.
قبل عشرة أعوام، دخل اسماعيل تمر عالم الراب بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية، بعد تجربة قصيرة فاشلة في التمثيل؛ إذ كان قد شارك في بعض لوحات مسلسل بقعة ضوء. في ذلك الوقت استثمر اسماعيل تمر الحالة التي كان يمر بها الشارع السوري ليصدر أولى أغنياته، شب سوري، ديو راب أداه مع شاب يدعى كرم اسماعيل. ربما أوحت كلمات الأغنية الثقيلة والمستهلكة عن الوطن بأنها نابعة من الإحساس بالشأن العام، في حين كانت فارغة من أي موقف وتصطف فيها الكلمات دون أن تشكل أي معنى. رغم ذلك، لا تزال شب سوري أفضل ما قدمه اسماعيل تمر طوال مسيرته، وكانت شرارة شهرةٍ ازدادت بشكل ملفت خلال العقد الماضي.
يمكننا أن نصف تجربة اسماعيل تمر بأنها الظاهرة الأغرب في الراب السوري خلال العقد الأخير. مالت معظم المقالات التي تناولت نتاج اسماعيل تمر إلى السخرية منه بشكل مبالغ فيه، مع إهمال وجود جيش من المتابعين والمحبين الداعمين له. يجب أن نفهم كيف اصطف هذا الجيش.
كنت حاضرًا في مخيمات السوريين في لبنان عام ٢٠١٦، وتواصلت خلال عملي ضمن إحدى المنظمات مع عدد كبير من الأطفال والمراهقين المهجرين وتفاجأت بأنهم كانوا يقتدون باسماعيل تمر. كانوا يعبرون عن حبهم الشديد له وللراب بشكل دائم. في ذلك الوقت انصعت لرغبتهم وحضرت معهم حفلًا أحياه اسماعيل تمر في مسرح المدينة في شارع الحمراء في بيروت. يختزل اسم الحفل “نلتقي لنرتقي” رداءته وسخف الأفكار المطروحة فيه. كان اسماعيل تمر يقف ثقيلًا على الخشبة ويتحرك بطريقة غريبة ويؤدي الراب بصوته الغليظ، ويزداد الأمر سوءًا في مقاطع الفيرس المغناة. كان حفلًا كارثيًا، لكنني أدركت يومها سبب حب الأطفال لاسماعيل تمر؛ لقد كان شاباً خلوقًا، تفاعل مع محبتهم له بذكاء ولبى دعوتهم له ليزور المخيم في اليوم التالي ويشاركهم الغناء. لم يستثمر اسماعيل تمر زيارته للمخيم، فلم يصور الجلسة ويستعرض إنسانيته على السوشال ميديا كما يفعل معظم الفنانين. إلا أن هذا الموقف لا يغير في الأمر شيء، فالمواقف النبيلة والنوايا الطيبة لا تكفي لصناعة الفن.
بناء علاقة مباشرة مع الجمهور هو أحد العوامل التي ساهمت في استمراره لعقد كامل بلا شك، لكنه لم يكن سببًا في صناعة نجوميته؛ فقد دخل اسماعيل تمر المخيم نجمًا، وحوله الجمهور يحفظ أغانيه ويرددها. من العوامل التي ساهمت في تكريسه واستمراره أيضًا دعمه من قِبل بعض نجوم الدراما السورية، على رأسهم قصي خولي، الذي عرّض نفسه للسخرية حين أدى الراب مع اسماعيل تمر في أغنية سوري قديم، لكنه واصل الدعم وقدم معه أغنية القصة كلها. كما كوّن اسماعيل شراكات مع بعض الرابرز العرب في مشاريع مشتركة مخجلة، مثل حلم العرب التي أُعيد فيها استهلاك أوبريتَي الحلم العربي والضمير العربي بمقاطع راب رديئة. كانت هذه الأغاني بكل تأكيد سببًا في توسيع دائرة جمهور اسماعيل تمر محليًا وعربيًا، لكنها أيضًا لم تكن سببًا في صناعته.
فعليًا لا يمكن قراءة هذه الظاهرة الفنية وفهم أسبابها دون إدراك وجود شريحة واسعة من جمهور الراب في سوريا والعالم العربي الإسلامي تتوافق فكريًا مع ما ينتجه اسماعيل تمر، الذي لم يكن رابرًا نمطيًا على الإطلاق، فأغانيه كانت منذ البداية مليئة بالتعاليم الإسلامية وبعضها يبدو أشبه بدعوة دينية تبشيرية. كان هذا النَفَس الديني كفيلًا بخلق جيش من المعجبين والأنصار، معظمهم ينتمون إلى الأوساط الإسلامية الأكثر تهميشًا وفقرًا، كما كان كفيلًا بتحويل اسماعيل تمر إلى بطل شعبوي ونموذج يُقتدى به في هذه الأوساط. هو الداعية غير النمطي الذي يكرس قيمهم ومعتقداتهم باستخدام شكل فني جديد. كما يبدو أن اسماعيل تمر عمل بشكل جاد على تكريس هذه الصورة، من خلال ما كان ينشره على مواقع التواصل الاجتماعي في بداياته من أدعية ونصوص دينية وصور توثق أداءه للفرائض الإسلامية؛ منها صورة التقطت له “بشكل عفوي” وهو يجلس فوق سجادة الصلاة ويناقش من حوله.
