استعادة الرمادي | عن تحرير النص الغنائي المصري

هذا المقال جزء من سلسلة مقالات لفيروز كراوية حول الموسيقى المصرية المعاصرة وثقافة الشباب.


خلال الثمانينات والتسعينات، ونظرًا إلى الاستقرار النسبي للأوضاع السياسية، شهد سوق الموسيقى التجارية توسعًا تمثل في تعدد شركات الإنتاج الخاصة وبعدها القنوات الفضائية التي تختص بعرض الفيديو كليب على غرار إم تي في. لم يتواز هذا التوسع في الكيانات الإنتاجية مع انفتاح يسمح بتعددية التجارب الغنائية، في غياب سوق مستقل أو ضد-ثقافي counter culture حسب التعبير الغربي الشائع يتيح متنفسًا للموسيقيين المجرّبين، وهو طابع ميّز الإنتاج الثقافي في عصر مبارك بشكل عام: الاحتكارية والشللية التي تمرّر الفرص بشكل محسوب ونادر عبر إنتاج القطاع الخاص، إلى جانب تحكُّم قوى قديمة في مؤسسات القطاع العام.

مع بداية الألفية ظهر متغير جديد لم تستعد له هذه القوى، سواء في القطاع العام أو الخاص بسوقه المغلق: جيل جديد من الشباب يعلن عن نفسه عبر الإنترنت. سنتحدث لاحقًا عن علاقة الإنترنت بتغيرات السوق الموسيقي، لكن علينا أن نتتبع في البداية ظواهرًا أثّرت على المحتوى الفني الذي حررته الإنترنت من قيوده.

أحمد رامي وابتداع النص الغنائي الحديث

عندما تمر لغة ما بمرحلة من التحديث، يتم ذلك بطريقتين: تحديث اللغة نفسها لتستطيع تلبية احتياجات مجتمعها وعصرها، وهو تحديث قاموسي Lexical يتم بإدراج المفردات الفصيحة أو الدارجة أو صك مفردات وتراكيب جديدة؛ وتحديث اللغة بحيث تتوافق مع نوع فني محدد كالرواية أو القصيدة، وهو تحديث شكلي Formalistic. خلال محاولته تحديث الغناء المصري في بداية القرن العشرين، صنع أحمد رامي من العربية المتوسطة بين عصرين (ما قبل حديث وحديث) لغة قائمة بحد ذاتها لاستخدامها في الشعر الغنائي. استطاع رامي أن يصوغ العامية الغنائية عبر عملية غربلة وفلترة للألفاظ والمعاني التي سادت في الفترة السابقة لعمله، سواء في العربية الفصحى أو الدارجة، ليستبقي منها ما يصلح للشكل الجديد الذي تصوره للأغنية المصرية آنذاك. بعد ذلك، تعامل رامي، ثم شعراء آخرون، مع هذا القاموس عبر عمليات تضمين Implication وتحويل للألفاظ Deformation وتغيير لسياق الاستخدام Recontextualization وصولًا إلى صك اصطلاحات وتراكيب لغوية جديدة Genesis، أصبحت تخص الغناء حصرًا، وتستعار في الحياة اليومية بعد سماعها في الأغاني (مثال: بطلو ده واسمعو ده أو ودّع هواك) Lagrange, Frédéric. “La Langue Arabe dans la Chanson- Existe-t-il une langue des chansons Arabes ? ». L'arabe langue du monde, dir. N. Yafi, L'Harmattan, 2018, pp. 61-70. .

