.
“لو كنت أملُك قَدَري بإيدي، كنت استنيت شوية.” تمثِّل هذه الكلمات غالبية من أصبحوا نجومًا في طفولتهم، لكنها لا تمثِّل قائلتها، سميرة سعيد. عبر ٥٣ عامًا من النجومية، بدأت منذ أن قدّمها عبد النبي الجيراري في برنامج مواهب وهي ابنة تسع سنوات، لم يبدُ لمرّة أن هناك من دفع بسميرة سعيد إلى طريقٍ لم تختره بنفسها.
وقفت سميرة سعيد على كُرسي ممسكةً منديلًا كقدوتها أم كلثوم، فيما قاد الملك الحسن الثاني الأوركسترا وجلس بين المستمعين عبد الحليم حافظ وبليغ حمدي. كان كل ما أحاط بمشهد الانطلاقة أسطوريًا، ووضعت بداية كهذه سقف توقعات يكاد يستحيل وصوله أمام طفلة لم تكد تبلغ التاسعة من العمر، فإما أن تصبح أم كلثوم جديدة أو تفشل. لحسن الحظ، كانت سميرة أذكى من أن تأسر نفسها في ثنائية كهذه.
منذ ذلك الحفل، تواجدت سميرة في المكان والوقت المناسبين دائمًا. أصبح عبد الحليم حافظ من أكبر معجبيها، وجمعتها معه صداقةً تثمّنها حتى اليوم، دعّمتها زياراته المتكررة إلى المغرب. ترك عبد الحليم ميراثًا أكبر من فنّه، ما يجعل قوله عن سميرة: “أنا ما شفتش طفلة بالدماغ دي” يستحق التأمُّل. شكّلت لقاءات سميرة وعبد الحليم أول دروسها الكبيرة، بعلمه حينًا ودون علمه أحيانًا.
من جهة أخرى، نقل إليها عمها عدوى أم كلثوم، فغنت لها حتى صار يُشار إليها بـ أم كلثوم المغرب، ومن الصعب أن تدرك الطفلة رغم ذكائها خطورة هذا الطريق. لذلك كانت السنوات القليلة بين بزوغ نجم سميرة نهاية الستينيات ووفاة أم كلثوم منتصف السبعينيات حاسمة. وقتها، أنقذ الحظ سميرة. لو بزغ نجمها في مصر، لوجدت عشرات الملحنين المستعدين لاستغلال فكرة “أم كلثوم المغرب” بألحان تقارب الطابع الكلثومي، وتُلقَّن لها بأسلوب أداء كلثومي، ولم تكن لتمانع في ذلك السن. بينما في المغرب، بعكس معظم الدول العربية، لم تُحدث الموسيقى المشرقية والمصرية ذلك الأثر عند الملحنين، وبقيت هوية الموسيقى المغربية مستقلة. لذلك، ألّف الملحنون أغاني مكتوبة خصيصًا لسميرة سعيد، موسيقاها مغربيةً قُحّة لا تُعنى لا بأم كلثوم ولا بعبد الوهاب، وبتوقيع أسماء مثل عبد الحميد بن إبراهيم وحسن القدميري وعبد الله عصامي وعبد الله الراشدي. بهذا تفادت سميرة سعيد فخ خلافة الست، وشقّت طريقها الخاص.
وصل صيت الطفلة إلى محمد عبد الوهاب، وأراد سماعها بنفسه في زيارة له للمغرب. نصحها أن تنتظر بضع سنوات لينضج صوتها دون إجهاده، ويتيسر بعدها الحكم عليه حكمًا نهائيًا. حرصت سميرة ألا يصل الكلام إلى والدها، فنصيحة عبد الوهاب لها وزنها، لكنها لم تتوافق مع خطتها الشخصيّة.
أرادت سميرة سعيد كل شيء. لم تسمح للشهرة بتقييد أفعالها وأسلوب حياتها، رغم أن بداية مسيرتها تصاحبت مع غضبٍ جماهيري ورسمي إثر تقديمها أغنية عاطفية، معتبرين أن أداء طفلة لكلمات من هذا النوع أمرٌ معيب. في سنتها الخامسة عشرة، وفي أوج نجوميتها، ذهبت سميرة في رحلة على دراجتها النارية من الرباط إلى كازابلانكا، في شهر رمضان. ربما لم يكن المجتمع المغربي في ذلك الوقت بتحفّظ المجتمعات المشرقية، لكنه لم يكن أوروبيًا أيضًا. مع أسفارها إلى دول المشرق في السنوات اللاحقة، بدأت تتراجع بوادر ذلك التمرُّد على العرف. ربما أدركت سميرة أن على الفنانة في العالم العربي أن تقنّن تمرّدها.