يجب علينا الغوص في محتوى أغاني اسماعيل تمر لفهم هذه الظاهرة، فالأمر لا يتعلق بأسلوبه في أداء الراب أو بطريقته الخاصة بإنتاج الموسيقى أو اللغة الغريبة التي يستخدمها، والتي يمزج فيها بشكل اعتباطي ما بين اللهجة السورية العامية والفصحى بقدر تعلقه بالقضايا الشعبوية والمواضيع التي تتمحور حولها أغانيه. على الرغم من غزارة نتاج اسماعيل تمر، إلا أنه يمكن اختزال المحتوى ضمن أربعة مواضيع رئيسية:
هناك العديد من الأغاني التي خصصها اسماعيل تمر للحديث عن فن الراب، خلالها يرسم لنا صورة نوستالجية غريبة عن الراب لا نعرف مرجعيتها ومن أين أتى بها، إذ نراه في بعض الأغاني يتباكى على حال الراب الذي تشوّه بسبب إقحام البعض فيه لغة سوقية لا تناسبه كفن هادف ذو رسالة، كما في أغنية انحلال أخلاقي: “أغاني فيها تعرّي أو نميمة أو شتم” ويردد في أغنية فتنة: “في ناس شوهوا الراب، كلام فن هابط” ليتركنا أمام تساؤل عن نماذج الراب التي كان قد اقتدى بها في بداياته. أتراه لم يترجم يومًا أي أغنية راب؟ أم أنه يعتبر نفسه أسطورة خاصة في هذا النطاق، صنع فنًا خاصًا نظيفًا شوهه الآخرون؟ يضيف في ذات الأغنية: “هي رسالة لكل من يعشق النميمة، داخل بفن الراب لوصل رسالة سليمة، من دون شتيمة”؛ ويشير أيضًا: “بنتقي كلماتي أخلاق ودين وثقافة.”
هكذا يرى اسماعيل تمر نفسه، إنه أسطورة، رسول منزه، أو ساعي بريد كما يصف نفسه. في أغنية ساعي البريد يتحدث بشكل تفصيلي عن نهجه: “الفرق بيني وبينك واحد إنو بإيدي ميكروفون / صوتي أنا منو ملكي وهبت صوتي لإلكن / ساعي بريد عايش أنا لوصل رسالة / بهالدنيا ما عندي شي اسمه استحالة / كلماتي بدا تلف الدنيا ويلي فيها حتى توصل للبشر يلي اهتمو فيها.”
إذًا يسعى اسماعيل تمر إلى نشر رسالة، تبدو شبيهة بالرسالة النبوية، فهو ليس سوى ساعي بريد (المعادل اللغوي الحديث لكلمة رسول) يغني ليكرس القيم الإسلامية وليشدد على ضرورة الإلتزام بها؛ لذلك هو يرى نفسه منزهًا وفوق النقد، حيث يرد في أغنية النميمة: “قبل ما تحكي عني اتطهر وصلي استخارة.” كذلك تتضمن أغانيه كمًا كبيرًا من الآيات القرآنية، فترد آية “ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر” في أغنية ساعي البريد، وآية “إذا الشمس كورت” في أغنية فتنة، وغيرها الكثير. كما يشير في أغانيه إلى ضرورة متابعة بعض الشيوخ والدعاة الإسلاميين ويخص الشقيري بالذكر. في معظم أغاني اسماعيل تمر هناك دعوة للتثقف والتعلم، وفي حين نجد الكتب والروايات حاضرة في معظم كليباته كقطع ديكور، نراه في أغانيه يؤكد على ضرورة الالتزام بالقرآن وحسب: “بدك تتعلم يا أخي اقرأ القرآن كافي، هوّ دليلي حتى هوّ علمني القوافي.”
كنتيجة طبيعية لهذا الفكر، تتضمن أغانيه الكثير من الأحكام القطعية، التي يصعب المرور عليها مرورًا عابرًا أو الاكتفاء بالسخرية منها، حيث خصص أغنية كاملة لانتقاد المساكنة، أسماها انحلال أخلاقي: “فهم يشرّعوا الزنا باسم المساكنة / بالله عليك قل لي هل هذا هو إسلامنا؟” الأسوأ من ذلك هو نقده لكل النساء المسلمات اللواتي لا يرتدين الحجاب في أغنية ساعي البريد: “مسلمة بلا حجاب طيب اشرحيلي ياها / المعادلة مقلوبة غلط مين اللي ساواها / ولك ارتقي بحجابك الله بالحجاب عزك لا تكوني فتنة بالأرض.” يجب أن نشير هنا إلى أن جميع النساء اللواتي يظهرن في كليباته لا يرتدين الحجاب، ليكون بذلك نموذجًا على الاختلال وازدواجية المعايير.
