.
حين تم الإعلان عن عرض مشروع وصل الجديد لـ كميليا جبران مع سارة مورسيا وفيرنر هسلر ضمن مهرجان جرش في المركز الثقافي الملكي بعمّان، لم أستطع إلّا أن أتخيّل آخر مرّة شاهدت فيها كميليا في نفس المكان لعرض مشروع ونبني. ففي نهايات العام 2010، حدّدت كميليا عدداً محدوداً تم استدعاؤهم إلى غرفة التدفئة في الطابق الثاني تحت الأرض وسط الغبار وأرشيف الملفّات السوداء الضخمة.
لكنّنا تعرّضنا إلى ما يشبه الخدعة. ففي جوّ عمّان العاصف والخانق والذي بلغت حرارته ٤٢ درجة مئويّة، فكّرت في تجربة المكوث في مكان هادئ ومعزول للاستماع إلى مشروع الثلاثي، الذين عملت معهم كميليا كل واحد على حدة قبل ذلك مع شريكها المبكّر فيرنر هسلر في ألبومي وميض و ونبني. ومع سارة مورسيا في نول، لأكتشف أن التجربة تروق لي.
لكنّنا دخلنا، بدلاً من ذلك، إلى المسرح الرئيس الذي يتّسع للمئات، بكراسي المخمل الحمراء التي تمنح حسّاً رسميّاً طاغياً، والمسرح الذي استضاف قبل ذلك فرقة قوّالي بكامل أعضائها الموسيقيين والمصّفقين. لتتوسّط كميليا فيرنر على يسارها (إلكترونيّات وترومبيت ومؤثّرات صوتيّة)، وسارة على يمينها (كونترباص).
عند بدء الحفل بأغنية الزّين من كلمات حسن نجمي، الشّاعر المغربي الذي تعاونت معه كميليا طيلة الجزء الثاني من مسيرتها بعد فرقة صابرين، نكتشف أنّنا أمام صوت ضخم ينحرف عن مشاريع كميليا السّابقة بسعيه إلى ملء المساحات الصوتيّة، لا تفريغها– وهذا ليس وصفاً دقيقاً، لأنّنا سنكتشف لاحقاً أن الوسيلتان هدفهما واحد: تفكيك الجملة الموسيقيّة كما اعتدنا عليها.
ومع ترومبيت فيرنر ومؤثّراته الصوتيّة، وكونتراباص سارة، وعود كميليا، ثم صوتها، التي تهدف جميعها لملء تلك المساحة، بدا أن الثلاثي يقوم بدوزنة آلاته، لا العزف– على الأقل هذا ما يمنحه السّعي نحو اللامقاميّة. لكن ذلك ليس وصفاً دقيقاً أيضاً. فإذا استعدنا الواقعة المشهورة في حفل من أجل بنغلادش العام ١٩٧١، حين بدأ رافي شانكار وفرقته بدوزنة آلاتهم، ليتحمّس الجمهور ويصفّق للقطعة المفترضة، حتّى يشكرهم شانكار: “إذا قدّرتهم الدوزنة كثيراً، آمل في أن تسمتعوا بعزفنا أكثر من ذلك“، نستعيد معها كل المحاولات التي تبدأ من تلك اللحظة الذي يتخلّى فيها الموسيقيّ عن فكرة هدم المقام، ويسعى إلى بنائه مرّة أخرى. لكنّنا هنا نشعر بالألفة عندما تبدأ كميليا بالغناء “يا ليل، آه، يا عين“، رغم أن الآلات الموسيقيّة تلعب أدواراً غير مخصّصة لها: فالعود يلعب دوراً إلكترونيّاً بدلاً من وتريّ حميم، والكونتراباص يلعب دوراً إيقاعيّاً، بينما يمنح الترومبيت، ثم الضجيج، للمفارقة، حسّاً لحنيّاً يكاد أن يكون واضحاً في اتّخاذه لدور الوتريّات.