عام ١٩٧٦ رافقت سميرة سعيد والديها في رحلة عمرة. في طريق العودة قرروا قضاء أسبوع في القاهرة، لتلتقي سميرة ببعض أصدقائها من الوسط الفني الذين تعرفت بهم خلال زياراتهم للمغرب، خاصةً فايزة أحمد. تواصلت سميرة مع فايزة فور وصولها القاهرة، ومن فرط حماس فايزة استمرت في الإلحاح على زوجها الموسيقار محمد سلطان حتى أنهى تلحين أول عمل مصري لـ سميرة سعيد، الحب اللي انا عايشاه. حقّقت الأغنية نجاحًا مجلجلًا، وامتد جمهور سميرة من المغرب إلى المشرق.
وقتها، ارتأى كلٌّ من محمد سلطان وفايزة أحمد وبليغ حمدي أن سميرة تمتلك طابعًا خاصًا سيضيع عند غنائها للنمط الكلاسيكي السائد. علمت سميرة أنهم على حق، لكنها كانت أبعد نظرًا من أن تتبع نصيحتهم على الفور، فاحتمالية رفض الناس لخروجها عن المألوف كانت شبه مؤكدة وقتها. من ناحية هي “الوافدة” كما أُطلق عليها في مصر في بدايتها، في حين دُعيت بـ المهاجرة في المغرب. السبب الثاني أن جمهور الزمن الذي انتهى بوفاة عبد الحليم كان لا يزال مهيمنًا، وقد يفترض هذا الجمهور أن خروج سميرة عن المألوف هو تهربٌ من طربٍ أصيل لا تقدر عليه. لذلك قضت نصف العقد الأول من مسيرتها المصرية في زيادة حظوتها عند عشاق الطرب الكلاسيكي، إلى جانب تجاربها في أشكالٍ جديدة لكن مع اسمٍ آمن، بليغ حمدي، بحيث لا يمكن لمن لا يستحسن العمل أن يعتبره هابطًا.
ظهر وجهٌ تنافسيٌّ لافت لـ سميرة سعيد مع تلك البدايات، سرعان ما توارى وراء الدبلوماسية المعروفة عنها اليوم. برز ذلك في مقابلة أجرتها عام وصولها القاهرة، وجهت فيها المذيعة السؤال الساذج تلو الآخر، لتجيب سميرة ذات التسعة عشر عامًا كل مرة بحذاقة:
“سميرة سعيد اكتشاف محمد سلطان. أفهم من كدا إن مثلك الأعلى فايزة أحمد؟
– أنا بحب صوت فايزة أحمد جدًا، لكن أظن إن مثلنا الأعلى كلنا سيدة الطرب العربي أم كلثوم.”
كانت فايزة أحمد صاحبة سميرة المقربة، وجرت العادة في الوسط بأن تكون إجابة سؤالٍ كهذا “طبعًا” حتى توصف بالتواضع وتقدير الكبار، لكن سميرة لم تقبل اعتبار أقدمية إحدى منافساتها دليلًا كافيًا على تفوّقها. طلبت منها المذيعة بعد ذلك أن تُغنّي لـ وردة، فتهربت بعبارة “بس ليه قلتي انتي وردة بالظبط يعني؟”، ضحكت، ثم غنت لأم كلثوم. لاحقًا في المقابلة نفسها، استبعدت سميرة أن تكون عزيزة جلال قد أصبحت أكثر شهرةً منها في المغرب. قالت إنّ عزيزة جلال بدأت مسيرتها منذ ثلاث سنوات فقط، بينما هي بدأت في التاسعة من عمرها، لذلك هي “لا تظن” ذلك.
انتبهت المخضرمة ليلى مراد إلى هذا الوجه من شخصية سميرة سعيد، ولو كان اللقاء الذي جمعهما قصيرًا. في نهاية السبعينيات في حلقة من برنامج تلفزيوني ضمّت سميرة سعيد وبليغ حمدي وليلى مراد ووليد توفيق وسوزان عطية، سأل بليغ حمدي ليلى مراد عن الأدوار التي تتخيل فيها كلًّا من الحاضرين. بدأت بوليد توفيق مشيرةً إلى أنه مناسب لدور الحبيب، ثم أعادت الملاحظة ذاتها عند سوزان عطية مع إضافة أنه سيجرحها حبيبُها، ولدى الوصول إلى سميرة سعيد: “أخ. بيتهيألي سميرة دي جبّارة شوية. أشوفها ف دور بنت لطيفة بس شقية شوية. هتتغلب على اللي بتحبه.” صدّق الزمن على كلام ليلى مراد. غابت اليوم سوزان عطية صاحبة الموهبة المهمة غير المصحوبة بإدارة وحنكة، حتى عن الذاكرة، بينما تغلبت سميرة سعيد على الجميع.