من هنا، أُضفي المعنى الحديث على الغناء، من حيث كونه إجمالًا رمزيًا وتعبيريًا يعكس عصره وكوامن اللغة الداخلية للمجتمع. يحقق الغناء هنا معناه بأن يقول بلغة مفهومة ومحسوسة لدينا ما لا نستطيع أن نقول؛ فهو شكل يقف على لغة خاصة، لا تصنّف لغته حصرًا في قاموس العامية الدارجة، ولا في تلك اللغة الاجتماعية أحد المناظير لتصنيف اللغات. هناك منظور لغوي مجرد ينظر إلى القاموس، ومنظور لغوي ينظر إلى الاجتماعي والطبقي والجغرافي بوصفها محددات تؤثر في اللغة عبر سياق استخدامها. اللغة الاجتماعية هي اللغة من وجهة نظر المدلول، يمكن أن تنتمي إلى العامية الدارجة أو الفصحى. المقصود هو التعبيرات التي تكتسب معناها من السياق الاجتماعي ولا يمكن فهمها وحدها بمعزل عنه. التي يتداولها الناس ويضفون عليها المدلولات، وإن استعان بها، لكن اللغة الغنائية تغنيهما بالصور والأنماط البلاغية والسمات الأسلوبية لكل شاعر بحيث يبقى قريبًا لكنه بعيد عن التمثّلات اليومية المباشرة.

كان مونولوج إن كنت اسامح ١٩٢٨ لأحمد رامي ومحمد القصبجي من أوائل صياغات المونولوج الغنائي التي تبلورت فيها رؤية رامي ومنهجه التحديثي. سأستخدمه هنا لإيضاح بعض مما أدخله على اللغة الغنائية، ومّما أثّر في معاصريه ومن تلاه من شعراء غنائيين:

إن كنت اسامح وانسى الأسية

ما اخلصش عمري من لوم عينيا

صارت الصيغة الشرطية التي استخدمها أحمد رامي علامة في اللغة الغنائية. تبدأ ب إن / لو ويأتي رد الجملة الشرطية في صيغة لا زمنية “ما اخلصش”، مضارع يفيد المستقبل جمع تركيبة “مش ه اخلص”، مع ظرف زمان “عمري” يوحي بالاستدامة (وتقديره الأصلي طول عمري). نلاحظ التحويل في لفظ الأسية التي نحتت من أصول فصيحة معجمية مثل الآسية (بمعنى الدعامة وبمعنى المواساة أيضًا) وأسيّ (حزين) والمصدر أسى فهو آس وأسيان وأسيّ. ربما أضفى رامي عليها أيضًا معنى القسوة (الأسوة في العامية المصرية) بحيث تصبح تجربة بين القسوة والحزن يريد الشاعر أن ينساها.

دبّل جفونها كتر النواح

فاضت شجونها ونومها راح

نرى استدخال الألفاظ الفصيحة والمقتبسة من الموشحات مثل “دبّل جفونها” (موشح يا حبيبي كحّل السهد جفوني لأحمد شوقي)، إلى جانب العامية الدارجة في الشطرة التالية وبنفس الوزن والقافية في “ونومها راح”.

تقول لي إنسى واشفق عليٌ

وآجي أنساها يصعب عليٌ

نرى طواعية لفظ إشفق، الذي تحول من نطقه الفصيح أشفق بفتح الألف وكسر الفاء إلى إشفق بكسر الألف وفتح الفاء. كما نلاحظ صيغة استخدام جديدة للمضارع المستمر بإضافة فعل مركب “آجي أنساها” وهو تركيب أقرب للاستخدام في اللغة الإنجليزية. نلاحظ أيضًا تخلص رامي بخفة من أدوات الربط المستخدمة في السرد العاميّ، مثل الباء المقدّرة مع الفعل المضارع: “ب آجي أنساها يصعب عليا”.

إفلاس النص الغنائي

أسّست هذه الصياغة للقاموس والشكل الغنائي منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى يومنا هذا، مع اختلاف السمات الأسلوبية والإبداعية لكل شاعر. ظل احترام الوزن والقافية وإدراج الألفاظ والتراكيب العامية الجديدة في الأغاني سمة ثابتة مع اختلافات تلائم عصرها، وتركتنا هذه الصياغة عند القالب الأكثر استقرارًا: مذهب من لحنين (مقدمة وسينيو Signo) وكوبليهين مع لازمة موسيقية تتكرر بين المذهب وكل كوبليه، وعودة إلى المذهب في نهاية كل كوبليه (A B C A B C A B).

