.
هناك قرابة روحية تجمع بين كتابة الشذرات والطرب. قرابة لا تحتاج حتى إلى أن يستمع الكاتب إلى موسيقى تطريبية أثناء عمله عليها. فالشذرات في تكرارها اللانهائي، وإصرارها المستمر على عدم الإكتمال، وتبعثرها أمام موضوعها، تسير في مدارات لصيقة بالمدارات التي يدور فيها الطرب. فالطرب لا يتقدم أبدا إلى الأمام، بل يظل يدور ويدور. يكرر جمله الموسيقية، باحثاً عن ضالته في الإزاحة التي تحدث بين تكرارين، وليس في اللحن الذي تبنيه الجمل. الطرب لا يسير نحو غاية، وإنما كل غايته هي إضاعة الطريق، والحيد عنه كلما أمكن لالتقاط متع خفية لم يكن أحد يعلم بوجودها. كذلك الشذرات، لا تتقدم أبدا نحو الأمام. إذ لا توجد هناك شذرة نهائية أو تامّة، وإنما كل شذرة هي محاولة جديدة وملتاعة للاقتراب. ينكب عليها الكاتب وهو يعرف أنه مهما عمل عليها فستظل دائما غير مكتملة، وستظل بحاجة إلى غيرها من الشذرات. كل شذرة هي تكرار جديد، لا تتقدم به أحداث، ولا تتطور من خلاله شخصيات، وإنما تنزاح عبره شذرة أخرى عن نفسها، ليتردد صداها في جسد جديد.
ما هو الزمن الذي يسبح فيه الطرب؟ هل هو أبدية؟ فجوة؟ معبر؟ هو بالتأكيد زمن آخر غير الزمن المتسلسل الذي يسبح فيه اللحن. لعله ظله أو شقيقه الغامض الذي انفصل عنه، لكنه لا يزال يقف قريبا منه. ذلك الزمن الآخر لا يرغب في نفي غيره، أو وضع نفسه في الصدارة. وإنما يمنحنا فقط فرصة الخروج المباغت. زمن الشذرات هو أيضا زمن غامض. فهو زمن بينيّ، يصعب وصله في استمرارية واحدة، كما يصعب فهمه على أنه تتالٍ من الانقطاعات. فكتابة الشذرات لا ترتكز على التضاد بين الانقطاع والاتصال، لأن كل شذرة هي انقطاع واتصال في آن. انقطاع ومقاومة لتشكيل كليّة واحدة من ناحية، واتصال وتعاطف مع غيرها من الشذرات من ناحية أخرى. زمن لا يتراكم فيه شيء. زمن الشذرات هو على الأرجح نقد لمبدأ الزمن وليس نفياً له.
كثيرا ما تُختزل الشذرة إلى حكمة، لكن شتان ما بين الاثنين. فما يحدث خلال الشذرة لا يحتمل أن يكون نفاذا إلى قلب الحقيقة، إن جاز أن نجعل للحقيقة قلبا، بل ما يحدث هو بالضبط حيدها المستمر عن الحقيقة. فالشذرة لا تعيش سوى وسط جماعة من الشذرات، ولا يمكن لإحداها أن تحل محل أخرى، أو أن تدعي الكمال أو النفاذ دون الباقين. الشذرة هي اهتزازة لا مجال لها سوى وسط اهتزازات غيرها من الشذرات، وكل اهتزازة هي المسافة التي تخطئ بها الشذرة إصابة الحقيقة. وعندما تُعزَل وتُقتبس بدعوى الاحتفال بها تتخشب وتصبح مجرد حكمة. الشذرة لا تبحث عن الحكمة الجامدة، وإنما عن الارتعاشة الخافتة التي لا تكاد ترى بالعين المجردة. الانحرافة التي تحيد بها عن هدفها. وبمقدار ما تحيد المرة تلو المرة يتشكل إيقاع لكتابة الشذرات. مثلها مثل الطرب. فهو يبدو لمن لا يعرفه كأنه يراوح مكانه، بينما هو مفاجئ، صاعق. تفصيلة بسيطة قد تقدح شرارته، قفلة مختلفة، تغيير مقام مفاجئ، خروج خاطف عن الجملة الموسيقية. ما يحدث خلاله لا يمكن التنبؤ به. وعندما يحدث ينخلع القلب وتأتي السلطنة. ذلك الحيد الخافت والانحراف المباغت يمتد كعصب سري بين كتابة الشذرات والطرب.
