.
التجربة مغايرة جدًا بالنسبة لي.
اقترنت الموسيقى، بل الأغنية العربية، بسنوات يفوعي في المدرسة الإعدادية والثانوية بين ١٩٧١ و١٩٧٧. كنا، أخوين أكبر لي وأنا، نسكن في غرفة غير مفروشة في الرقة، ولدينا كتبنا المدرسية (وكتب أدبية وفكرية قليلة أخذت تضاف إليها شيئًا فشيئًا)، وفراش لكل منا، وجهاز راديو، نستمع منه إلى الأخبار. كانت أغاني تلك الفترة: فيروز صباحًا من برنامج مرحبا يا صباح الذي يبث من إذاعة دمشق بين السابعة إلا ربع إلى السابعة والربع كل صباح، وبعد الظهر أغاني شادية ونجاة وفايزة أحمد ووردة وعفاف راضي وشريفة فاضل وصباح، وأسمهان وليلى مراد، وفريد الأطرش وعبد الوهاب وعبد الحليم ومحمد رشدي، وطبعًا أم كلثوم. تشكل تذوقي للفن الموسيقي العربي في تلك الفترة، توقف بعدها ولم يكد يتغير.
كان الراديو جزء من نظام الحياة وقتها أكثر مما هو تفضيل لشيء مقابل غيره. ويخيل لي أنه كان يعمل طوال الوقت. في خميس ما من ربيع ١٩٧٤ سهرت مقاومًا النعاس من الحادية عشر والنصف إلى الواحدة ليلًا للاستماع إلى أم كلثوم، وهي تغني أغنيتين متتاليتين: القلب يعشق كل جميل وأغدًا ألقاك.
https://www.youtube.com/watch?v=zZ2pvaKE2cU
ضمن “باكج” الراديو وقتذاك هناك الإيديولوجية القومية العربية، والأخبار وشيء من معرفة بالعالم (الثوار الفيتناميون، الإمبريالية الأميركية، وأمين عام الأمم المتحدة كورت فالدهايم، المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي الصديق، ونكسون وفورد وبريجنيف، تيتو وأنديرا غاندي وتشاوشيسكو وماو وأنور السادات وسليمان فرنجية وهواري بومدين…)، ثم الشروط “الحافة” بالباكج: أولاد مراهقون، من بيئة مالكي أرض ريفيين صغار مفتقرين، يعيشون في عالمهم الخاص وعالم مجايليهم، وليس عالم أهلهم. هذا كان شرط كثيرين جدًا في سورية وقتها، عشرات كثيرة من الألوف وأكثر. الموسيقى والأغنية تأتيان ضمن هذه السلة. توفرت لدينا مسجلة عام ١٩٧٥، لكن لم أعتد عليها كثيرًا.
في البكالوريا كنت أستمع إلى الراديو كثيرًا على نحو يبدو لي أنه كان ينال من التركيز، لكن شكل رفقة بديلة في عام دراسي اجتهدت فيه لأتفوق. كان مؤسفًا لي أن إذاعة صوت العرب تغلق نحو الثانية والنصف ليلًا، الإذاعات الأخرى، ومنها إذاعة دمشق، كانت تغلق قبلها.
أظنني من العارفين المعقولين بأغاني عقد الستينات والنصف الأول من السبعينات على نحو خاص (حتى وفاة عبد الحليم)، وأعني الغناء المصري بشكل رئيسي، ثم اللبناني. وكنت منشدًا إلى الملحنين أكثر من المغنين: بليغ حمدي الذي كان بطلي الموسيقي، ومحمد الموجي وكمال الطويل ومحمد سلطان وحلمي بكر، فضلًا عن عبد الوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش وغيرهم. ورغم أني من الرقة، كان انجذابي للغناء العراقي محدودًا ومتأخرًا. أحببت أغاني نظام الغزالي وسعدون جابر. أما الغناء الخليجي فكان ولا يزال يبدو لي أعجميًا.
لم أحب من الغناء السوري غير صباح فخري، وفي وقت متأخر: في السجن.
في السجن، حين بدأت الكتابة، كان يبدو لي لبعض الوقت أني أكتب مثلما يلحن بليغ حمدي الذي بدأ مستواه ينحدر في سبيعنات القرن العشرين في رأيي (حضور كبير للإيقاع، زخرفة، بداية جيدة ونهاية متواضعة في العمل الواحد، وفي عمله ككل). كنت أريد الانفلات من مصير مشابه لبطلي.
