.
قد تكون بداية الألفية الجديدة من أكثر الفترات التي مرت على أغنية البوب العربية اجتهادًا وكثافةً وتجريبًا، سواءٌ في مصر أو لبنان أو الخليج. كان الجميع يعمل جاهدًا على التقديم والإضافة لصوت القرن الواحد والعشرين. مع ذلك ضاعت أسماء كثيرة، ولم تأخذ أغنيات مميزة ومختلفة حقها في وقتها. نستطيع تحليل ذلك طويلًا، وتبريره بأساليب كثيرة، لا يمكننا مع ذلك إنكار عجز الخطاب النقدي في بعض الأحيان عن تحليل أسباب النجاح الهائل الضارب لأغنية معينة دون الأخرى، مع توافر مقومات النجاح ذاتها.
تقدم هذه القائمة وتعيد تقييم أغنيات بوب مر أكثر من خمسة عشر عامًا منذ معظمها، لكنها تعلن تميزها بصمودها أمام اختبار الزمن.
يعتبر أيمن الأعتر من الأصوات الليبية القليلة التي وجدت طريقها إلى ساحة البوب العربي، عندما فاز بالمركز الأول في النسخة الثانية من برنامج سوبر ستار. حتى اليوم يزخر يوتيوب بمقاطع منخفضة الجودة لأداء أيمن الطربي خلال ذلك الموسم. تضمنت جائزة الفائز بالمركز الأول حينها أن ينتج تلفزيون المستقبل ألبومه الأول وأغنيته المصورة الأولى. صدرت بحبك عام ٢٠٠٥ وانقطع أيمن الأعتر بعدها عن عالم الفن لسنوات طويلة، حتى عاد مع شركة روتانا عام ٢٠١٣.
في بحبك يظهر دفء صوت أيمن وقدرته على التعريب في أدق الأماكن، مشبعًا اللحن الذي وضعه محمود الخيمي دون فلسفة أدائية. يضاف إلى ذلك التوزيع الذي ترك لمسات أنيقة في منعطفات الأغنية، كالتنويع في الإيقاعات الشرقية على خلفية الغناء، ومزجها بدرجات صوت مختلفة.
يبدو تلحين مروان خوري وكتابته أغنيات باللهجة المصرية لمغنيين لبنانيين خيارًا جريئًا في بداية مسيرته. ربما أراد عبر ذلك أن يظهر اتساع ثقافته وتمكنه من التلحين ضمن القوالب الشرقية، ورغبته بإثبات نفسه كملحن جديّ قادر على حبك نقلات مقامية معقدة ضمن أغنيات معاصرة من أربع دقائق؛ بل وفي حالة هذه الأغنية، التفوق على كل ذلك بإتقانه إدماج تأثيرات وتوزيعات غربية مع الألحان الشرقية، سواء عبر صوت الكمان الغربي، أو عبر الإيقاعات الإلكترونية التي تقود افتتاحية الأغنية وكورسها.
أما كارول سماحة القادمة من المسرح الرحباني الغنائي فاستغلت هي الأخرى الأغنية لاستعراض قدراتها، وتقديم نفسها ضمن إطار مختلف عن مطربات الأغنية الضاربة في بداية الألفية (نانسي عجرم – إليسا – هيفاء وهبي). رغم ذلك احتفظت كارول بجاذبية التقديم، من خلال فيديو الأغنية الذي أخرجته نادين لبكي عام ٢٠٠٣.
تمتد مسيرة أنغام منذ نهاية الثمانينيات، وما زالت في أوج نشاطها حتى اليوم، سواء في الحفلات الحية أو تسجيل الألبومات أو الأغنيات المصورة. لكن لأنغام الألفية الجديدة معزّة خاصّة، فبحثها عن صوتها الجديد قدم إلى جمهور واسع العديد من الأسماء الجديدة لملحنين مصريين شباب.
دا اللي عندي من ألبوم كل ما نقرب الصادر عام ٢٠٠٧، أغنية إيقاعية حيوية تناسب الستايل الجديد لأنغام التي حاولت أن تنفض عن نفسها صوتها التسعيناتي الكلاسيكي الحزين. وضع ألحان الأغنية رامي جمال الذي سار منذ بداية الألفينات بخطى بطيئة، لكن ثابتة، في تعاوناته مع فضل شاكر وتامر عاشور وبهاء سلطان، مقدمًا لهم أغنيات حفرت مكانتها في ذاكرة جيل كامل؛ ويعود اليوم باستمرار ليقدم استعادات مختلفة لألحانه وبتوزيعات جديدة.
