.
أتم دودو، أو داوود على اسم جده داوود الكويتي، الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، قبل أن يصبح مغنّي روك وعازف جيتار وكاتب أغانٍ. أبوه يهودي يمني اسمه تاسا وأمه هي كاميلا داوود الكويتي. بعد ست سنوات من الموسيقى والأغاني والحفلات مر دودو بفترة ملل موسيقي حتى أرسل له أحد أقاربه مقطع فيديو لجده صالح الكويتي وهو يغني في إحدى حفلات التلفزيون العراقي، يرافقه عازفًا جده داوود، حينها عَرف كيف يستعيد شبقه الموسيقي، وقرر أن يتجه نحو تراث جدّيه صالح وداوود ويكتشف الكنوز التي تركوها وراءهم. سجّل ثلاث أغانٍ عربية باللهجة العراقية من أعمال جده صالح، وغنى على شواطي دجلة مُر من كلمات عبد الكريم العلاف وألحان صالح الكويتي، في حفلة بتل أبيب، بعد أن أعاد توزيعها وألبسها ثوبًا جديدًا بطريقة أدائه وبعربيته المكسرة. لا أدري إن كان دودو يعلم بأن جده داوود وأخاه صالح سبقوه وأقاموا حفلة في حيفا عام ١٩٤٥ للشعب الفلسطيني، قبل قيام دولة الكيان الصهيوني.
لم يكن صالح وداوود الكويتي كويتيين، لكنهما ولدا هناك بمنطقة شرق في العاصمة الكويت في عامَي ١٩٠٨ و١٩١٠ على التوالي، لعائلة هاجرت من مدينة البصرة جنوب العراق إلى مدينة الكويت. ظلوا بدون جنسية كويتية هم وإخوانهم وأخواتهم واعتُبِروا مقيمين أجانب أو ما يسمى بالكويت البدون (أي بدون جنسية). لربما امتناع السلطات الكويتية عن منحهم هذه الجنسية هو سبب من أسباب رفضهم لذات الجنسية فيما بعد، حين عرضها عليهم سفير الكويت وهم في مطار بغداد عام ١٩٥١.
أظهرا حبًا للموسيقى في صباهم، عزز هذا الحب عمهما بعد أن أهداهما آلة عود و آلة كمان، تعلما وأتقنا الألحان الكويتية على يد العواد الكويتي خالد البكر وتغذيا تغذية موسيقية من خلال الألحان اليمنية والمصرية. ذاع صيتهما حتى أقاما العديد من الحفلات للأمراء والشيوخ الكويتيين، وفي عام ١٩٢٧ رافقا الفنان الكويتي عبد اللطيف الكويتي الى البصرة لتسجيل أسطوانة هناك. في البصرة تعرف الأخوان على المطرب محمد القبنجي، أشهر رواد المقام العراقي. أُعجِب القبنجي بالأخوين الكويتي وضمهم لفرقته إلى جانب اليهودي الآخر عازف القانون عزوري أبو شاؤول، الذي كتب فيما بعد أغنية آنه من اكولن آه واتذكر ايامي. بقي الأخوان في البصرة سنتين، تشبعا خلالها بالمقام العراقي من سيّده محمد القبنجي، وعزفوا له عشرات الحفلات في ملاهي البصرة.
عام ١٩٢٩ انتقل الأخوان الكويتي من البصرة إلى بغداد، التي كانت وقتها من أكثر المدن العربية التي تشهد حراكًا موسيقيًا وفنيًا وبها من الأضواء والفرص ما لم يتوفر في مدنٍ أخرى. غنى صالح عيني وماي عيني ياعنيد يا يابا، فسمعتها مطربة العراق الأولى أنذاك، اليهودية سليمة مراد، فطلبت منه أن يلحن لها قطعًا موسيقية، فقدم لها قلبك صخر جلمود وانته بفرح وبكيف وخدري الشاي خدري ويا نبعة الريحان وأغانٍ أخرى.