ومنذ ذلك الوقت تقريبًا كان عبد الوهاب قد صار ملحني العربي المفضل، ومغنيّ أيضًا. لكن لا أزال أحب الأغاني التي أحببتها وأنا مراهق.
بعد أن صرت كاتبًا، يحدث أن أستمع إلى موسيقى كلاسيكية أو أغان عربية، لكن ليس على نحو طقسي منظم، ويغلب أن أوقف الموسيقى أو الغناء حين أشعر أني لا أستطيع التركيز. صار الاستماع فرديًا واختياريًا، ومن الكمبيوتر الذي أعمل عليه. “الباكج” مختلف جدًا، و”الشروط الحافة” مختلفة كثيرًا كذلك.
لا أشعر اليوم أني أكتب مثل موسيقى أحد ما. لكن ربما صارت الوحدة من شغلي تعتمد موضوعة أساسية، وتشتغل عليها، أكثر من قبل. هل هذا أثر لموسيقى كلاسيكية، معرفتي بها متواضعة؟ لتآليف فكرية غربية لاحظت أنها تنتظم حول قضية أساسية أكثر من شغلنا الذي يحشد أفكارًا كثيرة، لكن لا تنتظم حول نغمة أساسية؟ ربما.
ربما كنت في الثامنة وقت صدحت بأعلى صوتي بأغنية تقول: من نبع المي يا أهل الله، مللو الجرة واسقوني (لصباح). ينبغي أن أكون سمعتها قبل وقت قريب من الراديو الذي كان حديثًا في بيتنا. خجلت حين انتبه إلي بدهشة رجال كانوا يجلسون على العشب على مسافة مني. كنت دون العاشرة وقت عرفت أن أغنية تذاع من إذاعة دمشق هي “موعود” لعبد الحليم حافظ، وأن من كان يغني لم يكن عبد الحليم (كان برنامج هواة).
في جامعة حلب بعد عام ١٩٧٧ اقترن الجو اليساري مع الاختلاط بين الجنسين مع أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة، لكن لم يكن لهذه الأغاني دور خاص في حياتي العاطفية. كان لها دور عام إن جاز التعبير: رمز جامع لنا، نحن شبان يساريون، ذكور وإناث.
لكن اكتشفنا في السجن أننا نعرف الأغاني الطربية العربية أكثر بكثير مما نزعم، وكانت إحدى اللغات التي تقرب بيننا وتباعد، وتصنع شراكاتنا وتنافراتنا.
أعتقد ذلك فعلًا. الأغنية التي أعرفها كانت لغة جامعة لجيل من النساء والرجال (من النساء أكثر من الرجال في تقديري) وكانت وسيطًا في العلاقات العاطفية، التي ظهرت على نطاق أوسع في الوقت نفسه تقريبًا، أعني في خمسينات القرن وما بعده. في زمن أبكر كانت هناك نماذج للرسائل، تخلو كليًا من الحس الشخصي. كانت الأغنية تساعد الفتى والفتاة على تعبير ليس شخصيًا تمامًا، لكنه أقرب للحياة اليومية لفتيات الطبقة الوسطى التي تتعلم وفتيانها. البنية الاجتماعية المضمرة في الأغاني، عالم الطبقة الوسطى المدينية المصرية، كان له مشابهه السوري، وإن حد اختلاف اللهجة من التماهي.
لم يكن للأغنية هذا الدور في حياتي الشخصية، لأني مثل كثيرين من جيلي كنا نترفع على هذه الأغاني لأسباب تحيل إلى نزوعنا اليساري، لكن لعلنا لم نكن مبرئين من نزعات بطريريكية متجهمة حيال الحب والدلع والمياعة.
يبدو لي أن هناك ترابط من نوع ما بين انحدار هذه الأغنية (شادية ونجاة وفايزة ووردة … وعبد الحليم طبعًا) والحب المزامن لها (ملتاع، متأزم، بعيد عن العيون، لكنه غير مسبوق مع ذلك) وانحدار القومية العربية بقيادة مصرية، وانحدار الطبقة الوسطى المتعلمة وتضيق مراتبها، والطغيان الدولتي، وصعود التلفزيون وتدهور السينما، وصعود الإسلامية وحجاب النساء.
