.
في حوار شائع عرفه أكثرنا في سنين المراهقة، يسألنا أحد عن مواصفات شريك الحياة المثالي، نفصِّل إجاباتنا ونضيف في نهاياتها: رغم كل ذلك يعمل الحب بطرق غامضة، متبرئاً من أي شروط أو تحديدات مسبقة. في ألبومهم الرابع، هيومان برفورمنس، تضعنا باركيه كورتس أمام هذه المعضلة موسيقياً: ما الشروط التي تجعلنا نحب أغنية أو ألبوماً ما؟ وماذا لو كان الألبوم مزدحماً بأسطر جيتار وإيقاعات طبول أرهقها التكرار، مقاطع عزف منفرد لا تقل إيقاعيةً وميكانيكيةً، كلمات يغنيها مغنيا الفرقة وكأنهما يقرآن من ورقة في محاضرة تدور في قاعة حارة تعطل فيها التكييف. هل بإمكاننا أن نحب عملاً كهذا يتحدى كل تصوراتنا المسبقة عمَّا نحب وما نكره؟
تقصد الفرقة نسج صوت ألبومها بهذه الطريقة، وتفعل كما قد يفعل لو ريد من مقال لجوليان كازابلانكاس عن لو ريد: الطريقة التي كتب وغنى بها لو ريد عن المخدرات والجنس، عن الناس حوله – كانت واقعية ومباشرة جداً. صدَّقت كل كلمةٍ قالها في هيروين. باستطاعة ريد أن يكون رومانسياً عند تصويره هذه المواقفف الجامحة، لكنه كان واقعياً بشكلٍ صارم. كان مزيجاً من الشعر والصحافة، تتناول مواضيعاً إنسانية حارة بصوت ميكانيكي بارد، وكأنه ألبوم تقريري. في Pathos Prairie يردد المغني وعازف الجيتار آندرو سافاج عبارات كثيفة المعنى والعاطفة: “بالطريقة التي نشعر بها الرغبة / بالطريقة التي نستجيب بها لهذه الرغبة / بالطريقة التي نستسلم بها / بالطريقة التي نمارس بها الحب / بالطريقة التي نتذوق بها / ثم نبصق ما تذوقناه / بالطريقة التي نكون بها جامحين / ونكون أنقياء / بالطريقة التي نحتَقِرُ بها / بالطرقة التي نكذب بها / بالطريقة التي نكون بها متأكدين / بأنه بمقدورنا التغير”، لكن صوته الذي سُجِّلَ بشكلٍ مضاعف ليوحي بالغناء الجماعي يخلق إحساساً أوتوماتيكياً، وكأنه يعيد غناء كل عبارة من المجموعة الأخيرة كما تكرر آلة في مصنعٍ ما خلق المنتج ذاته.
يكتسب صوت الفرقة مزيداً من الاختناق والميكانيكية في أولى أغاني الألبوم، غبار، التي تبدأ بـ “يدخل من النوافذ / أو من تحت الأرض / من السقف أو الباب / لا يُعترض / الغبار في كل مكان / اكنس!”، وكأن الأغنية عبارة عن وثائقي صوتي لنوبة هلع من صنع الحياة في المدن الكبرى. انتهاء الأغنية بعينات صوتية لأبواق سيارات تتجادل في شارع مزدحم، الأصوات عينها التي نضع السماعات للهروب منها، لا يلطف الأمور.
تختلف أغاني الألبوم بشكلٍ طفيف حسب أي من مغنيي الفرقة قام بأدائها، أندرو سافاج أو أوستن براون. ففي أغاني سافاج يغلب الغضب، كأغنية كنت هنا للتو I Was Just Here التي تبدأ بعبارات مقتضبة إخبارية يلقيها سافاج باحتداد: “المفاتيح لا تعمل / ترفض الاستدارة / أشعر وكأن عيناي / أحرقتا بسيجارة / سأحلق شعري / وكأن ذلك يهم / أفرشي أسناني / مفيد لصحة الفم”، يرافق سافاج سطر جيتار مكرر يوحي باقتراب انفجارٍ ما، الانفجار الذي يحدث لأقل من نصف دقيقة في آخر الأغنية مسجلاً احتجاجاً وجودياً: “كنت هنا للتو! كنت هنا للتو!”. كذلك أغنية Paraphrased التي لا تمهل نفسها بناءً درامياً مماثلاً، فتبدأ منذ ثوانيها الأولى بصراخ سافاج عن مخلوق أو مفهوم مسخي “مرتاب (و) مشلول (و) لا يمكن الاقتباس عنه”.
أما الأغاني الأكثر ميلاً نحو كآبة لا تخلو من رومانسية فهي من نصيب براون، كما في Steady on My Mind التي يغني فيها برفقة طبول خجولة وأسطر جيتار متعاطفة: “أي مكانٍ ستتخذينه للبقاء / سيصبح وطني المؤمم / لم أعرف الالتزام لشخصٍ من قبل / لكنني سأتعلم / أي شيءٍ ترسليه لي / سأحتفل به باقتناع / سأعدك بقول مرحباً / بقدر ترديد الوداع”. أما في رجل واحد، ولا مدينة One Man No City فينطلق براون من نوستالجيا مشوهة: “من حيث آتي، لم يعش أحد / أتذكر المكان الآن، لا شيء تغير / حيث أعيش الآن، لا أحد أيضاً! / أفكر بالموضوع وأقفل الأبواب”، ثم يتوه في مواضيع مشتتة يتحدث عنها ببرود وبلا اكتراث، قبل أن يصيبه الملل وينسحب تاركاً الأغنية لسولو إيقاعي طويل يحافظ على المزاج البارد غير المبالي.
تصون الفرقة هذا التوجه في الفيديوهات التي رافقت ثلاث أغانٍ من الألبوم، حيث نرى موظفين في أماكن عمل خانقة، محطات مترو، هواتف عمومية، مطعم شاورما تعمل به أسرة مهاجرة، ودمى مسنة في حفلات جنسية. لكن في كل هذه التفاصيل الخانقة، في كل الجفاف والبرود والميكانيكية التي تطغى على كلمات الفرقة وأصوات مغنيها وآلاتها وأسطرها الإيقاعية، هناك جمال لا يأتي من تعاطف ولا احتجاج، جمال بحت يتشكل من تناقضات، يجذب المستمع ويحتضنه. هذا الجمال موجود في هيومن برفورمنس. وهذا الجمال يؤكد لنا أن الموسيقى، كما الحب، تعمل بطرق غامضة.
أغانٍ تقدم للألبوم: One Man No City, I Was Just Here, Human Performance