استلهمت سميرة من قدوتها وهي طفلة، أم كلثوم، لكن لم يتعلّق الاقتداء بنوع الغناء أو الموسيقى، وإنما في كون أم كلثوم صاحبة مشروع، وفي طريقة تنفيذها له. أصبحت أم كلثوم زعيمة الأمّة أكثر من أي زعيم عربي. تجلّت حنكة أم كلثوم في العديد من القرارات التي اتخذتها على مدى مسيرتها، كالتركيز على العاطفة الدينية ثم القوميّة العربيّة بعد ١٩٥٢، وأداء القصائد. لكن خلال كل هذا غنت أم كلثوم ما تحب. لعبت الإذاعة أيضًا دورًا رئيسيًا في صعود أم كلثوم، الأمر الذي لم يتوفر لسميرة. كذلك هناك آثار النكسة وأبرزها “الصحوة الإسلامية”، حيث عانت الموسيقى والغناء من سيل المحرّمات الجديدة، وتعززت فكرة أن الفن وصمة عار.
لم تُرِد سميرة أن تصبح زعيمة أمّة، لم تُرِد قيود هذه المكانة ولا القيود الأكثر ضيقًا للغناء الديني، لكنها أرادت أن تجمع حولها قلوب الناس بحيث يستقبلون تحدياتها للمألوف برحابة صدر، فقدمت لهم الطرب والوطني والتراث، بعدة لهجات، وزارت بعضًا من بلادهم. من الإمارات إلى اليمن والعراق وسوريا وليبيا وتونس، أقطارٌ غنت سميرة لها أو بلهجتها، على أرضها أو من استوديوهات مصر، بالإضافة إلى إطلاقها أول ألبوم خليجي لمطرب غير خليجي عام ١٩٨١. وكما أتلفت أم كلثوم كل ما استطاعت الوصول إليه من نسخ طقطوقة الخلاعة والدلاعة مذهبي، لـ “تنظّف” صورتها مما لا يتفق مع تقاليد المجتمع، استبدلت سميرة سعيد بناطيلها بفساتين فضفاضة، وكبحت جموحها ممهدةً الطريق كي تصبح مغامراتها الفنية مشروعة، لأنها هي تحديدًا رائدة فنٍّ “راقٍ”.
بحثت سميرة سعيد عن المنعطف الأنسب، بين الحدة الصادمة والحذر الزائد. من أفضل لرسم ذلك المنعطف من جمال سلامة؟ ابن عازف الترومبيت والملحن حافظ سلامة وأخو عازف الأكورديون في فرقة أم كلثوم والملحن فاروق سلامة، خريج كونسرفاتوار موسكو الدارس على يد المؤلف الكبير آرام خاتشادوريان، وصاحب الرصيد المهم في الموسيقى التصويرية منذ مطلع السبعينيات، قبل أن يدخل ميدان التلحين بقوة بأعماله لـ صباح في فيلم ليلى بكى فيها القمر (١٩٨٠). تشرّب سلامة الكلاسيكية الغربية علمًا أكاديميًا، والكلاسيكية والمعاصرة الشرقيَّتين احتكاكًا وشغفًا، كما حملت سميرة سعيد في صوتها وأدائها خصائصَ غربية وشرقية. بدأت تعاوناتهما في شارة مسلسل إحكي يا شهرزاد. رغم اشتراط المنتجين أنه يجب على مغنية الشارة أن تكون مصرية، أصر سلامة أنه لا يمكن لغير سميرة سعيد أن يؤديها بالشكل الأمثل، لما تحمله الأغنية من طابع إسباني يتطلب صوتًا وأداءً مختلفَين عما اعتاده المشرقيون. جرّب المنتجون صوتًا آخر فتأكدوا من صحة رأي سلامة وعادوا إلى سميرة سعيد، وكان النجاح مدويًا.
بعد ذلك النجاح، قررت سميرة الانتقال مع سلامة إلى المرحلة التالية، وقصدته لسماع ما لديه. مما عرضه عليها مقطوعة آلاتية سحرت سميرة وقررت أن تكون عملهما القادم، فطلب سلامة من عبد الوهاب محمد كتابة كلمات مناسبة للحن وولدت قال جاني بعد يومين، الانقلاب الأكبر جماهيريًا في مسيرة سميرة سعيد، والذي جعل الثمانينيات – نسائيًا – حقبة سميرة سعيد بلا منازع.
شاركت كلٌّ من سميرة سعيد وجمال سلامة وجمهورهما في صياغة الأساطير حول قال جاني بعد يومين، قائلين إنها فتحت باب الأغاني القصيرة والأغاني العاطفية الدرامية والسرد الغنائي. يمكن أن يُقبل هذا الكلام إن اعتبرنا سميرة سعيد وجمال سلامة متواضعَي الاطلاع، لكن هو باحثٌ ودارس، وهي سمّيعة منذ طفولتها وتحفظ لأم كلثوم ما نسيَه أو لم يسمع به جُلّ محبيها، ومتابعة نهمة لكل جديد، عدا عن صداقتها مع عبد الحليم وبليغ حمدي، ما يجعل من المستحيل أن يصدقا فعلًا أن قال جاني بعد يومين قد حققت كل هذا السبق، وفي سمات وميادين هي من أبرز أسباب خلود تجربة عبد الحليم. ما حصل فعلًا هو أن سميرة تعلّمت من عبد الوهاب كما تعلمت من أم كلثوم وعبد الحليم، على مستوى صياغة الأسطورة الشخصية. عَلِمَ عبد الوهاب أن مجايليه وأنداده من الملحنين لا يملكون رغبته ومهارته في التعامل مع الإعلام، كما أنّ مسيرته استمرّت بعد رحيل معظمهم، فروى في مقابلاته التاريخ الذي تمنّاه بدلًا من التاريخ الذي حصل، ليصبح “المجدد والجريء في مسيرة أم كلثوم التقليدية قبله.” تبنى الجمهور تاريخ عبد الوهاب البديل، وربما هذا ما أملته سميرة سعيد، وكان لها ما أمِلَت إلى حدٍّ كبير. هذا أحد وجوه سميرة “الجبارة” التي تكلمت عنها ليلى مراد.