مع الوقت، خلقت هذه الصياغة انفصالًا ظل يتسع بين وظيفة الشاعر الغنائي والشاعر بصفة عامة، فالشاعر الغنائي ينحدر من سلالة أحمد رامي ومعاصريه، ويواصل منهاجهم؛ وبينما تتاح للشعراء المساحة للتجديد القاموسي والشكلي، والتمرد على الصياغات الثابتة من قوافٍ وأغراض شعرية، صار الشعر الغنائي محدودًا على مستوى القاموس، والأغراض أيضًا، لأن القالب اللغوي وتصميمه أصبح أقل مرونة مع الوقت في التعامل مع أغراض جديدة. بالنتيجة، ندر في غنائنا تناول الطبيعة وعلاقة الإنسان بها، الحياة اليومية والتغييرات الاجتماعية، المشاعر والاضطرابات الفردية، والعلاقات العاطفية في أعماقها بعيدًا عن الحب المطلق والهجر المطلق. قل الحديث عن المساحات الرمادية بشكلٍ عام.

لم يؤثر فقر الموضوعات والقاموس في الكلمة الغنائية فقط، بل احتجز اللحن والموسيقى أيضًا. في فترة السبعينات والثمانينات، سمحت الفرصة لأجيال جديدة أن تباشر طريقها مستعينة بإلهامات متعددة، وتطورات دخلت على الصناعة الموسيقية؛ وبينما لم نعرف وظيفة كاتب الأغاني بمعنى مؤلف كلماتها وملحنها، ظلت تقاليد الشعر الغنائي وموضوعاته وقوافيه حائلًا يشكل عبئًا على الموسيقيين الذين يتبنون قوالب أكثر اعتمادًا على التداعي الحر الموزون مثل الجاز أو البلوز، وعبئًا كذلك على المستمع الذي يشعر بغربة مع أي أغنية تحاول تحدي القالب المطبوع ذهنيًا، سواءً بإثارة موضوعات جديدة أو البعد عن الأوزان والقوافي المحفوظة.

كان الحل الأسهل للموسيقيين الجدد اللجوء إلى الشعر الغنائي التقليدي مع أدوات موسيقية غير تقليدية. وبينما كانت الموسيقى تبحث عن اتجاهات جديدة بين الأنواع الغربية الرائجة والمحلية الشعبية، كان الشعر الغنائي يفصّل نفسه على مقياسها دون أن يلهمها. ازدادت سرعة الإيقاعات، وقصرت الجملة اللحنية واحتاجت إلى جملة أقصر وأرشق لتلائم قالبها، لكنها استمرت باستخدام نفس المقاييس شكلًا ووزنًا وقافيةً وموضوعًا. مع الوقت، صارت قيمة الشعر الغنائي لا تنبع من إبداعيته لغةً أو موضوعًا، بل تكمن في مقدرة الشاعر على إنتاج أكثر صيغة معاصرة لغويًا، ذكية ودالة، تعيد قولبة الموضوع القديم ذاته باستخدام علامات الوقت.

مع تفاوت المهارة اللغوية والثقافة العامة، ومع اختلاف الأنواع الموسيقية عبر العقود، ظلت الكلمة الغنائية وموضوعها أسرى للتأسيس الأول في الثلاثينات. سيجد الباحث في تراث الغناء الحديث استثناءات لذلك القالب، تخص الغناء المعد للأعمال الدرامية مثل تترات المسلسلات أو أغاني الأفلام، وبعض التيارات المجددة منذ السبعينات، وبعض الأسماء الاستثنائية التي نفذت إلى عالم الأغنية التجارية من عالم الشعر، مثل عبد الرحمن الأبنودي وعصام عبدالله وصلاح جاهين. أصبح من الصعب التحديد بشكلٍ قاطع من المسؤول عن الفقر والتكرارية اللذان أصابا الكلمة والموضوع، وإن كان الأمر يرجع لصناع الأغاني أم لتكريس القالب في الميديا عبر عشرات السنين أم لتفضيلات الجمهور الذي اقترب من هذا القالب وجدانيًا وارتبط به كهوية حديثة واضحة، فلا عاد التجديد ينتظرها ولا يعنيها.

