي لم يكتفِ بذلك، فقسّم الرباعيّة الواحدة إلى جزأَين، في كل جزء بيتَان، وكثّف التصعيد الدرامي في الجزء الثاني من كل رباعيّة، مُقدّمًا إيّاه بلحنَين، الثاني موحَّدٌ بين جميع الرُّباعيّات وفيه الذروة، جاعلًا بذلك المونولوج مُقيّدًا بعودته إلى تكرار جملة لحنيّة معيّنة خلال المونولوج على كلام مختلف في كل مرّة.
سحرت موسيقى هذا المونولوج محمد عبد الوهاب فلم ينتظر كثيرًا حتى اقتبس منه في العام التالي لصدوره مباشرةً لحن عجز أول بيت مع اللازمة الموسيقيّة التي تليه (لحن من أمر الخصام مع اللازمة هو لحن على شط النيل مع اللازمة)، مع لازمة موسيقية أخرى (التي تلي حالٌ بعد حال في خاصمتني والتي تسبق الدنيا كلها حاسدانا في إمتى الزمان).
مع هذا المونولوج بدأ القصبجي الثلاثينات بقفزةٍ في متانة سبك اللوازم وحصتها من زمن الأغنية، وفي دورها في بنيتها وأثرها، فتحولت إلى جسرٍ يأخذ المستمع من مشهدٍ لآخر. أبرزها اللازمة التي تلي أول بيتَين واللازمة التي تلي البيتَين الخامس والسادس، المتميزتَين بدفقٍ عاطفيٍّ وشجنٍ يرهق القلب. هُنا خمسة مشاهد كل واحدٍ منها فيه بيتان، ومُقسّمة أيضًا بتباين مقاماتها، فأول بيتَين مقامهما كورد، ثم بياتي، راست، بياتي، وأخيرًا نهاوند. في كل مشهد هناك تلوينات مقامية متقنة، كتلوين الحجاز على الراست في قولها: “وألقى النسيم”، وتلوين الصبا في مطلع البيت السابع.
نعود إلى المونولوج مع نموذج للصياعة القصبجيّة ومتعتها، خاصةً في الجزء الثاني من الأغنية الذي يبدأ بـ “تنام عيونه الليل”. اللازمة الرشيقة المُطرِبة التي تسبق وتتخلل مقطع “وابات انا سهران”، لحن كلمة “سهران”، لحن كلمة “ولهان” الذي ينتزع منك وقفةً مع “الله”، اللازمة التي تلي “ولهان” واستعمال الكاستنيات خلالها، مقطع “شاكي ومين بيسمع مني”، اللازمة التي تلي “هوان”، والتتالي تكرار فكرة موسيقية على درجة أعلى أو أخفض في مقطع “يمكن حبيبي يعود رضاه.”
هنا ننتقل إلى الطقطوقة، حيث خط القصبجي أيضًا مساراتٍ جديدة سُرعان ما تبعه إليها الجميع. بدأ ذلك مع تراعي غيري وتتبسّم عام ١٩٢٦ التي قدّم فيها أربعة أغصان ببنية لحنيّة خاصّة لم تتكرّر كثيرًا، كان فيها للغصن الأول والثالث لحنٌ وللثّاني والرابع لحن. اقتبس عبد الوهاب هذه البنية في يا مسافر وحدك. ثم في عام ١٩٢٨ قدّم القصبجي متنا ف حبك، الطقطوقة متعددة الأغصان الأولى في التاريخ. مع إنتي فاكراني وصلت تجاربه في بنية الطقطوقة إلى ذروةٍ جماليةٍ جديدة، فقد نضجت فكرة إلحاق الغصن أو جزء منه بالمذهب، والتي جربها أول مرة عام ١٩٢٤ في طقطوقة قال إيه حلف ما يكلمنيش لـ أم كلثوم.
ليس هذا فقط. جعل القصبجي لكل غصن في هذه الطقطوقة لحنًا خاصًّا، لكنه وحّد ألحان البيت الثالث من كل غصن “إوعي تفتكري”، “ده الفراق قاسي”، “وانتي ليه ترضي” بلحنٍ تشتاق لعودته، مُمهّدًا بذلك للجزء الملحق بالبيت من المذهب، ومُضيفًا تماسكًا وجاذبيّةً تجعلك تدمن سماع الأغنية. هذا بالإضافة طبعًا إلى مقدمة ولوازم موسيقيّة في قمة الجمال والشاعريّة. هذه الطقطوقة توأم ذات الشهرة الأكبر ليه تلاوعيني، لكنها تسبقها بعامَين وتزيد عنها بالشجن أضعافًا.