لا يعني ذلك التقليل من أهميّة الأغنية، فالتفوق شيء والسبق شيء آخر. يكمن السر في التأثيرات التي هضمتها الأغنية لحنًا وتوزيعًا، واستيعاب أداء سميرة سعيد لتلك التأثيرات والإضافة إليها. هناك قالب الطقطوقة مع خفض التنويعات النصية واللحنية – كما فعلت فرق السبعينيات – ليصبح أقرب إلى شكل أغاني الشانسون الفرنسية، بموسيقى أعقد من المعتاد في الشانسون وذات طابع كلاسيكي غرب-شرقي، ناتج عن أسلوب تأليف غربي متداخل مع إيقاعات شرقية وتوزيع يدور حول وتريات تآلفت معها الأذن العربية. يتكامل مع كل ذلك أداء سميرة سعيد القصصي، فحصرت التطريب وعُربه وقفلاته على مواضع قليلة تُصبح فيها العُرب تنهيدات والقفلة انقطاعًا للنفس بعد البَوح. أسرت الأغنية المستمعين من عشاق الطرب والمنصرفين عنه، فلا وجد هؤلاء أمرًا يُعاب على أغنية كلاسيكية تذكّر بدراميات السنباطي وعبد الوهاب، غير منتبهين أساسًا لغياب الطرب، ولا وجد هؤلاء كلاسيكيّة الأغنية ودراميتها نكوصًا إلى الماضي الذي ملّوه. جسرٌ مثالي وقفزةٌ أسلوبية في أداء سميرة تركت أثرها على كامل مسيرتها.
بعد قال جاني بعد يومين حتى نهاية الثمانينيات، توقّف تجديد سميرة سعيد. تركزت إقامتها بشكل أساسي في المغرب، مع زيارات إلى مصر لعمل أغانيها، ما لم يُتح وقتًا للبحث والتجريب. أيضًا، بدا أن نجاح الأغنية أصبح نعمةً ونقمة، فبقدر ما مثّلت منعطفًا نحو المستقبل، بقدر ما عوملت على أنها عودةٌ إلى الماضي الدرامي الجليل، ولم تُسهّل على سميرة خوض مغامرات جديدة. كانت أكبر النجمات وقتها ما يزلن مستندات إلى الأرضية الطربية الكلاسيكية، مثل ميادة الحناوي ووردة وعزيزة جلال ونجاة الصغيرة.
استمرّت سميرة طوال الثمانينيات في طرق باب الكلاسيكيات إلى جانب بعض الأعمال الأبسط والتجريبات، مع أسماء آمنة مثل محمد سلطان وجمال سلامة وإبراهيم رأفت ومحمد الشيخ وطه العجيل وحلمي بكر. راقبت حركات التغيير الكبيرة وأصداءها بحذر، بدايةً من فرق السبعينيات ثم ظهور محمد منير، وبعده نقلة حميد الشاعري وأصداؤها في تجربة عمرو دياب وغيره، وظاهرة لولاكي لـ علي حميدة، التي أكّدت أن الجمهور الأكبر تواقٌ إلى التغيير وإن أنكرت شرائح منه ذلك.
بدا الطريق إلى التسعينيات وعرًا. أصبح السوق مستعدًا لتقبُّل مغامرات سميرة، حيث تغيّر شكل الأغنية وتغيرت هيئة المغني، بعد الاستغناء عن الطقم الرسمي لصالح الجينز والتيشيرتات والقمصان الكاجوال. لكن ربما تأخّرت سميرة عن التغيير أكثر مما يجب، فبعد قرابة عقد ونصف من الكلاسيكيات، أصبحت “السيدة” سميرة سعيد، إذ يُنسب إليها الكثير من الفضل في استمرار الكلاسيكيات. تطلّبت الخطوة القادمة وتداعياتها استعداداتٍ مكثّفة، فانتقلت إلى مصر نهائيًا، وأخذت تبحث عن أسماء جديدة.