اللمبي وتفكك النص الغنائي الحديث

افتتح المخرج المصري شريف عرفة الألفية الثالثة بفيلم الناظر. في قالب كوميدي، يظهر بطل الفيلم كابن مهزوز الشخصية تربى مع أب صارم يدير مدرسة. يكبر الابن في بيئة مغلقة، معزولًا بدافع الحماية، ممنوعًا عن ممارسة أنشطة شاب تحرّر من وصاية والده، فيما يعيش تلاميذ المدرسة في مناخ الخوف والرعب، مراقبين ومقموعين وسط الصراخ والتهديد المستمر من الناظر. نكتشف بعد وفاة الناظر أن المدرسة كانت تقوم بكل وظيفة إلا التعليم. إذ عندما تحرر الطلاب مؤقتًا من سلطته القابضة، خرج التلاميذ من الفصول يعتدون على المدرسين بالضرب، ويقضون أوقاتهم في الألعاب العنيفة والفرار من المدرسة (التزويغ). يكتشف الابن بعد موت والده أنه بلا حياة، بلا خبرات أو أصدقاء، لم يغازل بنات أو يتعرف عليهن، ولا يعرف كيف يدخل عالم الشباب من جيله.

في معرض سعيه للخروج من القوقعة (ليعيش سنه)، لجأ صلاح إلى زميل دراسة قديم (محمد سعد، اللمبي) صار يقطن حيًا عشوائيًا عرّف برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية مصطلح العشوائيات على أنه يشير إلى منطقة تجمع بين مختلف السمات والخصائص التالية: عدم إمكانية الوصول إلى المياه الآمنة وعدم كفاية وسائل الصحة العامة وكذلك البنية التحتية، وسوء الجودة الهيكلية للسكن والزحام الشديد والحالة السكنية غير الآمنة. في القاهرة، ليطلب منه أن “يصيّعه ويكحرته”. يربط الفيلم بين انهيار التعليم المؤسسي والسلطة التي تتحول إلى جهاز لبث الخوف حد إلغاء الشخصية، وبين عالم آخر نشأ خارج مؤسسات التنشئة الاجتماعية، يمتلك لغة لا تبدو مفهومة لابن الناظر.

كان هذا العالم عالم المناطق العشوائية قدّر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لرئاسة مجلس الوزراء عدد العشوائيات بقرابة ١٠٣٤ منطقة عشوائية، بينما أكد المعهد القومى للتخطيط على أن عددها يفوق ١١٠٩ منطقة عشوائية تغطي ٢٠ محافظة من محافظات الجمهورية.، التي كونت حزامًا يحيط بالقاهرة ويخترقها محتويًا الزيادة السكانية المنفجرة والضيق الاقتصادي، في مجتمع يتحول بخطوات بطيئة نحو نمط الإنتاج الرأسمالي منذ السبعينات. مع انفجار الهجرات الداخلية من ريف وصعيد مصر إلى المراكز الحضرية، وعجز الدولة عن استيعابها، تمددت الكتل السكانية الوافدة في أحياء غير رسمية، أضخمها في القاهرة، ليظهر تمييز جديد بين الأحياء الشعبية والأحياء العشوائية، التي تتمتع بطابع ريفي / حضري يميّز علاقات سكانها، تغيب عنه روابط الجيرة التي تجمع سكان أحياء القاهرة التقليدية؛ لكنه ينتج روابط وتجمعات على أسس ثقافية أهمها العمر (تجمعات شبابية) وأزمات التكيف والفقر والنفور من قيم المدينة، وهو ما ركّز قيادات التطرف الديني بين شباب تلك الأحياء كصيد سهل. تسبب هذا التركيز في وصم تلك الأحياء كحواضن للعنف والإرهاب بعد حصار إمبابة الشهير في ١٩٩٢ إمبابة هي الحيّ المجاور لقرى ناهيا وكرداسة، التابعتين لمحافظة الجيزة، واللتين انتشرت فيهما دعوات جماعتي الجهاد والإخوان المسلمين. عام ١٩٩٢ أصبحت إمبابة إمارةً إسلامية جديدة، غير أنّها تتميز عن غيرها من الإمارات في أنّها من أولى المناطق التي اخترقت بها الجماعة الإسلامية مدن العاصمة المصرية، إلى جانب حيّ المطرية وعين شمس، التابعين لمحافظة القاهرة. .