لن تسمع كلمات “العيون”، “الشجون”، الظنون”، و”الفنون” بأجمل مما ستسمعه في هذا المونولوج. هُنا بنيةٌ جديدة وأثرٌ انفعاليٌّ آسر. تضعك المقدّمة في أجواءٍ حالمة ومثيرة لتساؤلات النفس، ثم يبدأ المونولوج المُقيّد بمواضع تُطلق العاطفة. الشعر مُقسّم لأربع رباعيّات على شكل خاصمتني، أما اللحن فيُدعّم التقسيم بثلاثة تفاصيل: الأول، الإفادة من تشابه أولى كلمات البيت الثالث من كل رباعيّة لجعل ألحان هذه الأبيات متماثلة. الثاني، بتوحيد اللازمة الموسيقيّة التي تسبق البيت الثالث في أول وثاني رباعيّة، ثم في ثالث ورابع رباعيّة. الثالث، بتوليد اللوازم في البيت الأّوّل والثاني من الرباعيتين الثانية والثالثة من اللازمة التي تسبق الرباعيّة، في حين تتميّز الرباعيتان الأولى والأخيرة بلوازم مستقلّة لأوّل بيتَين. قد تشعر أن الكلام كثير ومعقّد، وهذا صحيح. القصبجي يعلم أن ذلك كله لا يعنيك ولا يقوم به آملًا أن تلحظه. هو الأثر الذي يهم القصبجي، الذي يعلم أنه بهذا العمل المكثّف سيُنتج جديلة من العواطف تفرض نفسها على قلبك، اسمُها فين العيون.
مونولوج صعب غني بملامح التفكير التلحينيّ القصبجي. أبرز تلك الملامح هُنا تحدّي تعقيد بنية الشعر ببنية لحنية أعقد صياغةً، لكنها أقدر على إيصال الأثر والإطراب. نوّع رامي هُنا القوافي بشكلٍ يستثير تعقيد اللحن. قافيتَان عموديّتان رئيسيّتَان لكل بيتَين من أول ستة “لفرح – الروح”، “عيوني – الحنينِ”، مع قوافٍ فرعيّة في كل شطر “انظري هذا – اسمعي هذي”، “يا لعينيكِ – ما لخدَّيكِ”. ثم قافية أفقيّة للبيتَين السابع والثامن، سواء بين شطرَي كل بيت “رضا – قضى” أو ضمن الشطر نفسه “ولهان – فرحان”، ثم عودة إلى القافيتَين العموديّتين لكل شطرَين في آخر بيتَين.
أقام القصبجي لحنيًّا عمودَين تتشابك بينهما خيوط السرد، وذلك بإعادة لحن كلمة “انظري” التي تبدأ أوّل بيت في الأغنية مع لازمتها في آخر بيت، لحن “هذه” هو لحن “انظري”. بين العمودَين ستّة مشاهد، يفصل بينها لوازم مشغولة وخاصةً التي يعزفها القصبجي سيُّد العود بنفسه بعد كلمة “فرحان”. لا تتساوى جميع المشاهد بالطول شعرًا بينما تتساوى بالأهميّة لحنيًّا. كل بيتَين من أوّل ستّةٍ مشهد، ثم البيت السابع والثامن كلٌّ منهما مشهد، وآخر بيتَين مشهد. يربط هذا التقسيم مواضع تكرارٍ وتكثيفٍ مقامي بالغة الدقة والروعة. في أوّل ثلاثة مشاهد، يُكرَّر لحن الكلمة التي تبدأ أوّل بيت في المشهد مع الكلمة التي تبدأ البيت الثاني، كما في لحن كلمتَي انظري واسمعي، لحن يا لعينيك ويا لخدَّيك، ولحن كلمتَي صارحيني ونادميني. في البيت السابع الذي يُشكّل لوحده مَشهدًا، يُفيد من تكرار الفكرة شعرًا بتكرار لحن أوّل شطر على الشطر الثاني، كما يتكرّر البيت غناءً ولوازمًا ثلاث مرّات كلٌّ منهما على مقام، وبشكلٍ هو من ابتكره يقوم على جعل المقام ملتبسًا باختلاط المقامات في أوّل البيت ثم يستقر في آخره على مقام. ببراعةٍ كهذه في التعامل مع المقامات، منح القصبجي البيت الواحد وزن مشهدٍ متكامل. أما البيت الثامن فلا يُعمل فيه كل ذاك التعقيد تمهيدًا لتكثيف الختام مع المشهد الأخير. حيث يُغنّى البيت الأوّل مرّتين على مقامَين مختلفَين. ثم يعود إلى لحن “انظري” مع بدء البيت الأخير بـ “هذه”، ويختم بالذروة الانفعاليّة مع الشطر الثاني.