كان محمد ضياء وقتها في التاسعة عشرة وبحاجة إلى فرصة مع نجمة بوزن سميرة سعيد، إذ لم يتبع نجاح لحنه الأول خاصمت الشوارع لـ مدحت صالح تلك الدفعة المهنية، وقضى بعدها عامَين دون عروض جديدة. شهدت نهاية الثمانينيات أيضًا بداية صلاح الشرنوبي التلحينية المتأخرة، بعد تحصيل شهادة في هندسة الميكانيكا والعمل فيها لإحدى عشرة سنة، أدرك خلالها أن قلبه في مكانٍ آخر، وبدأ مع مدحت صالح ومحمد الحلو وإيمان عبد الغني بألحانٍ لم تحقق الكثير. أحسن كلٌّ من ضياء والشرنوبي استغلال الفرصة وقدما لـ سميرة سعيد كل ما حلمت به لإعادة تقديم نفسها بشكلٍ مناسب، حتى إنها قسّمت ألحانهما على ألبومَين يفصل بينهما عامان. بدأ إعلان التغيير بألحان ضياء حين أصدرت في ١٩٩٠ ألبوم إنساني، كخطوةٍ أولى عبقرية على طريق التغيير.
عنونت سميرة سعيد ألبومَيها الأولَين مع محمد ضياء وصلاح الشرنوبي بأغانٍ ذات أسماء درامية، إنساني وخايفة. ترافقت جُل أغاني ألبوم إنساني بفيديوهات، وفصلت بين الألبومين التجديديين بألبوم تعبك راحة مع جمال سلامة، لتؤكّد أنها لم تقطع صلتها بالحقبة السابقة. بالإضافة إلى أن ألبوم إنساني احتوى ثلاث أغانٍ ليبية من ألحان إبراهيم فهمي. وأتبعت كل ذلك أخيرًا بألبومٍ خليجيّ.
جاء ألبوم خايفة بِحرّية أكبر في استكشاف الأشكال الجديدة، واكتمال النقلة التوزيعية التي بدأت بتوزيعات محمد ضياء في إنساني، لتتطور هنا على يد طارق عاكف وعماد الشاروني ويحيى الموجي، مقدمةّ ألبومًا كاملًا من الأغاني الضاربة الصالحة لزمنها وزمننا، على رأسها خايفة ومستعدة وتخلص حكاية، وأغنية الجاز البديعة بشتقلك ساعات. برزت جدية سميرة في البحث عن مواهب مختلفة منذ أن استقرت في مصر، بتعاونها مع اللبناني إحسان المنذر في مستعدّة، بينما لم يعمل المنذر ربما لا قبل هذه الأغنية ولا بعدها مع أيٍّ من الفنانين المقيمين في مصر.
اكتملت النقلة بسلاسة مبهرة. مثلما كان مألوفًا قبل عامَين أن تُغني سميرة لأمثال حلمي بكر وبليغ حمدي ومحمد سلطان، أصبح مألوفًا أن تُغني الجاز والفلامنكو، ولملحنين جُدد منهم من لم يبلغ العشرين. بهذا أصبحت جاهزة للتحرر من عبء الهيئة الكلاسيكية، وتحقّق لها ذلك في ألبوم عاشقة، تحديدًا في فيديوهَات عاشقة وشوق على شوق.
جاء ظهور صلاح الشرنوبي في صالح سميرة، فأطلق إحدى أكبر الموجات الفنية في التسعينيات، بقدرته الفريدة على عصرنة الشرقي الكلاسيكي وهضمه لعدة تأثيرات، بشكلٍ بلغ ذروته في عالبال. فوق كل هذا، استطاعت سميرة جعل أسلوبها في الأداء يرتبط بها حصريًا، ليس بالقدرات الصوتية التي لا تنقصها، وإنما بالشخصية الغنائية التي طورتها عبر عقدين، بعفوية في البداية، ثم بوعي منذ قال جاني بعد يومين، تمنح بفضلها لكل أغنية شخصية خاصّة بها. لذلك لا يُقال في حالة سميرة سعيد أنها بابتعادها عن الكلاسيكي تركت الأغاني التي تتطلب اقتدارًا لصالح الأغاني السهلة الخفيفة، إذ يمكن لمعظم المطربين المقتدرين تقديم أغاني وردة ونجاة، لكنهم لا يقتربون من سميرة سعيد، لأن أعمالها موسومة بختم صوتها وأسلوبها.
توالت بعد ذلك التجديدات في الأشكال والمواضيع، مع ظهور ملحن جديد على الأقل في كل ألبوم لها حتى نهاية التسعينيات. كذلك الأمر بالنسبة للموزعين، مع وضوح انتقالات تدريجية، حيث انتقلت الراية من طارق عاكف وعماد الشاروني ويحيى الموجي إلى محمد مصطفى وطارق مدكور بالتدريج. غرقت التسعينيات بفيضً من المغنين الجدد وتضخُّم مفاجئ لدور الموزّع وتغيُّر معايير تقييم الملحن الجيد. بلغت براعة سميرة سعيد في التمييز بين الآفل والمشرق خلال هذه المفرمة أن يُصبح غياب اسم من تعاوناتها المعتادة عن أعمالها الجديدة إيذانًا بانطفاء نجمه وتأكيدًا على خلود نجمها.