وقع صالح في حب المطربة زكية جورج؛ سيدة من أصول حلبية جاءت لبغداد بسبب كثرة فرص العاصمة العراقية، لكنها كانت تخشى الإحراج كمغنية في الملاهي والكباريهات في العاصمة كونها مسلمة، لذلك غيرت اسمها لزكية جورج وادعت بأنها مسيحية. وقعت زكية جورج، أو فاطمة ملص، أيضًا في حب صالح وعملا معًا، وعلمها أصول الغناء ودرسها الموسيقى وقدما عشرات الأغاني، تكاد تكون أشهرها يا بلبل غني لجيرانا التي ترجمها للعربية الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي. الأغنية من كلمات الفيلسوف والشاعر الهندي طاغور، الذي غنتها عشيقة صالح أمامه في زيارته لبغداد عام ١٩٣٤ بعد أن دعاه الملك فيصل الأول لزيارة عاصمة المملكة العراقية.
لحن صالح الكويتي لزكية جورج أغانيًا كثيرة، يحمل أغلبها أسئلة غرامية كبيرة، منها وين رايح وين وتاذيني يا ولفي ليش تاذيني، وكأنه تنبأ برحيل زكية وابتعادها من بغداد نحو البصرة، حيث ارتبطت بعلاقة حب بطبيب أسنان هناك. يقول الكاتب أحمد الصراف بجريدة القبس ٢٥ نوفمبر ٢٠٢١ أن هيام صالح الكويتي بزكية جورج ومعاناته جراء هجرتها نحو البصرة وصل إلى أن يطلب من الشاعر إبراهيم وفي أن يكتب هذه المعاناة أغنيةً فخرجت لنا رائعة “هذا مو إنصاف منك غيبتك هلقد تطول / الناس لو تسألني عنك شرد أجاوبهم شقول؟” لحنها صالح الكويتي وأرسلها لزكية جورج في البصرة كي تغنيها لكنها رفضت، لذلك أعطى صالح الأغنية لمنافسة زكية الوحيدة، سليمة مراد التي غنتها بلا تردد وصارت من أكثر الأغنيات نجاحًا تلك الفترة.
“يعتبر صالح الكويتي مؤسس الأغنية العراقية، رغم أنه بدأ في الثلاثينيات إلا أنه يعتبر المؤسس وواضع الأسس والقواعد للأغنية العراقية، والذين جاءوا بعده من الملحنين أخذوا على نهجه ومدرسته في التلحين والصياغات اللحنية والإيقاعية، وهو كان أول من أسس الأغنية المأخوذة أساسًا من المقام العراقي.“ ~ المايسترو عبد الرزاق العزاوي
“يمكن القول إن صالح الكويتي هو من أعظم الملحنين الذين أنجبهم العراق الحديث في العصر الحديث، وأنا أشاطر العزاوي فيما يتعلق بأنه منشئ الأغنية العراقية الحديثة.” ~ الناقد الموسيقي الراحل عادل الهاشمي
اتجه الأخوان الكويتي سنة ١٩٣١ لتأسيس أول معهد لتعليم الموسيقى في العراق وكان مقره بغداد، بعدها بسنة واحدة زار الفنان المصري محمد عبد الوهاب العراق، وقدم الموسيقار المصري حفلًا على مسرح حديقة المعارض ببغداد. أعجب عبد الوهاب بزيارته هذه بمقام اللامي العراقي، بعد أن سمعه من الموسيقار صالح الكويتي الذي طوره وأبدع فيه، ليعود عبد الوهاب لمصر ويستخدم هذا المقام – اللامي – في أغنية ياللي زرعتوا البرتقال، التي غناها في فيلم يحيا الحب. في نفس العام ١٩٣٢ سمعت الآنسة أم كلثوم أغنية قلبك صخر جلمود بصوت سليمة مراد، فأُعجبت بها وطلبت من سليمة تدريبها على نطق الكلمات كون الأغنية باللهجة العراقية. حفظت أم كلثوم الأغنية وغنتها على مسرح ملهى الهلال ببغداد، وكانت هذه المرة الأولى التي تغني فيها أغنية لشاعر وملحن غير مصري.