لا توجد وداعات كثيرة في تاريخ الأغنية العربيّة على هذا القدر من الرقي وعمق الإحساس. يحمل هذا المونولوج صفتَين قصبجيّتَين في إحدى ذُرى اجتماعهما: الأولى هي الدفق الوجداني، فكأن سيلًا من العواطف جرى مع بداية الأغنية. والثانية هي بروز دور الموسيقى، حيث نشعر بأن الأغنية دويتُّو بين أم كلثوم والفرقة الموسيقيّة، كالتصعيد الدرامي في اللازمة التي تلي بيت “وبكى قلبي مما / ذاع في الكون وشاع”، والذي يُذكّر بالكثير من لوازم السنباطي المُشبعة دراميًّا. كذلك اللازمة التي تسبق مقطع “أيها الفلك على وشك المغيب / قف تمهّل إن لي فيك حبيب”، قلما وُجد تمهيد موسيقي للفكرة الشعريّة بهذا الإتقان، خاصةً الصلة التي نلمسها بين اللازمة ولحن كلمتَي “قف تمهّل” العبقري.
يتميّز هذا المونولوج أيضًا بوجوه تكرار بارزة الاختيار والأثر. الأول يُفيد لخلقه من تقارب المعاني، فلحن الشطر الأول من أول بيت “أيها الفلك على وشك الرحيل” هو لحن الشطر الأوّل من البيت الثامن “أيها الفلك على وشك المغيب”، وفي ذات البيتَين تكرار للحن كلمة “خليل” على كلمة “حبيب”. أما التكرار الثاني فباستعادة جزء من لحن المقدّمة في اللازمة الأخيرة مُكوّنًا ما يُشبه القنطرة. بالإضافة إلى ختامٍ لا يُشبه الختام، بل يتركك معلّقًا.
لا أعرف عن خمس دقائق في تاريخ الأغنية العربيّة بهذا الغِنى. هُنا دليلٌ استثنائي على اختيار القصبجي دومًا لباب تلحين مختلف لا يدخل منه إلا هو. لا يبحث الكثيرون عن كلمة غير “العيد” لبناء مزاج أغنيةٍ اسمها “يا بهجة العيد”، لكن القصبجي وجد نوعًا مختلفًا من الاحتفاء بالعيد في بيتَي “يا نديم الروح صفا وقت الخيال / والنسيم ساري عليل” و”غنِّ لحن الشوق وهني بالوصال / كل من كان له خليل” اللذَين اختتِمتْ بهما القصيدة، وقرر البناء عليه، هنا البهجة أكثر روحانيةً، سبقت العيد إلى القلب بقرب نديم الروح منه، واستُكملت بالعيد.
تبدأ الأغنية بمقدّمة فخمة من ثلاثة أقسام، الأول هادئ الإيقاع جليل الوقع، وكأن موكبًا طال انتظاره قد وصل. يتسارع الإيقاع مع القسم الثاني موحيًا بما يُشبه تراكض الحشود للقاء صاحب الموكب، حتى تعود المقدّمة مع القسم الثالث إلى ما كانته في الأوّل، فصاحب الموكب ينتظرُ شخصًا بعينه لم يأتِ للقائه بعد. يسبقُ الشخص المنتظر صوته الآتي من بعيد بغناء أم كلثوم للبيت الأوّل.