كانت المقابلة بين صلاح ابن الناظر واللمبي مقابلةً بين أبناء المؤسسة التي يتهاوى خطابها، ويعجز عن إقناع أبنائها وعن منحهم أدوات تعينهم على عصرهم، مثل التعليم أو المعرفة بسياقهم المحيط والتأثير فيه، وتمارس عليهم التخويف بصفتهم الأقرب للخضوع؛ وعلى الناحية الأخرى اللمبي الذي لا يرى في افتقاره لكل هذه الأدوات وبعده الشاسع عن مراكزها أي نقصٍ أو خلل.

في فيلم اللمبي ٢٠٠١ الذي أُنتج استغلالًا لنجاح الشخصية، وظهر فيه اللمبي بطلًا يحاول البحث عن عمل بمهارات شبه معدومة، نرى أمثلة متعددة عن هذه المقابلة التي يؤكد عليها السيناريست أحمد عبد الله؛ مقابلة أبناء التحديث المنهار وأبناء العشوائيات. سنرى اللمبي يسخر من عم باخ الذي يعزف الكمان ويطارده دومًا محاولًا “تنضيف ودانه بالمزيكا الحلوة”، سنراه يطرد راقصة جاءت تحيي فرحه لأنها ترقص رقص حديث، وسنراه يتوج تلك الرؤية وهو يستعيد أغنية حب إيه لأم كلثوم في فرح شعبي يتزوج فيه من حبيبته.

يخرج الموال الافتتاحي من داخل شخصية اللمبي، ينسى تراث كلمات المواويل النائحة لكن يذكر نغماتها. لا يتعرف إلى اللغة بنصها الجاهز المسبق، لكنه يتعرف على النغمات التي تصف حاله، ويبدأ من بعد المذهب القصير بتفكيك نص الأغنية إلى مقاطع صوتية لا تترجم نفسها إلى كلمات واضحة (حب إيه، حب آه، حب أو). الترجمة الواضحة لها هي الموسيقى والإيقاع اللذان حملا الأغنية بعيدًا عن معانيها المباشرة، إلى حالة راقصة هازئة، تداعي فرح يقوده الإيقاع، لا يحمل رسالة ولا ميلودي / لحن يوجه مساراته أو يقيّد بداياته وقفلاته. تظهر كلمات الشاعر الغنائي عبد الوهاب محمد متناثرة وفاقدة للمعنى بين الحين والآخر، تذكرنا فقط بما لا نعنيه ولا يعنينا هنا. وسط معازيم الفرح الذين انطلقوا في رقص جماعي وتقسيمات الموسيقيين على إيقاع المقسوم، يشحب النص الغنائي ورمزيته. النص الذي كتبه واحد من أشهر أبناء سلالة رامي، وغنته مطربة مصر الأثيرة والرمز المكرّس لحداثتها منذ الثلاثينات.

الضد-غناء

حقق فيلم اللمبي نجاحًا تجاريًا غير مسبوق، وتسابقت على عرضه جميع سينمات مصر، التي تحولت خلال نهاية التسعينات إلى قاعات عرض يقع معظمها داخل المولات التجارية، والتي تتردد عليها أسر الطبقة المتوسطة، خصوصًا بعد نجاح موجة السينما النظيفة في استعادة الإقبال الجماهيري والاستثمار من جديد في صناعة الأفلام بعد طول انقطاع. أصبح الفيلم أول عمل فني يكسر حاجزًا ثقافيًا بين من يعيشون في أحياء المدينة الراقية والمتوسطة، ومن يعيشون في أحياء غير رسمية، ويبلغون ٥٠٪ من سكان القاهرة في ٢٠١٩.

أن تقرأ خبرًا صحفيًا وإحصاءات عن مجموعات من السكان يقال عنهم “قنابل موقوتة” متشبعة بالجهل والعنف والاستعداد للتدمير، يختلف عن أن ترى شخصية سينمائية لا تخلو من كل ذلك بالضرورة، لكنك تدرك أيضًا إنسانيتها ودعاباتها ولغتها ومأزقها ومعاناتها. تدرك أيضًا أن هناك ما يجمعكما في ظرف عام يداهم بمثالبه الطبقات المتوسطة في مراكزها الحضرية التي تزداد تدهورًا وعشوائية.