مع دخول الألفينات، بدا للبعض أن الناجي من التسعينيات أصبح آمنًا وقادرًا على المتطلبات الجديدة، بينما أدرك البعض الآخر أن الساحة لا تزال مفتوحة للقادمين الجدد، لكن لم يكن أحدهم جاهزًا لتداعيات انتشار الإنترنت. بالنسبة لسميرة، شكّل عقد التحوّل منذ استقرارها في القاهرة مدرسةً صقلت رؤيتها بالشكل الذي نعرفه اليوم. تذوّقت الحرية الفنية ولم تعد تقبل التنازل عنها. ففي حين امتلك الملحنون الكلاسيكيون الأقدم منها أو المجايلون لها قولًا فصلًا في المرحلة الأولى، أصبح القول لها مع الجدد الطالبين رضاها. صارت سميرة قادرة على تصميم الأغنية منذ بدايتها من صياغة الكلام على اللحن واختيار موضوع الكلام قبل صياغته، إلى جانب كون الملحنين الجدد مستعدين للإصغاء والقيام بالتعديلات والذهاب معها إلى مكانٍ أبعد مما ألفوه، والموزعين كذلك. أثبتت لنفسها أنها باتت في مكانة أعلى مما يحيجها لاسترضاء أحد، فأوقفت ألبوماتها الخليجية، وقصرت هذا الاتجاه على الأغاني التي تُضيف بها إلى المشهد وتختلف عما قدمته سابقًا. أدركت سميرة كذلك أنها لم تعد بحاجة لإثبات نفسها، لذلك حين طلبت منها هالة سرحان أن تُغني حالة ملل في مقابلة رفضت، مبينةً أن للأغنية أجواءً خاصة صوتيًا وتوزيعيًا لا بد من تواجدها لأدائها، دون اكتراث باحتمالية تفسير ذلك بأنها تخشى الأداء الحي.
تجهّزت سميرة لدخلة الألفينات لتكون أكثر إبهارًا حتى من دخلة التسعينات دون خوفها من الرفض هذه المرّة. صدر ليلة حبيبي وبُثّ الكليب الحدث لأغنية الألبوم، من إخراج هادي الباجوري في أول كليباته، بعد أن لمست فيه سميرة سعيد القدرة على صنع علامة. مخمخت سميرة على كل أغنية، مُدخلةً فريقًا جديدًا يُناسب الطموحات الجديدة، على رأسهم أمير محروس الذي أحدث نقلة في هندسة الصوت ما زالت تثمر حتى اليوم، وعمرو مصطفى وأشرف سالم في التلحين، وطارق مدكور في التوزيع مع منح مساحة أكبر لمحمد مصطفى ليقتصر التوزيع عليهما. كان كل هذا المرحلة الأولى فقط من دخلة سميرة الألفيناتية. جاءت المرحلة الثانية مع إحدى أكبر محطات أغنية البوب العربية، يوم ورا يوم.
لم يضمّ ألبوما دخول الألفية أغنيةً خائبة واحدة تقريبًا، مع تحقيق سبق في أغانٍ مثل ولا تنساني وبنضيع وقت والله يسهلك وازاي احب، بالرؤية اللحنية والتوزيع والتصميم الصوتي، إلى جانب إحداث دَويٍ في دويتو البوب الأول في مسيرتها، أكبر مما أحدثه حتى عمرو دياب في دويتوهَيه مع الشاب خالد وأنجيلا ديمتريو قبلها بعامَين.
يُلاحَظ أن اسم صلاح الشرنوبي غاب عن يوم ورا يوم رغم نجاح ألحانه في ليلة حبيبي، وغاب عن كل ما بعده. لهذا الغياب سببان. من جهة، كان الشرنوبي من أكثر الملحنين تأثيرًا في التسعينيات، وما زالت أنغامه تنتمي إلى تلك الحقبة. لكن السبب الأهم هو الذي تتهرب منه سميرة لدى سؤالها، ويجتمع فيه تبرير غياب اسم الشرنوبي وغياب اسم الكبار قبله، وهو الحرية الفنية. في مقابلة مع سعود الدوسري، سُئلت سميرة سعيد لماذا لم نعد نرى أسماء حلمي بكر وجمال سلامة ومحمد سلطان في ألبوماتها، فأجابت أن الأمر ببساطة هو نشاط الشباب وسعيهم. سألها سعود إن كانت تنتظر من ملحن مثل حلمي بكر أن يسعى إليها هو، فقالت طبعًا لا. يكمن السر في هذه الـ طبعًا. منح الجمهور والنقاد ملحنين كهؤلاء مكانةً فوق النقد والمراجعة، ومن النادر مع سميرة أن تقبل العمل دون تطوير وتعديل، ومن غير المقبول عندها أن يُساء لاسمها في هذه المرحلة إن لجأ أحد الملحنين الكبار إلى الصحافة عند أي خلاف، كما سيروق لحلمي بكر مثلًا. قطعت سميرة سعيد طريق الخلاف. هم كبار وهي كبيرة، وليبقَ كلٌّ في مملكته.