هذا ما ينسحب أيضاً على الأغنية التالية وهي وسواس، التي كتبها الشّاعر الفلسطيني سلمان مصالحة. وهذه المرّة مع مقدّمة طويلة نسبيّاً للكونتراباص يدخل في منتصفها الضجيج حتّى ينتظما في لحن واحد، ثم تنقضّ كميليا فجأة بطاقة تشبه طاقة الرّوك. ليتحوّل المسرح حينئذٍ إلى مشغل كثير الحركة يسعى كل من عليه لتهديم ما بدأه بإصرار يشبه، أيضاً، إصرار الروك.
ثم تأتي أغنية شرقيّة لمصالحة أيضاً التي يمكننا اعتبارها ذروة العرض. مع الكلمات المأساويّة كالعادة، تبدأ كميليا: “على الأكتاف أحمالٌ من الشّرق الذي نزف” لتراوح بين الفصحة والعاميّة، مكتشفين أثراً تركته هي نفسها في ألبوم نول في استعادة الأغاني البدويّة في سيناء خاصّة، ومشروعها الجديد الآخر مع مورسيا حبكة. ومع تلويعة “يا غراب البين لا تسافر“، كان فيرنر بدأ فعلاً في لعب عيّنات صاجات والارتجال عليها بشكل حيّ، بينما تحافظ سارة على إيقاع يكاد أن يهدّد الأغنية كلّها بالسّقوط فقط بالمحافظة على هذا الإيقاع المتوتّر.
وهذا ما نستمع إليه في أغنية بارزة أخرى اختتم بها العرض: قلبي من كلمات مصالحة أيضاً. مع الإيقاع المعقّد الذي يجدل إيقاعين معاً: ٣ و٤، وعيّنات إيقاعيّة يبدو أنّها مسجّلة لآلة رق، إضافة إلى عيّنات من آلة نفخيّة يبدو أنّها أقرب إلى اليرغول.
لكن قبل أن نصل إلى الأغنية النهائيّة، تذهب كميليا إلى منطقة جديدة لم نعتادها، لتقف أمام المايكرفون وتغنّي من خارج صورتها الأيقونيّة على العود أغنية بالعاميّة التونسيّة لنجمي اسمها حلمت، تتراوح بين المونولوج والموّال.
وقتها يخرج صوت من الجمهور: “ما رح نسمع قديم الليلة“؟ لتقترح صاحبة الصّوت أغنية وهي تغنّيها: بحب البحر لمّا يزوم؟. لترد كميليا: للأسف، وهي تقدّم الأغنية التالية: لنمضي من كلمات نجمي أيضاً.
هنا تحديداً يعلو صوت الصّراع بين جمهور كميليا الذي توقّف جزء منه عند مسيرتها الأولى مع فرقة صابرين، وتابع قسم أصغر تجربتها إلى الآن.
هذا الجمهور الأوّل سينزعج بالتأكيد من هذه التجربة، فنادراً ما تخرج منه، ومن الجمهور الأصغر، “آه” طرباً لما يسمع الآن. إذ تتعمّد كميليا بمشاريعها البقاء على الحافّة دائماً، وعلى مستوى طربيّ واحد ومشبَع. ربّما من هنا يأتي ذلك الثِّقَل الذي نشعر أحياناً أنّنا مضطّرون لتقديره. ليأتي التساؤل المشروع في نهاية كل مشروع أو حفل لكميليا: هل لا يزال مشروعها الطليعيّ مبكّراً على الذوق العربيّ؟ فرغم تعمّد اللامقاميّة بهدف تفكيك القوالب العربيّة، إلّا أن مشاريع كميليا الموسيقيّة تحمل ذلك المستوى الطربيّ الهائل الذي لا تتّسع له أغنية واحدة تاريخيّاً. كأنّها جمعت ذروات صالح عبد الحيّ وبثّتها في أغنية بوقت واحد. هذا ما يظهر بشكل واضح عند ملء أو تفريغ المساحات الصوتيّة آلاتيّاً، ففي تلك الذروة، يتحرّر صوت كميليا من التخلّي عن التحفّظ على العُرَب– تكفي الإشارة إلى الفرق في استرخاء الصّوت بين بحب البحر ذاتها وبين أغنية ونعرف من ألبوم ونبني.
إذاً، هذا التحليل ليس دقيقاً أيضاً. فرغم تطرّف هذه المشاريع، يبدو أن كميليا تقترب أكثر فأكثر من إلهامها الذي ينكشف تدريجيّاً: الطرب.