كانت القضايا الوطنية والأوجاع السورية مدخل اسماعيل تمر إلى الراب في شب سوري، وظلت حاضرة في معظم أعماله التالية. ما نلاحظه في هذا النطاق أن اسماعيل تمر يتحدث بشكل خجول عن المشكلة، فيختار مفردات فضفاضة ويوارب بالأفكار ليبقى موقفه مربكًا. أغلب الظن أن هذا الارتباك ناجم عن إدراك حساسية القضية ورغبته في استثمارها دون أن يخسر نصف الجمهور. إلا أن ما يمكن رصده بصورة عامة أن أغانيه كانت تميل مع تقادم الأعوام نحو كفة الهوادة مع النظام السوري، ليكون مساره ما بين شب سوري (٢٠١١) وسوري قديم (٢٠١٨) انعكاسًا لمسار يبدأ بالتمرد المبطّن وينتهي بالتقبل والرغبة بالعودة.
لا تكتمل الصورة دون التطرق إلى أغاني اسماعيل تمر الرومانسية، التي توحي بأنه كان يفضّل أن يكون مغنيًا، لكنه اتجه للراب لأنه فقط لا يجيد الغناء؛ متبعًا الفكرة التي كانت شائعة في سوريا حينذاك أن مغني الراب يكفي أن يملك قضية وليس عليه أن يملك صوتًا جميلًا. تأتي كلمات اسماعيل تمر في أغانيه الرومانسية أكثر ميوعة حتى من أغاني البوب العربي الخفيفة التي تتكرر فيها المفردات ذاتها للتعبير عن الحب، إذ يجعل تداخل الفصحى باللهجة السورية الأمر أكثر غرابة. الأمر الوحيد الذي يعطي هذه الأغاني طابعًا خاصًا هو كونها رومانسية مبتذلة صاغها بما يُرضي شرع الله، فلديه أغنيتان بعنوان بالحلال أحلى، ينسج بهما حكاية حب ليقول العبرة التي تنسجم مع معايير الأسرة الإسلامية: “لأنو بعرف إنو الحب بالحلال طعمه أحلى”، وهو ما يعيد تأكيده في أغنية انحلال أخلاقي التي ينتقد فيها الحب خارج إطار الزواج.
ليس هذا النفس الإسلامي المحافظ حكرًا على اسماعيل تمر، فهنالك العديد من التجارب المتقاطعة فكريًا معها في سوريا والعالم العربي. من هذه التجارب البصمة السوري، الذي قدّم أيضًا العديد من الأغاني التي ترسخ قيم الأسرة الإسلامية السورية، أكثرها شهرة أغنية كوني ثورة، التي اشترك فيها مع اليوتيوبرز السوريين بيسان ومحمد جواني ليحددوا الأصول التي يجب أن تلتزم بها الثورة النسوية، بما لا يتعارض مع أخلاق المجتمع المسلم. منها أيضًا تجربة الرابر السعودي كلاش الذي يسرد تعاليمًا إسلامية على أنغام أغانٍ عربية شهيرة، فنراه يستخدم لحن أغنية طمني عليك لمحمد فؤاد في أغنيته الأم | أحبك، وبعض الجمل الموسيقية من أغنية إني منيح لمشروع ليلى، وأُخرى من أغنية عمري إيه لـ مدحت صالح وإيهاب توفيق، في رسالة إلى الغالي.
الجدير بالذكر أيضًا أن هذا الاستسهال في إنتاج اللحن الذي يتحول فيه السامبلينج إلى مجرد استنساخ أو سرقة للألحان هو سمة عامة يشترك فيها هذا النوع من الراب. ترافق نسبة كبيرة من أغاني اسماعيل تمر ألحان مألوفة منسوخة عن أغانٍ عربية، كما هو الحال في أغنية مالي كافر، التي يستخدم فيها لحن أغنية يا شوق لمروان خوري، ناهيك عن استنساخه لكلمات زياد الرحباني في أغنية أنا مش كافر وتقديمه لنسخة مشوهة عنها. ربما يرى اسماعيل تمر أن هذا كله مشروع طالما أغانيه “في سبيل الله”؛ حتى أنه يرد على منتقدي تدنّي مستواه كرابر بأنه “ما عم غنّي الراب حتى قلّك يَو / عم غنّي وجع ذاتي يا أخي ما بيهمني فلو.” فعلًا، لا يهمه.