قدم مروان خوري معظم ألحانه المعقدة إلى فنانين آخرين؛ ربما لإدراكه أن قدراته كملحن تتجاوز قدراته كمغني بأشواط. مع ذلك، يقوم في كل حين بإعادة تقديم الألحان الأحب إلى قلبه بصوته بتوزيع جديد يناسب طبقته. امتدت مسيرته كمغني إلى حوالي العشرين سنة منذ صدور أغنية يا شوق عام ٢٠٠٢، اختار خلالها لنفسه أداء أغنيات رومانسية، اقتربت في توزيعها من الآلات الغربية في أغلب الأوقات مع بعض الحليات الشرقية، وكأنه يؤدي بثقة أكبر بصحبة البيانو، كما في كل القصايد، وقصر الشوق بمقطع البيانو الملحمي الذي يفتتحها.
عام ٢٠٠٦ دخل مروان خوري ميدان التلحين الدرامي مع الأغنية الرسمية للفيلم المصري أوقات فراغ. يحافظ مروان في الأغنية على أسلوبه وآلاته المفضلة، مع إدخال عنصر الدراما إلى الموسيقى والتوزيع. تتنوع السرعات التي تضبط إيقاع الأغنية عبر خمس دقائق، فتتأنى مع البيانو قليلًا، ثم تتسارع فجأة مع الكمنجات المنفعلة. يحتفظ مروان خلال ذلك برزانة الصوت والأداء، ويترك لكلمات الشاعر عبد الرحمن الأبنودي أن تقوم بدورها: “بنلف ف دواير والدنيا تلف بينا / دايمًا ننتهي لمطرح ما ابتدينا / طيور الفجر تايهة في عتمة المدينة / بتدور”تكرار بعض الكلمات في مقاطع معينة ساعد في تعزيز العنصر الدرامي: “نحلم ونحلم بالحياة المفرحة / وأتاري أحلامنا بلا أجنحة بلا أجنحة / ندور ندور ندور بجناح حزين مكسور/ ساعات نشوف في العتمة وساعات نتوه فى النور.”
مع الجماهيرية الكبيرة التي حققها الموسم الأول من ستار أكاديمي، سرعان ما وقّعت روتانا مع نجم البرنامج الكويتي بشار الشطي عقده الأول، ليصدر ألبومه الأول بشار الشطي ٢٠٠٥. تضمن الألبوم ألحانًا لأسماء مهمة مثل عبد الله القعود وخالد الشيخ وزياد بطرس، لأغنيات بالخليجية والمصرية واللبنانية. لم تناسب أيٌّ من هذه الأغنيات الشطّي بالشكل الذي ناسبته أغنية اشلون أبصبر التي كتب كلماتها أخوه الشاعر يوسف الشطي، وكانت أغنيته المصورة الأولى.
لا يمكن القول إن صوت بشار الشطي استثنائي أو قوي، وإنما هو صوت مشذب هادئ فيه الكثير من الشجن، ويحسن الأداء في الطبقات المنخفضة، وقد اجتمعت جميع هذه العناصر في اشلون أبصبر التي لحنها له فهد الناصر الذي فضّل طوال مسيرته التعاون مع المغنيين الخليجين الشباب واكتشافهم. كذلك، يقع جزء كبير من تميز الأغنية على عاتق التوزيع، الذي أدخل لها لمسات جيتار عصرية، واحتفظ أيضًا بشيء من أسلوب توزيع الأغنيات الخليجية التقليدية، كأن يشارك الكورال في إتمام غناء بعض الجمل، عوض تكرارها فقط. تبع هذا الألبوم ألبوم ثانٍ لـ بشار قبل فسخه لعقده مع روتانا. منذ ذلك الحين تباعدت إصدارات بشار، وانشغل بدخول عالم التمثيل وتقديم البرامج.
اجتهد هاني العمري كثيرًا في تقديم أفضل ما يمكن لمسيرته في الفترة الانتقالية بين التسعينيات، التي شهدت بداية شهرته، وبداية الألفية. لم يكتف فقط بتقديم أغنيات مختارة بعناية لتناسب صوته، بل وعرف أن الفيديو كليب قد أصبح بوابة الانتشار الجديدة فقدم أغنيتين ضاربتين عبر فيديو رسوم متحركة، حققتا نجاحًا كبيرًا. مع ذلك، سرعان ما بدأت إصداراته بالتباعد، وانحصر بثها ببعض الفضائيات اللبنانية المحلية؛ حيث لم يتعاقد مع أي شركة إنتاج على امتداد سبعة ألبومات أصدرها بين ١٩٩٠ و٢٠٠٥.