لذلك حين سُئلت سميرة سعيد عمّا يمكن أن تقول لأم كلثوم لو نالت فرصة مقابلتها، أجابت: “أم كلثوم كان ممكن أسألها سؤال مهم قوي. […] كانت سيدة جبارة فوِسط عالم ذكوري، وقتها كان أكتر من دلوقتي. فهيَّ إزاي قدرت، بمفردها، إزاي كان عندها القدرة على السيطرة على كل الناس اللي بتتعامل معاهم؟ دي حاجة مش سهلة لما نشوف المناخ اللي كانت عايشة فيه.” استطاعت أم كلثوم أن تقول لا لعبد الوهاب والقصبجي والسنباطي وزكريا أحمد، لكن سميرة سعيد لم تستطع أن تقولها دون قيود لـ حلمي بكر أو حتى صلاح الشرنوبي، فهؤلاءِ مُمثّلو الزمن الجميل والمحافظ الذي أصبح ماضيًا بعيد لسميرة سعيد، لديهم أفواه كبيرة وصوت عال، ويحبون الشوشرة.
تُثبت مقابلات صلاح الشرنوبي مؤخرًا حُسن تدبير سميرة، ففي حين كان يتحدث عنها بإجلال حتى مطلع الألفية، ويفتخر بأن تعاونه معها أول عمل كبير في مسيرته ويسبق حتى تعاونه مع وردة، أصبح بالإمكان أن يسخر من أسلوبها، وصار يؤكد أن فخره الكبير يكمن في بدايته مع اسمٍ كوردة وأن ثاني أكبر محطة له هي تعاونه مع ميادة الحناوي، مسقطًا سميرة سعيد وضامًا نفسه إلى الزمن الجميل السابق على وجود سميرة أصلًا، كما اعتبر نفسه وصيًا على وردة لدى سماعه بأنها تنوي التعاون مع تامر حسني وصرّح بأن الفكرة غير مقبولة. لو تعاونت سميرة سعيد اليوم مع هذه النسخة من صلاح الشرنوبي، من الصعب أن يصلا إلى نتيجة. ربما لنفس السبب وعدت عام ١٩٩٦ بعمل مع المغربي عبد الوهاب الدوكالي، دون أن تفي بالوعد حتى اليوم.
بعد ليلة حبيبي ويوم ورا يوم احتدمت المنافسة أكثر، ولم تعد سميرة تقبل بأقل من حَدَث جلل. جاء ألبوم قويني بيك بعد عامَين من يوم ورا يوم، وحصدت عنه مختلف الجوائز كما حصدت عن سابقه، ولدى استلامها إحدى الجوائز سُئلت عن المختلف في الألبوم فأجابت: “قويني بيك بالنسبالي اختلاف في نوعية المزيكا، في الأفكار اللي جوا الشريط، في طريقة أدائي فحاجات كتير قوي، في الهندسة الصوتية كمان فيها مجهود جبّار. كل أغنية تحسي انها نقلة، في شكلها، في نوعية المزيكا، في نوعية التوزيع. تحسي انه مختلف عن الشريط اللي قبليه. تحسي انه ٢٠٠٤ بجد مش ٢٠٠٢ ولا ٢٠٠٠.” يُثبت الألبوم هذا الكلام بالفعل، خاصةً في ما خلاص وقال إيه. شهِد قويني بيك حفلة باذخة بالديكورات والإضاءة والفريق الاستعراضي وتصميم الرقصات لكل أغنية، محققًا أقرب صورة لحلم سميرة منذ السبعينيات بحفلات مبهرة على الطريقة الغربية، لتكون هذه المرة الثانية بعد حفلتها في مهرجان جَرَش في التسعينيات، والأخيرة حتى اليوم.