تستغرق المقدّمة دقيقة و٣٧ ثانية من زمن الأغنية القصير، لكنها ومع كل جمالها، لا تطغى على بريق ما تبقّى من الأغنية. من لوازم تتمايل معها طربًا، ألحان أقسام وكلمات لا تمل تكرارها، كلحن “والنسيم ساري عليل” ولحن كلمة “خليل”، إلى الختام المُعلَّق الذي لا يتقنه أحدٌ كالقصبجي.
منذ بدء المُقدّمة نشعر أن اللحن مُعد لفرقة أكبر، ويؤكَّد ذلك بالهارموني في عدّة مواضع، أبرزها اللازمة التي تسبق “طال الندا”. لهذه اللازمة أيضًا أهمية كبيرة في البنية وهندستها، فهي تأتي بعد آخر نداء، مولّدةً من المُقدّمة التي تسبقُ الأوّل، لكن في حين تأتي المُقدّمة تصاعديّةً يجعل القصبجي هذه اللازمة تنازُليّة كما في لحن تكرار كلمة “حبيبي”، ثم يبدأ بعدها مقطع “طال الندا ولا ردّ حبيب.”
تفصيلٌ مشابه نجده في جعل لحن كلمة سمعت هو نفسه في البيتَين الثالث “سمعت من بين الأشجار / وسمعت من شط الأنهار” والرّابع “وسمعت من جو الأطيار / ترديد ندايَ: حبيبي”، مع ورود صفيرٍ كالتغريد في اللازمة التي تسبقهما، وتكرار الصفير ذاته في اللازمة التي تسبق بيت “وفضلت أنادي / في كل وادي” وخلاله. بالإضافة إلى تكرار لحن أول نداء “يقول معايَ: حبيبي” مع النداء الثاني “ترديد ندايَ: حبيبي” والثالث “لما يناديك: يا حبيبي”. مع هذا لا نكتفي من جمال النداء ولحنه، وغنائه الذي يُشكّل مع غناء كلمات “ياما” و”الأطيار” تمثيلًا لأحد تجديدات القصبجي في أسلوب الغناء.
في فيلم نشيد الأمل، تتزوج آمال (أم كلثوم) وتتطلق ممن لا تحب. في لحظة خلو، تستعيد ذكريات آمالها الضائعة وتُغنّي أغنية من أربعة أقسام لكلٍّ منهم مزاجٌ خاص، من لحن القصبجي وتوزيع عزيز صادق. في القسم الأوّل تستذكر آمال نهايات أحلامها المأساوية وتنهيه بـ “والباكي طول الليل سهران”، تُصاحب هذا القسم آلات موسيقيّة معدودة. الثاني يبدأ بِتَوقٍ بدأ يغزو اليأس، ويُعيد الرغبة بالحلم، ممثلًا ذلك بلازمة عبقريّة. بداية اللازمة عزفٌ منفردٌ على العود للحنٍ تُكرّره فرقة موسيقيّة كبيرة، مُقرّبةً آمال أكثر من ثراء قصر أحلامها، تُغنّي بعدها “إمتى يا ربي / يتهنّى قلبي”، ثم تتكفّل لازمة تصاعديّة مشحونة عاطفيًّا بعمل المؤثرات البصريّة التي لم تكن موجودةً وقت صدور الفيلم، لازمة تأخذ آمال إلى أرض خيالاتها مُبدِلَةً ضيق منزلها الفقير بسعة قصرٍ فخم، تُغنّي فيه عن أمانيها بحماسٍ لا ينسيها الواقع، لذلك يصعب التأكُّد من قدر الفرح في غنائها “والقلب فرحان وهاني”، خاصةً عندما تلي المقطع لازمة القسم الثالث المُكوّن من بيتَين يبدآن بـ “أبلغ مرادي”، حيث يتراجع الحماس ليحل محله رجاء، في الوقت ذاته يتراجع عدد الآلات الموسيقية المشاركة وتعود إلى بساطتها الأولى. القسم الرابع مكوّنٌ من بيتٍ واحد “يا رب تصدق أوهامي / يا رب حقق أحلامي”، لكنه يستغرق دقيقة و٢٠ ثانية من زمن الأغنية البالغ ٦ دقائق و٢٠ ثانية، تعود خلالها آمال إلى ضيق واقعها، وتناجي ربها أن لا تبقى أحلامها أوهام، لكنها تشك خلال مناجاتها في مدى استحالة ما تطلبه، فتقول “أوهامي” بانفعالٍ يتراجع تدريجيًّا حتى يصبح إدراكًا لمعنى كلمة “وهم”. بعد ذلك يداعب قلبها بعض الأمل في مقطع “يا رب حقق أحلامي” فتُغنّي “أحلامي” بتصاعدٍ كالذي سبق خيالاتها في مقطع “أشوف خيال الهنا.”