لم يقتصر عطاء صالح الكويتي وأخيه داوود على الأغاني التي تقدم في الملاهي والمسارح والكباريهات، بل تعداه إلى البلاط الملكي للملك والأوساط والنخب العراقية. كان على رأس جمهور الأخوين الملك فيصل الأول، إذ أُعجب بفن صالح الكويتي الذي كان يقدمه عبر إذاعة قصره، التي سبقت تأسيس إذاعة بغداد، فكرمه بساعة ذهبية تحمل توقيع الملك. شهدت حقبة بغداد ومجدها الذي وهبته للكويتي تكليفه بتشكيل أول فرقة موسيقية متكاملة للإذاعة العراقية سنة افتتاحها ١٩٣٦، وظل الكويتي قائدًا للفرقة حتى استقالته سنة ١٩٤٤. حتى أنه كان يعلّم وينشد الأناشيد الإسلامية في المدارس الدينية الإسلامية ببغداد مجانًا، وإن أصرّت المدرسة على إعطاءه أجرًا يأخذه ليعود ويتبرع به لإدارة المدرسة.
بعد اندلاع مواجهات بين الجيش البريطاني الذي يحتل العراق والقيادات العراقية الوطنية عام ١٩٤١، انحرف اتجاه هذه المواجهات لأحداث ساخنة ومؤسفة سُميت بالفرهود، جرى فيها نهب ممتلكات اليهود العراقيين وسلبها وقتل مايقارب ٢٠٠ يهودي وإصابة ٩٠٠٠ شخص على يد جماعات دينية متطرفة. قال أغلب المحللين السياسيين إن بريطانيا افتعلت هذا الحدث لحرف اتجاه المواجهة مع العراقيين. كما ذهب المحللون باتجاه أن الكيان الصهيوني ووجوده السياسي المتطرف الذي يستعر في فلسطين دعم هذه الحركات الطائفية في البلدان العربية التي يعيش فيها اليهود العرب. استثمر هذا الكيان في هذه الأحداث بغية أن تكون سببًا للهجرة باتجاه فلسطين وقيام الدولة المزعومة.
زاد الاحتقان الطائفي ضد اليهود وأسقطت حكومة توفيق السويدي، رئيس الوزراء في العهد الملكي، الجنسية العراقية عن صالح وداوود الكويتي وكل اليهود العراقيين، مقابل السماح لهم بالهجرة عام ١٩٥٠، ولأن دولة الكيان الصهيوني حينها استغلت بشكل بشع هذه الأحداث دعت اليهود العراقيين والعرب بالتوجه إليها لتحميهم. استقبل الكيان الذي كان يبحث عن الأيدي العاملة واليهود “من الدرجة الثانية” أفواجًا وجماعات ضمن عمليات تهجير منظمة عُرفت باسم عملية بساط الريح في اليمن، وجوشوا في إثيوبيا، وفي العراق باسم عزرا ولحميا، وهي العملية التي مولتها بالكامل لجنة التوزيع اليهودية الأمريكية المشتركة التي هاجر عن طريقها من ١٢ الى ١٣ ألف يهودي عراقي، على طائرات بريطانية وأمريكية من بغداد الى الكيان الصهيوني عبر إيران وقبرص. صعد صالح وداوود الكويتي وعائلتهما إلى إحدى الطائرات، وقال صالح: “عرفت أن فني وإرثي هبط حين ارتفعت الطائرة.”
بعد أحداث الفرهود وإسقاط الجنسية العراقية عن اليهود العراقيين، سأل صالح الكويتي سليمة مراد عن قرارها بشأن الهجرة نحو الوطن المزعوم “أرض الميعاد”، قالت له: “صالح، هناك لمن أغني؟ هنا حياتي و جمهوري ولا حياة للفنان من غير جمهوره”. كان رأيها وقرارها بالبقاء في العراق مماثلَين لرأي صالح الكويتي، الذي رفض الهجرة نحو إسرائيل كون إرثه وارتباطه وأهله وجمهوره في العراق. يضاف لهذا ما نقله له أصدقاؤه – عن البريطانيين الذين شحنوا اليهود عبر الطائرات – بأن حال من هاجروا لإسرائيل يرثى لها، يسكنون المخيمات وينامون في الخيم، لكن إلحاح زوجته – ابنة عمه – وأهلها وعائلة أخيه داوود على الهجرة أجبره على القبول. باع كل الهدايا التي أُعطيت له من ملوك العراق و أمراء الكويت، حتى لا يُساء فهمه أو يُقال له عند تفتيشه في المطار بأنك يهودي تهرب الأشياء الثمينة والوطنية لإسرائيل، فهو لن يقبل أن يُخدش اسمه، حتى أنه سحب خاتم الزواج من إصبع زوجته وباعه، قال لها أشتري لك خاتمًا آخر من هناك.