منذ قويني بيك تسارع التغيُّر في شكل صناعة الأغنية. هز الإنترنت أركان الصناعة وأثّر بشكلٍ حاد على مردودها، وبالتالي على الميزانية المتاحة لإنتاج الألبومات وتصوير الكليبات وتجهيزات الحفلات. استغرق الأمر من سميرة أكثر من أربع سنوات لتستعيد توازنها وتُصدر ألبوم أيام حياتي، بصمتها الجديدة في العقد الأول من الألفية، ثم سبع سنوات أُخرى لتصدر عايزة أعيش، تراجع خلالها دور المنتجين كما كنا نعرفه، وتغير كل شيء مع الربيع العربي وسهولة الوصول إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
شهدت السنوات منذ أيام حياتي وحتى اليوم إقبال سميرة على مساحات هجرتها. أعلنت بدايةً وهي في الخمسين من العمر أنها أكثر استعدادًا من أي وقتٍ مضى لعمل أفلام استعراضية، ربما لأنها أدركت أنه مع المحدودية الحالية في ميزانيات الإنتاج لم يعُد تصوير عدة كليبات لكل ألبوم متاحًا، ولن تستطيع بالتالي إشباع طموحاتها البصرية التي لم تجد متنفسًا خارج الكليبات، بعد أن لم يبدُ أن للمسرح الاستعراضي الذي انتظرته عودة قريبة، وانخفضت احتمالية البذخ في الحفلات. أيضًا، عادت إلى غناء الخليجي والمغربي والعراقي وشارات المسلسلات، وقدمت إعلانات وأغنية فيلم لأول مرة. لم يكن هذا لأن شعبيتها انخفضت وتريد أن تُبقي على ذكرها في السوق، إنما أرادت الحفاظ على مكانتها على قمّةٍ أصبح التمسك بها أكثر صعوبةً.
عندما سُئلت سميرة سعيد عمّا قد يرويه أول سطر في مذكراتها، أجابت: “بدأت الحكاية وانا عيّلة صغيرة عندي ٣ سنين ٤ سنين. أقف قدام المراية، وارقص واغني، وسط تعجُّب أهلي كلهم. أبويا وأمي كانوا بيبصوا عليا من الأوضة بتاعتهم، أوضة النوم، وانا مش واخدة بالي قدام المراية عمالة بغني وبرقص، وبعدين اتطلع ورايا كدا ألاقيهم بيضحكوا. فدي أول حاجة، أول ذكرى بالنسبالي، ذكرى غُنى.” ذكرت سميرة أنه لو لم يحقق ألبوم عايزة أعيش كل ذلك النجاح، لاعتزلت. هنا يصبُّ كل شيء. سميرة سعيد نجمة بوب بالفطرة، تستمد إحساسها بوجودها من قدرتها على فهم ما يطلبه الناس قبل أن يدركوا أنهم بحاجته. في السنوات على طريق عايزة أعيش اهتز كل شيء بالإنترنت والربيع العربي، وخرج جيل لا تجمعه قنوات أرضية وفضائية وإذاعية واحدة، تكسبه بصعوبة وتخسره بسهولة، ولم تعد هي وعمرو دياب بوابة الشرق إلى الغرب وآخر صرعاته الموسيقية. أصبح من الصعب حتى على سميرة سعيد أن تفاجئ جمهور اليوم، أن تكون الأستاذة، رغم كل ما ضحت به لتكون كذلك.
بزغ نجم سميرة سعيد بالتزامن مع “الصحوة الإسلامية” وضرب الحصار على المرأة، فتوجّب عليها عند كل محطة انتظار الذكور لتبدأ. توجّب أن يظهر عمرو دياب ومحمد منير بالجينزات في حفلاتهم قبل أن تقرر استعادة بعض الحرية في الملبس والحركة على المسرح، وأن يظهر حميد الشاعري وعلي حميدة وعمرو دياب ويقلبوا موازين الصناعة لتتأكد أن الناس مستعدون لاستقبال بعض التغيير. لكن تبقى الكثير من الأمور التي لا تستطيع اللحاق فيها بالذكور، فعمرو دياب يستطيع أن يعتزل الظهور الإعلامي، لكن إن فعلت سميرة ذلك غامرت بنقمة صحافية، وهجوم على فنها من كل زوايا التابوهات المجتمعية الممكنة. في الوقت ذاته، باضطرارها إلى الظهور الإعلامي يجب أن تحافظ على صورة وقورة بالمعنى التقليدي، تعوض بها جموحها في الأغاني والكليبات، رغم أن أحدًا ممن قابلتهم عبر السنوات لم يُحسن استثمار فرصة الكلام مع ظاهرة بوزنها. كان على سميرة تلقّي هذه الخسارات والتنازل عن بعض المكاسب الممكنة، فلا مسرح استعراضيًّا، ولا حفلات مبهرة تليق بنجمة بوب بطموحها، وبعد اضطراب الصناعة بسبب الإنترنت، بدأت بخسارة الكليبات أيضًا.
لم تخشَ سميرة سعيد من انحدار مستوى ألبومها الأخير فنيًا، فهي ما زالت السباقة واضعة المعايير، لكن أن لا ينجح عايزة أعيش يعني أنها ضحّت من أجل لا شيء. في الوقت الذي تتصارع فيه على اهتمام الناس أصوات لا تُحصى، وبعد أن كسب الناس حرية غير مسبوقة في الاختيار، وُضعت سميرة سعيد أمام التحدي الحقيقي لقدرتها على أن تكون نجمة بوب تستطيع أن تجعل صوتها من الخيارات الأولى في كل زمن، وكسبت. فن سميرة سعيد حقيقتُها، ورغم أنها قالت مرّة بأن زمن العروش انتهى، هي ما زالت على العرش، كما أرادت دائمًا.