fbpx .
Aris San
أجنبي قديم

الرجل الغامض الذي منح إسرائيل موسيقى الشرق

شادي لويس ۲۰۱٦/۰٤/۰٤

لأسباب غامضة، استقل أرستديدس سيساناس مركبًا متوجهًا من أثينا إلى حيفا، في تاريخ غير محدد في النصف الثاني من عام ١٩٥٧. الغموض المحيط بوصول الفتى اليوناني ذو السبعة عشر عامًا إلى إسرائيل لا يتعلق فقط بتاريخ وصوله أو مكانه. هناك روايات أخرى تقول إنه وصل إلى يافا، وأخرى إلى تل أبيب. لكن الغموض يمتد أيضًا لأسباب مغادرته المفاجئة لمسقط رأسه، مدينة كلاماتا، في شبة جزيرة المورة اليونانية. تطرح الروايات المتضاربة احتمال تتبعه لفتاة يونانية من يهود تسالونيكي، بينما في رواية أخرى أنه فرّ من التجنيد الإجباري في اليونان، أو أنه كان لاجئًا يونانيًا من تركيا. أقلّ الروايات تداولًا وأكثرها إقناعًا هي أنه حصل على وعد بالعمل في أحد الصالات الليلية المملوكة ليهود يونانيين في تل أبيب.

على متن المركب، غيّر عازف الجيتار المبتدئ اسمه اليوناني الأرثوذكسي إلى آخر عبري سيلتصق به طوال حياته. أريز سان. جرّب سان حظه في ملاهي ليلية في تل أبيب يملكها يهود من أصول يونانية، وانتقل لاحقًا إلى يافا ليبدأ رحله صعوده في ملهى أريانا الذي كان نقطة التجمع ليهود تسالونيكي الموجودين في إزمير حاليًا. بدأ يهود تسالونيكي  هجرتهم إلى فلسطين بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم تسارعت هجرتهم أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. كانت أحوال المهاجرين اليونانيين أفضل من اليهود المشرقيين القادمين من الدول العربية وتركيا، فهم بالنهاية أوروبيين بِيض. لكن تسامح السلطات الإسرائيلية مع أصولهم البيضاء لم ينسحب بالضرورة على ثقافتهم وبالأخص موسيقاهم الريبتكو التي كانت متأثرة كثيرًا بالتقاليد الموسيقية التركية والعربية، إن لم تكن فرعًا منها.

لم تكن النخبة الإسرائيلية الأشكنازية وحدها المنزعجة من تلك الموسيقى الشرقية، وما تحمله من مخاطر التشريقالتي حملها اليهود العرب والشرقيين معهم بالعموم إلى إسرائيل. السلطات اليونانية أيضا حاربت الربيتكو بشدة منذ إعلان الاستقلال اليوناني وعملت على حظرها من محطات الإذاعة الرسمية والأماكن العامة. حتى الحانات التي سُمعت فيها الريبيتيكو كانت تغلق بحجة تعاطي الحشيش. شنّت النخب اليونانية، والإسرائيلية، معركة تطهير أيديولوجية لتنقية ثقافة مواطني بلديهما حديثتا النشأة من الشوائب الشرقية والعثمانية. كانت تلك المعركة تتويجًا للحلم الأوروبي الكلاسيكي باستعادة أصول الحضارة الأوروبية اليهوديةالهيلينية، وإعادتها لصورتها الأصلية الأكثر نقاء، سياسيًا وثقافيًا.

في الوقت الذي بدأ يعرف فيه سان في يافا كعازف جيتار بارع وملحن موهوب، كانت موسيقى اللايكو، وهي نسخة منقحة من الربيتكو، هي الرائجة في ملاهي المجتمع اليهودي اليوناني. عملية التنقيح تلك بدأت في اليونان واستكملها يهود اليونان في مهجرهم الجديد. خارج تلك الملاهي، كانت الموسيقى الأوروبية والأمريكية الرائجة في نهاية الخمسينات هي النمط الموسيقى الوحيد المسموح به في الدولة العبرية.

مقطوعة من تلحين سان، يطغى فيها تأثير موسيقى الروك على التأثيرات اليونانية والشرقية.

لم يكن سان موسيقيًا استثنائيًا بالضرورة، لكن قصة هجرته الغامضة ناسبت رغبة المجتمع الإسرائيلي في تصور نفسه كمجتمع متعدد ومتنوع، يجتذب المهاجرين والمبدعين من غير اليهود. سرعان ما اجتذب سان اهتمام النخب الإسرائيلية السياسية والعسكرية، حتى أنه تمتع بصداقة حميمة مع موشي ديان عسكري وسياسي إسرائيلي كان له دور كبير في قيام دولة اسرائيل، الذي قام بالضغط على السلطات المدنية الإسرائيلية من أجل منح سان الجنسية الإسرائيلية بشكل استثنائي.