واحشني كلامو الصادرة عام ٢٠٠٤ باللهجة المصرية للملحن ياسر جلال، أغنية رومانسية هادئة مفصّلة لتناسب صوت هاني العمري. للأغنية عناصر كثيرة تذكر بأغنيات التسعينيات وتجعل لحنها مألوف الوقع. قد يكون الاستسهال في التوزيع، واللجوء إلى تفصيلات مستهلكة مثل صوت الكورال النسائي الذي يظهر فجأة ليربط بين جملتين، المأخذ الوحيد على الأغنية التي كان يمكن لتوزيع أفضل أن يمنحها الخصوصيّة المطلوبة.
في ألبومه أنا لك الصادر عن روتانا عام ٢٠٠٤، اختار اليمني أحمد فتحي تقديم ابنته بلقيس للمرة الأولى ضمن أغنية مشتركة بعنوان حالتي حالة. بعد سنوات انطلقت مسيرة بلقيس الفردية لتصبح اليوم بين النجمات الأشهر في العالم العربي، ولم تمر في مسيرتها كاملةً حتى اليوم أغنية بدرجة تميز وغنى حالتي حالة. لحن أحمد فتحي الأغنية وكتبها الشاعر اليمني الراحل عبد الهادي الخضر ابن مدينة الحديدة.
يحافظ التوزيع على البساطة والكلاسيكية، لكن الجاذبية الكبيرة في الأغنية تكمن في صعوبة غناء لحنها بعلاماته الموسيقية طويلة الزمن وكثافة إيقاعاته وتنوع سرعاتها. قدرة أحمد فتحي، عن خبرة ودراسة وتمكن، أن يقدم لحنًا بهذا التميز بشكله الخام، دون اللمسة السحرية التي يضيفها عادةً التوزيع أو الأداء لإغناء اللحن وتدعيمه، تجعل هذه الأغنية من أفضل إصدارات الأغنية اليمنية في الألفية الجديدة.
بدأت سارة الهاني نشاطها الفني في سن صغيرة، ودرست وتخرجت من الكونسرفاتوار اللبناني وهي في السادسة عشر من عمرها. لمع اسمها للمرة الأولى في برنامج استوديو الفن حيث قدمت أداءً مبهرًا لأغنيات أسمهان، مستعرضةً اتساع مساحة صوتها. مع ذلك كان دخولها للوسط الفني عمليةً شائكة، ومتعثرة الحظوظ.
ارتبطت بداية عملها مع شركات الإنتاج باسم أيمن الذهبي خلال فترة طلاقه من أصالة، الأمر الذي ورطها في جدالات لم تكن لصالحها، بل وشتت الانتباه عن انطلاقتها. وقعّت بعد ذلك عقدها مع روتانا، لتنتج معها ألبومين خلال سنتين، لم تكن سارة راضية عن اختيارات الأغنيات ضمنهما، وسرعان ما فسخت العقد مع الشركة. حاولت بعد ذلك العمل على إصدارات فردية مدروسة، فخرجت بأغنية يا ليل أنا بحبك للملحن جوزيف جحا.
ساعدت الأغنية سارة على تقديم أداء صوتي لا يتبع خصائص حقبة معينة ولا يتأثر بمدرسة واحدة. يظهر في الفواصل الموسيقية استرجاع للأسلوب الطربي المصري القديم، فيأتي بعد ذلك غناؤها باللهجة اللبنانية جريئًا ومختلفًا. كذلك، يمنح صوت الناي، المدخل على التوزيع بانسيابية وخفة، تباينًا محببًا مع صوت المغنية الجهوري. جعلت هذه الاختيارات غير المألوفة الأغنية مختلفة ومميزة يصعب العثور على شبيه لها. تعتبر يا ليل أنا بحبك أكثر أغنيات سارة الهاني نجاحًا حتى الآن، لكن إنتاج تلفزيون إم تي في للأغنية حصر بثها ضمن شاشة واحدة لفترة كبيرة.
شهدت التسعينيات كمًا كبيرًا من إنتاجات المطرب السعودي طلال سلامة، واستطاع تحقيق جماهيرية عربية كبيرة عند صدور أغنية راضيناك عام ١٩٩٩. تتالت بعدها ألبوماته دون انقطاع، لكن انحصر انتشارها في منطقة الخليج. كان طلال سلامة قد تعلم عزف العود في بدايته على يد موسيقيين سعوديين مثل غازي علي وعمر كدرس وطلال مداح، واستمر في دراسة الموسيقى حتى بعد انطلاقته الغنائية. حصل على شهادة البكالوريوس من المعهد العالي للموسيقى في القاهرة عام ١٩٨٧، ثم حصل على درجة الماجستير بعد عشرين عامًا.