شكّلت الموجة السينمائية في الألفينات، وأبطالها من سكان العشوائيات، والأغاني التي تخللتها، نقلة واضحة في درجات التماهي والتقمص والتبادلية للغة تخرج مفرداتها عن النص الغنائي المعاد كأسطوانة مشروخة في إنتاج البوب المصري. لغة تتجاوز النحو والقواعد يومًا بعد يوم، تعبره إلى مقاصد دلالية إيحائية منطوقة، تتغير الكتابة والصوتيات، يتوسع إنتاج الكلمات التي تشتمل على معاني كثيرة تتحدد وفق سياق استخدامها The Indexicals (مثال: حاجة / بتاع / ماشي / قشطة / عنب / طحن / راشق / دايس / كبّر / نفّض / يحوّر / حوار)، وتستعين بالفرانكو عربية مهجنة ابتُدعت داخل غرف الدردشة وعلى الإنترنت لتسهيل كتابة العربية على الكيبورد.. أصبح الجمهور الأوسع يستمع إلى صوت جديد يعبّر عما بدأ إنتاجه من خلال ديجايهات الأفراح الشعبية وفرق الرقص التي تحييها عبر العقد الأول من الألفية.

من هنا بدأ تشكل أبجدية جديدة للتلقي والإنتاج الموسيقي، سنسميها الضد-غناء، تشكّل بذاتها نظامًا يخرج عن المألوف من قوالبنا الغنائية من حيث اعتمادها على الإلقاء بمصاحبة الموسيقى، ومن حيث استعانتها عبر السامبلينج بموسيقات محلية وعالمية كعينات منفصلة عن سياقها، يعاد توظيفها واستخدامها داخل قالب حر جديد لا يعرف دائرية القالب الغنائي، ولا علاقاته التي تكوّن منطقه الدرامي أو الموسيقي.

تحمل تلك الثقافة الموسيقية الشابة ملامح من ثقافة الهيب هوب، والراب كأسلوب أدائي يترك مساحة لتداع منساب من الكلمات موقّعة وفق انتظام وحالة انفعالية محددة، أو ما يعرف بالـ فلو Flow. أضيف إلى ذلك التضخيم الصوتي للآلات الإيقاعية باستخدام البرامج التي صارت في متناول الجميع، وغياب الميلودي / اللحن الملزم ليسمح بالتداعي الحر على مازورة إيقاعية، وأسلوب في الرقص يحاكي الاندفاعية الفجة الموقّعة للمبي، ليتطور فيما بعد إلى صيغة هجينة من البريك دانس والتحطيب والمبارزة الصعيدي والرقص الشعبي بالسكاكين والضمة السواحلية، صيغة سميت بالتشكيل والدّق.

من حيث تتشارك قطاعات شابة كبيرة من السكان يشكل الشباب والشابات في مصر في الفئة العمرية من ١٨-٢٩ سنة نحو ربع السكان وفقًا لتقرير التنمية البشرية عام ٢٠١٠، الذي قدّمه معهد التخطيط القومي ضمن مشروع التنمية البشرية بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. وفقا لتعداد عام ٢٠٠٦، ما يقرب من ٤٠ في المائة من المصريين تتراوح أعمارهم بين ١٠ و ٢٩ عامًا. ما يعني أن ظاهرة تضخم فئة الشباب ستستمر حوالي ثلاثين سنة منذ بدايتها عام ١٩٩٥. طابعًا لغويًا وأدائيًا حركيًا ومظهريًا في ملابسها، تظهر النزعة الثقافية الشابة Youth Cult، وتبدأ بتكوين هوية جماعية توسّع حدود حركتها، لأنها تشعر بأمان أكبر وتتحرر من التهميش والنظرة السلبية، تشعر بأنها مرئية ومسموعة، ويكتسب خطابها مشروعية بانتقاله إلى طبقات مختلفة. هذا ما سنرصده في المقال القادم عن العقد الثاني من الألفية الثالثة.