علاقات سان ونفوذه المتنامي في الأوساط الفنية أيضًا سمحت له باتخاذ خطوة أكثر جرأة وأهمية، وهي إدخال ألحان وإيقاعات شرقية صريحة في مقطوعاته وأغانيه، بل والوصول بها إلى أجهزة الإعلام الرسمية والتلفاز والإذاعة وشركات الإنتاج واسعة الانتشار.

أغنية من تلحين سان، يبدو فيها بوضوح تأثير موسيقى اللايكو وتوزيع الأغاني الإذاعية العربية وإيقاعاتها.

أحد أشهر أغاني سان، بوم بام، والتي تستعير جمل موسيقية وبعض الكلمات من أغنية إنت عمري لأم كلثوم، بالإضافة إلى سولو الجيتار الطويل في نهايتها.

شكّل ولوج موسيقى سان للمؤسسة الثقافية الرسمية في إسرائيل دافعًا لإعادة تعريف الموسيقي الشرقية. كان الاسم الجديد الذي تم صكه لتلك الموسيقى المنبوذة هو موسيقى المتوسط. اسم يخفف وطأة نسبها للشرق، أو العرب، على النخبة الإسرائيلية. سمح هذا التعريف الجديد بوصول موسيقيين آخرين، معظمهم يونانيين أيضًا، إلى صدارة المؤسسة الفنية في إسرائيل وحتى إلى السينما. رفض هؤلاء هذا التعريف الفضفاض لموسيقاهم، واستبدلوه بتعريف أكثر وضوحًا في نسبته للشرق، لكنه لا يقل إشكالية: الموسيقى الأورينتالية، وأحيانًا الموسيقى المزراحية مزراحيم تعني مشرقي.

أغنية للموسيقي اليوناني الأصل، جاكي ميكايتن، والذي يُشار له كأحد رواد الموسيقى الأورينتالية في إسرائيل.

مثلما ظهر سان فجأة في إسرائيل، اختفى فجأة منها. بعد تردد إشاعات عن تجسسه على إسرائيل لصالح جهة غير محددة، استقر سان في نيويورك، وافتتح ملهًى ليليًا فيها إلى أن ألقي القبض عليه من قبل الشرطة الأمريكية الفيدرالية وأدين بتهمة الإتجار بالمخدرات والعمل مع المافيا. في هذه الأثناء كان اليهود العرب في إسرائيل قد وجدوا في موسيقى سان وغيره من اليونانيين منفذًا للولوج لأول مرة بموسيقاهم العربية إلى الساحة الرسمية، وكانت تلك الخطوة مقرونة بتأكيد مزراحية موسيقاهم، أي شرقيتها ويهوديتها في الوقت نفسه.

أغنية وردتين لزوهر أرجوف، المغني الإسرائيلي من أصل يمني، والمعروف بـ ملك الموسيقى المزراحية.

تم استيعاب الموسيقى المزراحية تدريجيًا داخل المؤسسات الفنية الرسمية في إسرائيل، وإن ظلت تنتمي لتصنيف أدنى مقارنة بالموسيقى الإسرائيلية ذات الأصول الأوروبية والأمريكية. قضى سان عامين في السجن في الولايات المتحدة ثم غادر مرة أخرى، إلى المجر هذه المرة، حيث افتتح ملهًى ليلي. في عام ١٩٩٢ توفي سان في ظروف غامضة في بودابست. يقول البعض إنه تم اغتياله، بينما يدعي آخرون أن سان دبّر قصة موته ليختفي عن الأنظار تم إحراق جثمان سان في مراسم سرية حسب وصيته.

بعيدًا عن لغز حياة وموت سان، ما هو مؤكد هو كونه قد لعب دورًا جوهريًا، دون قصد غالبًا، في ولوج موسيقى اليهود من أصول شرقية إلى الحيز الإسرائيلي العام. يبدو أن جاهزية سان الاستثنائية للعب ذلك الدور ترجع لكونه ليس يهوديًا، وبالأخص ليس شرقيًا. بالطبع كانت هناك عوامل سياسية واجتماعية أكبر وأعم. استقرار المشروع الصهيوني وتوسّعه خاصة بعد النكسة، ولاحقًا باتفاقية السلام المصريةالإسرائيلية، منح النخب الإسرائيلية شعورًا بالأمان، لطّف من حساسيتها الأيديولوجية تجاه التأثيرات الشرقية، وعزز من ثقتها في قدرتها على احتواء موسيقى وثقافة التشريقعبر إذابتها ثم تسليعها وتروجيها، بدلًا من منعها ومحاصرتها كما في السابق.

المصادر

مقال في هاآرتز

فيلم لغز أريس سان

مقال موسيقى المزراحيم: ثقافة الإثنية والطبقية في إسرائيل

كتاب الموسيقى الجماهيرية والثقافة الوطنية في إسرائيل

المزيـــد علــى معـــازف