رغم تمكنه من العزف والتلحين، بقيت أغنياته الضاربة من ألحان موسيقيين آخرين، مثل الموسيقار الكويتي الدكتور يعقوب الخبيزي الذي لحن له راضيناك. عام ٢٠٠٤ تكرر تعاون الاسمين في أغنية لك وحشة، التي تأخذ من الأغنية الخليجية التقليدية تصدُّر العود لافتتاحية اللحن، وكثافة الإيقاعات. لا يمكن القول مع ذلك أنها خليجية بشكل خاص، فهي تجمع كل عناصر الأغنية الطربية الكلاسيكية. من بين كل هذه العناصر، يبقى صوت طلال سلامة هو الأبرز والأقوى. تجعل خامة صوته وبحته منه صوتًا فريدًا يمكن تمييزه بسهولة. كما أن بعض مقاطع الأغنية التي تتبع مقام كرد الـ مي تمنح اللحن شيئًا من الشجن الذي يعززه الأداء وكلمات الأغنية.
لو وضع اسم جاد نخلة ضمن الإطار الإنتاجي الصحيح في الوقت المناسب، لربما تجاوزت مسيرته أسماءً كبيرة مثل فضل شاكر ووائل جسار. تضعه خامته الصوتية المريحة واسعة المساحة، والمميزة في القرار، بين أهم مغنيي تلك الفترة. كذلك كانت اختياراته لأغنيات تناسبه موفقة مرةً بعد المرة، منذ التعاون الذي قدمه عام ٢٠٠٠ مع ديانا حداد في أغنية ويلي منك، ثم أدائها منفردًا، وأغنيات أجمل سنين وحسيبك ومغرم التي لحّنها له مروان خوري في بداية الألفينات مستعرضًا قدراته الموسيقية ضمن قوالب الغناء الشرقي القديمة بأفضل أشكالها.
أما أغنية بقى يرضيك فهي من ألحان المصري الراحل رياض الهمشري عام ٢٠٠٤، وتظهر مدى تمكن صوته من الأداء الرومنسي سواء باللهجة اللبنانية أو المصرية.
في وقت كان من النادر أن تصدر أغنية لكاظم الساهر ولا تتحول مباشرةً إلى هيت، صدرت ناي. لسبب ما، لم تحظَ الأغنية بذاك الانتشار، رغم كونها تختلف عن المعتاد والمشترك في أغنياته. يحتج البعض على كاظم الساهر بالملل من غنائه بالفصحى، وأنه يكرر نفس الأسلوب كونه يلحن لنفسه في معظم الأوقات. لكنه في ناي لا يغني بالفصحى، ولا بالعامية العراقية، إنما بلهجة سعودية خفيفة، لحنًا وضعه محمد شفيق، يبدأ من قرار منخفض وصعب ثم يبدأ بالتصاعد.
كل ما في الأغنية سهل ممتنع، فهي مكتوبة وكأنها مشهد سينمائي واحد قصير، لشخص ينتظر وسط الزحام بتململ قبل أن يستوقفه صوت جميل يسأله عن الوقت: “قالت وش الوقت؟ / ناظرت ليل عيونها وصبح الجبين / مرت ثواني صمت مرت ثواني صمت / إنتي الزمان إنتي … إنتي الزمان إنتي” ويختار التوزيع بالطبع مرافقة اللحن بصوت الناي لاستكمال المشهد.
رغم أن بداياتها الخجولة في الغناء تعود إلى الثمانينيات، حين أدت شارات لمسلسلات مكسيكية مدبلجة في لبنان، إلا أن مسيرة كارول صقر بدأت فعليًا مع بداية الألفية بدعم كبير من أشهر الأسماء في الساحة اللبنانية. قدمها عاصي الحلاني مع صدور ألبومه زغيرة الدني عام ٢٠٠٤ عبر تعاون مشترك ومصور في أغنية قولي جايي. في العام التالي أطلقت ألبومها الأول دقة قلبك الذي يأخذ عنوانه من الأغنية التي لحنها لها الكبير ملحم بركات، ووضع توزيعها زوجها هادي شرارة. إلى جانب تلحينه للأغنية يظهر ملحم بركات في الفيديو الرسمي للأغنية بشكل خاطف وكوميدي، وكأنه دعم إضافي وإعلان عن الصداقة التي تجمعه بالمطربة.
دقة قلبك نموذج من التجربة والصوت اللبناني الفريد الذي ظهر في الألفية الجديدة، حيث تكثفت محاولات جدية من ملحنين مختلفين لتقديم الطربي التقليدي بشكل عصري محدث، تاركين للتوزيع مساحة واسعة للتجريب في خيارات الآلات ومزجها بأسلوب يقرّب الشرقي والغربي إلى أقرب ما يمكن قبل أن يصبح الدمج هجينًا.