صحيحٌ أن هذه أغنية سينمائيّة وتجعلك مشتاقًا لرؤية المشهد الذي صاحبته ليكتمل تأثيرها، لكن للأسف لا تُضيف مشاهدة المشهد الأصلي أي شيء، بسبب كسل التنفيذ، وصعوبة الإتيان بصور بصرية على قدر الموسيقية بالإمكانيات المتاحة وقتها. لأكثر من دقيقتَين في بداية الأغنية نشاهد أم كلثوم جالسةً أمام الكاميرا ويدها على خدّها كما قد يفعل الكبار أمام الصغار لتوضيح أنهم الآن في حالة حزن، وحين يأتي وقت تبدل الحال من البيت الفقير إلى القصر باللازمة المتدرّجة تصاعديًّا، تُستبدل التدرّجات بقفزة مونتاجية مُتأخّرة على الشاشة. يضاف لكل هذا طبعًا أن التمثيل لم يكن يومًا من مآثر أم كلثوم.
بلغ القصبجي مع يا مجد ومنّيت شبابي قمّتَين في جعل اللحن والأداء العربيَّين قادرَين على استيعاب العلوم الغربية. في هذه الأغنية ١٩ تلوينًا مقاميًّا في أقل من ٧ دقائق قلما وجد مثلها خارج السيمفونيّات، مع توظيف تاريخي للهارموني يجعل لها هيبة وإثارة سيمفونية عربيّة. “إن هذا الاستعمال للتلوين المقامي المتشعب جدًّا إلى جانب الجمل اللحنية الرائعة واللوازم الموسيقية الهارمونية يجعل من مونولوج القصبجي آريا أوبرالية بكل معاني الكلمة، فالموسيقى عربية، عُرب الغناء عربية، الإيقاع عربي، والهارمونيا ذات طابع عربي” كتب سليم سحاب عن إنجاز القصبجي في هذا المونولوج.
الشخصية السينمائية المرحة والنابضة بالحيويّة لـ ليلى مراد تتجسّد كاملةً في هذه الأغنية، كما نجد القصبجي في قمة براعة بناء المزاج المناسب والوقع الأمثل لكل كلمة، كأنَّه بلحنه قام بإخراج المشهد الذي تظهر فيه الأغنية وكان الموجّه الأدائي لـ ليلى مراد. نجد ثمار هذا التعاون في الشهيرتَين مش ممكن أقدر أخاصمك وأنا قلبي دليلي.
في هذه الأغنية أيضًا تقليدٌ أبدعه القصبجي، وهو جعل مركز الطقطوقة لازمة موسيقية نابضة، يبدأ بها الأغنية كمقدّمة، ثم يُكررها بعد كل غصن، كما في ياللي جفيت ارحم حالي وما دام تحب بتنكر ليه لـ أم كلثوم، أنا قلبي دليلي لـ ليلى مراد، وفين الحبيب لـ نور الهدى. لكن طبعًا، حتى مع مركزٍ متماسكٍ كهذا، لا ينسى إبداع لوازم رائعة – كالعادة – ومُكثِّفة لحيويّة الأغنية، كالتي تلي غناء “والمكر جوا عنيك”، مع جمل غنائيّة تصاحبك بعد انتهاء الأغنية وتجبرك على العودة إليها، كجملة “أضحككم واسليكم وانادمكم واواسيكم.”
يوافق اليوم مرور ٥٢ عامًا على وفاة القصبجي. لم يُنحت لهُ تمثال، لم يُفتتح متحفٌ لأعواده، لم يُكرّم بلقبٍ أو وسامٍ أو جائزة، وحتى اليوم يبقى كرسيُّه الفارغ وراء أم كلثوم أكبر تقديرٍ معروفٍ له. كان غيابه عن هذا الكرسي لأول مرة في أول حفلٍ للأطلال، حين غنّت أم كلثوم: “وانتبهنا بعد ما زال الرحيق / وأفقنا ليت أنّا لا نفيق.”