بدأ زمن الأنفاق | تجربتي الأولى في رفح
بحث | نقد | رأي

بدأ زمن الأنفاق | تجربتي الأولى في رفح

عمر موسى ۲۰۲٤/۰۵/۱٦

تجمد رأسي لحظة أن وصلني خبر الفاجعة، لم يخطر على بالي أحد لكنّ وجهًا أعرفه جيدًا ذوّب جليد رأسي ونفذ بابتسامته المعهودة إليه؛ كان ذلك وجه صديقي مهدي الذي يسكن رفح. لقد سبقني مهدي ومشى في هذا الطريق الصعب، فقد والديه وهو صغير، وكان درسًا حقيقيًا في الحياة. في الوقت الذي قبضت يدي فيه على موت معانٍ كثيرة في الحياة، أهداني مهدي معانٍ أخرى وحرك الأسئلة في رأسي. أتذكر الآن مهدي وأنا أتابع أخبار حرب الإبادة ومستجدات اجتياح الاحتلال مدينة رفح، وأفكر في معنى مدينة رفح بحد ذاتها في ذاكرتي.

في عام ٢٠١٩ زرت مدينة رفح لأول مرة. تعب مهدي وهو يقنعني بالزيارة، ومن حججي التافهة التي كنت أرد فيها على  دعوته طول المسافة من مخيم جباليا شمالي قطاع غزة إلى رفح جنوبي قطاع غزة.

“بعيدة! ليه ممكن حد يسكن في رفح؟” كنت أقول لصديقي، غير أنه لم يتسامح مع كسلي. قبض على يدي في آخر يوم لنا في جامعة الأزهر في غزة وقال: “رح ترجع معي على رفح، عازمك عالغدا.” لم يترك لي بابًا أهرب منه. بعد انتهاء دوامنا في الجامعة، ركبنا سيارة الأجرة وقطعنا مسافة ساعة في الطريق، وحين وصلنا بوابة رفح مثلما يسمي الناس “ميدان النجمة”، هتف مهدي: ” ها هينا وصلنا قلعة الجنوب.” 

لم يكن لدي الكثير من الخيالات عن رفح، غير أن سؤاله الذي ظل يحكيه بسخرية صار محركًا للملاحظة عندي: “شو رأيك برفح؟” 

يسكن مهدي في المناطق الجنوبية لرفح قرب الحدود المصرية الفلسطينية. حين وصلنا، مشينا للتعرف على المكان. صعدنا على تبة رفح، وهي تبة تاريخية وحيز يستظل فيه أهالي المنطقة ويتجمع فيه الأصدقاء، يسميها أهالي المنطقة أيضًا تبة زعرب نسبة لعائلة زعرب التي تسكن المنطقة. من فوق التبة يمكن أن تبصر بوضوح الحدود المصرية. 

هز مهدي كتفي: 

— شايف مصر؟ 

آه، معقول نزورها؟ 

— ليه لأ، لو بدنا نمشي من هنا ما بتاخد معنا الطريق نص ساعة 

 كانت أول مرة أرى فيها الحدود المصرية، غير أن هذه التجربة لم تحمل إحساسا مختلفًا. في المرات التي زرت فيها المناطق الشرقية والحدودية مع الأراضي المحتلة أمكنني ببساطة أن أقف وأقول: “يا الله أراضينا!” أما هنا، فكل ما كنت أشعر به أني أقف على تبة عالية نسبيًا وأنظر إلى أرض بعيدة. 

غير أن ذلك تغير حين صادفنا رجلًا ستينيًا ينظر إلى المنطقة الحدودية بطريقة مختلفة، حاملًا في عينيه شيئًا من الحسرة. كان الرجل يتتبع آثار عائلته التي كانت تسكن في رفح المصرية التي تبعد كيلوات قليلة.  قال: “قبل ١٥ سنة كنت أقف هنا، وألوح لأخوي وأنادي عليه”، “والآن؟” سألته:

— مش شايف؟ ما ظل مسلم ولا بشري هان.

شايف يا عم أكيد.

سألته عن المكان وكيف تغير، بصعوبة تعود الرجل على قمع يده عن التلويح: 

— والله يا عم إحنا ما سبناش أهلنا بسهولة، قاتلنا عشان ما يفرقوا بينا ونظل نسلّم ونشوف بعض.

الله يا عم …

— مش مزح لما أقول قاتلنا، إحنا قاتلنا وحفرنا في الأرض عشان ما نسيب أهلنا.

لا تختلف هوية رفح المعمارية عن أي مكان آخر في غزة، غير أن نسيجها الاجتماعي وامتدادته منح المدينة هوية استثنائية. كانت رفح الفلسطينية والمصرية مدينة واحدة، تسكنها العائلات ذاتها، وبينهم مصالح معيشية ونسب بصورة مختلفة عن باقي المناطق في غزة، أعطى ذلك لرفح هوية اجتماعية خاصة، فهي المدينة الوحيدة التي تضم عائلات وعلاقات اجتماعية ومصالح متشابكة خارج الحدود.

ظلت رفح مدينة واحدة حتى عام ١٩٧٨ وهو العام الذي قسمت فيه المدينة وجرى ترسيم حدودها بين مصر ودولة الاحتلال عقب اتفاقية كامب ديفيد، وتحولت إثر ذلك المدينة الواحدة إلى مدينتين يحمل أهلها جنسيتين مختلفتين، تفصل بينهما حدود شائكة ونقاط مراقبة وجدار يزيد كل يوم مترًا أو مترين حتى صار يحجب الشق الآخر. أصبح هذا الممر يعرف لاحقًا بمحور صلاح الدين أو محور فيلادلفيا، ويمتد من شاطئ البحر غربًا حتى خط الهدنة مع الاحتلال شرقًا بطول يصل إلى ١٤ كيلو متر.