كازينو نوح بتل أبيب، حيث يقيم صالح وداوود الكويتي حفلاتهم بعد أن عرفهم اليهود العرب عن طريق حفلات الميلاد والختان والأعراس، حتى صار حانوت المواد والأواني المنزلية مكتبًا للحجز وتنظيم الحفلات. تختصر الحال في هذا الملهى ما كان يمر به الأخوين واليهود العراقيين هناك، إذ ما أن تبدأ الحفلة بغناء صالح للأغاني العراقية ويشرب الحاضرون نخب البُعد عن الوطن ويسكروا حتى يبدأوا بالبكاء والصراخ، بما فيهم صالح وأخوه داوود، يبكون على بغداد والبصرة وبابل، يفتقدون العراق ويلعنون القدر.
عاملهم الكيانُ بأنهم مواطنون يهود من الدرجة الثانية، لم يعترف بموسيقاهم وغنائهم لأنها موسيقى وأغاني عربية، حتى قيل أن إسرائيل استقبلت اليهود القادمين من العراق بمطاراتها برشهم بمبيدات الحشرات خوفًا من القمل والأمراض، وأجبروهم على العمل بقطف المحاصيل والثمار وبناء المستعمرات. في نفس الوقت هناك – في العراق – وفي العام ١٩٧٣ سعى طارق عزيز بقرار من صدام حسين – نائب رئيس مجلس قيادة الثورة وقتها – إلى تكليف الفنان منير بشير بتكوين لجنة خاصة لفحص تراث وغناء موسيقى العراق. تكونت اللجنة من الموسيقار منير بشير رئيسًا ومحمد سعيد الصحاف مدير الإذاعة والتلفزيون ببغداد حينها، ووزير الإعلام فيما بعد، والملحن كوكب حمزة، الذي ترك اللجنة بعد أن عرف مهامها. كُلفّت اللجنة بجرد للموسيقى والغناء في الإذاعة والتلفزيون بحجة فحص الأرشيف الموسيقي والاحتفاظ بالجيد والتخلص من الرديء، حسب تعليمات حزب البعث وقرارات الثورة، فأتلفت الكنوز وغُيّبت اسماء ملحنين يهود مشهورين وأُلحِقَت ألحانهم بمفردة فلكلور، ونُسِبت أعمالهم الأخرى لملحنين آخرين.
قبل سنوات قليلة تقدم شلومو، ابن صالح الكويتي، وعائلة الكويتي بطلب لمجلس بلدية تل أبيب بتغيير اسم شارع فرعي قريب على منزلهم إلى اسم الأخوين الكويتي. وافقت البلدية على ذلك وحولته من شارع بوسم إلى شارع الأخوين الكويتي. أما اتحاد الموسيقيين الإسرائيلي فأعلن عن زمالة لدراسة الموسيقى العربية بمركز عيلام للموسيقى باسم الأخوين الكويتي. حدث هذا كله بعد وفاة داوود سنة ١٩٧٦ ووفاة صالح سنة ١٩٨٦. مات الأخوان بحسرة التجاهل وحسرة الحزن الذي يمتد على طول المسافة بين العراق وفلسطين.
المصادر:
كتاب صالح الكويتي، زمن النغم الجميل، تأليف شلومو (سليمان) صالح الكويتي عن دار الكويتي للدراسات والنشر بغداد ٢٠١٤.
كتاب هجرة أو تهجير: ظروف وملابسات هجرة يهود العراق، تأليف عباس شبلاق عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
لقاء إذاعي مع صالح الكويتي.
رسالة الموسيقار فريد الله ويردي للدكتور سيار الجميل.
برنامج الأغاني قناة الحرة ٢٠٠٥.
لقاء يوتيوب مع دودو تاسا.
لقاء يوتيوب مع شلومو صالح الكويتي.