كانت الأغنية المصرية تتكلم عن ثلاثة أطراف لا طرفين، الحبيبين والناس، ودورهم سلبي دومًا: عُذّال، حساد، غيورين، نمامين، وفي الخلاصة معادين للحب. هناك أيضًا حضور كبير للزمن، لكن كمبدأ للتقلب وكقوة تفريق ونسيان جارح، وبقدر أقل كمساعد على النسيان الشافي. يخيل لي أن الأغاني (والأفلام) ساعدت في ستينات القرن السابق وسبعيناته أسرًا كانت بناتها يدخلن المدارس والجامعات على تقبل حب يمكن مراقبته. الأولاد الذكور كانوا خارج المراقبة.
في أوقات لاحقة، الحجاب قام بالواجب.
رغم وجود انقطاعات موسيقية ما بين الموسيقى الطربية في عصر النهضة، ثم موسيقى ما بعد عبد الوهاب وأم كلثوم، وصولًا إلى السبعينات والأجيال اللاحقة، لماذا في رأيك ظلت مفردات الأغاني العربية وجوها العام على استقرار رتيب يدور حول الهجر والوصال والحب والعذول والليل والانتظار، وظلت الاستثناءات على ذلك نادرة وفي كل الأحوال ضئيلة الانتشار ولم تشكل تراكمًا مؤثرًا؟ وكيف ترى أثر ذلك الانحصار في نفسك وفي الأجيال اللاحقة؟
أعتقد أن تقدمنا نحو تجاوز البطريركية وسيادة الأب ظل محدودًا، قبل أن يتراجع بقوة منذ النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين. توقف التحرر، ولم ندخل مجتمع إخوة متساوين في أي وقت، والقليل الذي تحقق منه جرى النكوص عنه قبل نحو أربعين عامًا بفعل متضافر من دول الأغنياء الجدد والريع النفطي وصعود الإسلامية. ظل الفتى والفتاة تحت كنف الأب طالما هما غير متزوجين، وحتى حين يتزوجان أحيانًا، والأسرة ككل تحت رقابة الجيران وما يقوله “الناس” عنها، عن بناتها ونسائها بخاصة. الفتاة “المتحررة” في جيلي كانت تعود إلى البيت في العاشرة مساءً على أقصى تقدير، والبكارة ظلت لها قيمة كبيرة، وجراحة ترقيع البكارات كانت مزدهرة على الدوام. أعني أن الحب لم يصر حرًا جديًا في أي وقت. ظل نضالًا سريًا طوال الوقت، وأكثر منه الجنس. لم تكتب أشياء مهمة في هذه المواضيع، وحيث كتب شيء فهو منفصل عمومًا عن وصف التجارب الشخصية (نوال السعدواي كانت مهمة لهذا بالذات. الجنس والتفكير حوله دخل ثقافتنا بفضلها).
أغنية الحب، بأطرافها الثلاثة والزمن، تحمل هذه البنية الاجتماعية التي تراقب ولا تسمح بالتعبير الحر عن العواطف والرغبات. الأغنية تشتكي من “الناس”، لكنها لا تتمرد عليهم ولا تساهم في تحرير الحب منهم. أعتقد أن الحب الحزين، أو استمرار مزيج الحب والحزن في الأغنية المصرية، مصدره هو هذا الحضور الرقيب الثقيل للمجتمع في الحب، ومعه الحشمة والعيب.
الجنس يلجأ إلى مجال الكناية: المرأة تغني لليلة حب حلوة، استثنائية، لكنها ليلة بالكاد، ويتواتر أن تكون “آخر ليلة”، تأتي بعدها ليالي الهجر المرة، الطويلة. أو يلجأ الجنس إلى مجال هامش الصريح الأقصى: أغاني مها عبد الوهاب الإباحية التي كانت تتاح على اسطوانات أو أشرطة كاسيت، ولا تبلغ العتبات العالية للإذاعة الوطنية العامة.
في لبنان غنت فيروز لحب لا جنسي دون كنايات من نوع الليالي الحلوة. كما تحيل أغاني زياد الرحباني إلى بيئة غير بطريركية، يغيب عنها “الناس”، لكنها خائبة وعدوانية، مأزومة ومنهزمة، ولا حرية فيها بقدر لا يقل عن عالم الأغاني التي تحيط عين الناس فيها بالحبيبين في كل وقت. تسخر من “الهوى الغلاب”، لكن يبدو عالمها بلا حب أصلًا.