في الطريق من بندر عباس إلى إصفهان تصادف أن جاءت جلستي في المقعد الخلفي بجوار وحيد، أو فهيد كما يُنطق اسمه بالفارسية. ولأن إنجليزيته ضعيفة، لا تتجاوز بضع كلمات، ولأن معظم محاولاتي لاشتقاق كلمات فارسية من العربية باء بالفشل، فقد امتد بيننا الصمت بعد جملتين متقطعتين، وأخذ كل منا ينظر إلى الخارج من نافذته. وسارت بنا السيارة ساعات طوال، قطعنا خلالها خلاءً شاسعاً، تنمو على أطرافه نباتات ذات زهور صفراء، وتبرز في أعماقه سلاسل من الجبال المتفاوتة الطول والبعد. وعلى مسافات متباعدة على الطريق ظهرت محلات لإصلاح الإطارات أو محطات بنزين، أو مطاعم بسيطة، تحمل لافتاتها كلمات مكتوبة بخط النسطلق البديع، أرددُها بيني وبين نفسي دون أن أفهم معناها. وفيما أنا غارق في البرزخ بين المدينتين، أتأرجح بين ألفة الحروف التي تقع عيني عليها، وبين غربتي عنها واستغلاقها عليّ، سمعت فجأةً دقّات ساعات كثيرة، يتراكب بعضها فوق بعض، ثم تنطلق أجراسها دفعةً واحدة لتصمّ الآذان. انتبهتُ وأخذت أصغي جيدا لهذا الصوت المألوف. نعم لقد كانت هي أغنية Time لفريق Pink Floyd التي رافقت مراهقتي تنبعث الآن من سماعات السيارة. أصغيت إلى مقدمتها ودخول الإيقاعات التدريجي، وشيئاً فشيئاً استعادت الأغنية قوامها وحيويتها في أذني بعد أن ملأت حيز السيارة. وأخذتُ أدندن كلماتها على استحياء، بعد أن كنت ظننت أني تخطيت مرحلة المراهقة منذ زمن. ثم انتبهت إلى أنني لست الوحيد الذي أغني، ففهيد الذي يجلس جواري يدندن أيضا بكلمات الأغنية. واكتشفت لدهشتي أنه يحفظ كلماتها عن ظهر قلب تماما مثلي. ثم أخذ صوتانا في الامتزاج ونحن ننتقل من مقطع إلى آخر، حتى وصلنا إلى المقطع الذي يقول:
and then one day you find
ten years have got behind you
no one told you when to run
you missed the starting gun
عندها علت أصواتنا بحماسة جعلت الآخرين ينتبهون إلينا، ولوحنا في الهواء بأيدينا كمجاذيب يضربون على آلة إيقاع وهمية. عندها فهمت أخيرا أن ما يجمعني بفهيد، رفيق الرحلة الذي يقاربني في العمر، هو شيء أرهف من التاريخ أو الجغرافيا أو اللغة. فخلال الأيام الماضية من رحلتنا، كنت أجهد نفسي محاولا خلق توازيات نظرية بين سياقاتنا عبر حمولتها التاريخية. لكني اكتشفت الآن أن الشيئ الحقيقي الذي يجمعنا هو تربية موسيقية عابرة للحدود. تربية عصامية سعت للخروج من سأم التاريخ وإحباطات أيديولوجيات الهوية بالبحث عن جمل موسيقية طازجة ومتمردة، فوجدت ضالتها في موسيقى قادمة من لحظة تاريخية أخرى وسياق ثقافي آخر، موسيقى انبعثت على يد فرق أوروبية في الستينيات والسبعينيات. هنا في طهران، تماما كما حدث في القاهرة، تلقف المستمعون في الثمانينيات والتسعينيات ما تيسر لهم من الموسيقى القادمة من العالم الآخر، وانكبوا عليها منشئين لها معبدا يعتصمون به من ملل وضحالة الموسيقى المحلية المعاصرة. وبعد أن أفلُت موسيقى التمرد الغربية في السياق الذي ولدت فيه، كُتبت لها حياة جديدة في “الشرق“، لتتحول بمعنى من المعاني إلى موسيقى شرقية صميمة، لا بحكم اليد التي تعزفها وإنما بحكم الأذن التي تسمعها. وبمرور الوقت أصبحت معابد الشرق تلك هي المعقل الأخير المتبقي لموسيقى التمرد بعد أن تحولت إلى علامة على الضحالة الموسيقية في السياق الذي نشأت فيه. لوهلة انتصب في السيارة التي تنهب الجنوب الفارسي معبد من معابد المراهقة. وتجددت نغمات الزمن الذي كنت أدمن فيه سماع الأغنية ومثيلاتها، بكل ما ارتبط بها من مشاعر وأفكار. معابد المراهقة تلك كانت لا تنطق سوى بالإنجليزية، لكن اللغة فيها تبقى منزهة عن أغراض التواصل الدنيوية التافهة، وتقتصر وظيفتها فقط على ترتيل القصائد السرمدية. فلا عجب إذن أن فهيد لا يستطيع أن يتبادل معي أكثر من جملتين من الحديث العادي، في حين بإمكانه أن ينشد معي بسلاسة كاملة أغنية مركبة المعاني. بعد الأغنية التفتُ على استحياء إلى فهيد الذي نظر إليّ هو الآخر، وتبادلنا ابتسامة خجولة، ثم عاد كل منا إلى نافذته، كأننا رفيقي درب طويل، لا يحتاجان لقول كلمات كثيرة عندما يلتقيان صدفة أمام أحد أطلال مسيرتهم.