سألته: “شو عملتو يا عم؟”، أجاب دون أن يفكر لثانية: “قاومنا!”  

بعد ترسيم الحدود وسيطرة الاحتلال على مدينة رفح الفلسطينية، وصعوبة التنقل بين المدينتين، عمد الأهالي إلى اجتراح وسائل تبقيهم على تواصل مع أهاليهم.  أشار الرجل إلى التبة، وقال:

— كنا نقف هنا، أو لتحت أو أقرب نقطة ممكنة، ونلوح لبعض ونحكي مع بعض بصوت عالي، بس الاحتلال صار يضيق علينا ومن الجهة الثانية يضيقو علينا المصريين برضه.

وشو عملتو؟ 

— ظلينا نفكر في شو ممكن نعمل. كان فيه مواسير مي كنا نستخدمها في ري الزرع. صرنا نهرب فيها أغراض ونبعت لبعض. أشياء عادية بين الأهل يعني فاهم علي، وشوي شوي مشت.

كيف يعني؟ 

— إيدينا كانت أول إيدين بتمسك النور في بطن الأرض.

ظلت العائلات تقاوم انفصالها عن بعضها البعض إلى أن تطورت وسائل التواصل. في الانتفاضة الأولى نهاية الثمانينات، بدأت المواسير ذاتها تحمل قطع السلاح الخفيف وترسم خيالات مقاومة جديدة في غزة. 

لاحقًا، صارت تتبدى فكرة الأنفاق كمخلص وحيد للغزيين في وجه الفصل أولًا ثم في وجه الحصار والإغلاق ثم في مسيرة أهالي غزة في مقاومة الاحتلال. 

في مطلع الثمانينيات بدأت عمليات حفر الأنفاق تتصاعد وتأخذ أشكالًا مختلفة، بسيطة في معظمها. كانت العائلات في البداية تحفر أنفاقًا تصل بين بيوتها الموجود في شقي المدينة الفلسطيني والمصري. لاحقًا تطورت إلى تهريب البضائع وبالتوازي السلاح. 

بدأ الاحتلال في ملاحقة الأنفاق كلما اتسعت وعلم عنها، وشن منذ الثمانينيات حتى انسحابه من غزة عام ٢٠٠٥ عمليات مختلفة لمكافحتها. بعد سيطرة حماس على قطاع غزة عام ٢٠٠٧ وإغلاق كل معابر القطاع واشتداد الحصار: بدأ زمن الأنفاق.

شهدت الفترة ما بين عام ٢٠٠٧ إلى عام ٢٠١٣ ذروة عمل الأنفاق على صعيد تهريب كل المواد والبضائع والسلاح إلى المقاومة. غير أنه كان من الصعب أن تسمع لفظة نفق دون أن يأخذك خيالك إلى رفح، لهذا سميت رفح عاصمة الأنفاق، وقد أفشلت الأنفاق سياسة الاحتلال في خنق غزة بعد سيطرة حركة حماس. ظل الحال في رفح وعلى الحدود على هذا المستوى حتى تحولت الأنفاق إلى بوابات تشبه المعابر فوق الأرض وخصصت إثر ذلك حكومة غزة التي تديرها حماس هيئة خاصة بالأنفاق التجارية تحديدًا. كانت سنوات الأنفاق سنوات خير حقيقية على غزة، إلى أن قررت السلطات المصرية مطلع عام ٢٠١٣ تكثيف عمليات الكشف عن الأنفاق وهدمها وإغراقها وإفراغ رفح المصرية من السكان وتحويلها إلى مناطق أمنية عازلة. 

عدنا إلى البيت، وقت الغداء، تجمعنا حول الطاولة. علقت عيني عند كمية الفلفل الحار الذي حضر على السفرة. معروف أن الغزاوية عمومًا يحبون الأكل الحار والفلفل، لكن هذه الكمية كانت لافتة فعلًا.

مازحت مهدي: “شو رح تغدينا فلفل بس؟” ضحك: “بدون الفلفل  بكونش الأكل أكل، شكلك مش غزاوي أصيل أنت. بعدين هاد الفلفل فخر الحزن الرفحاوي.”

حتى وقت قريب، شكلت المياه والتربة المالحة أزمة حقيقية لسكان المناطق الجنوبية من رفح. كان مزارعي الجنوب يجربون زراعة أنواع مختلفة من الخضراوات أسوة بما يسمعونه عن المناطق الشمالية من غزة التي تصلح لزراعة الكثير من الأنواع. غير أن البدايات المتفائلة لدى المزارعين لطالما انتهت بسخط وحزن فقد كانت الشتلات تحترق بسبب ملوحة التربة والمياه. إثر ذلك، لجأ المزارعون لزراعة شتلات الفلفل لأن نجاحها مضمون ولا تحتاج لعناية كثيفة أو مكلفة. لهذا أطلق المزارعون على الفلفل وصف “زرعة الحزين”، إذ كان الفلفل في كل مرة تذكيرًا لهم بالحظ السيء، غير أن ذلك لم يدم بعد أن تحول الجنوب إلى أرض تطعم كل محافظات غزة الفلفل. 

ختم مهدي قصته: 

— إحنا مكافحين كثير.

وأنا أشهد.

غادرنا البيت بعد الغداء ومشينا في شوارع رفح. تشبه صور الشهداء المعلقة في الشوارع كل الأماكن الأخرى في غزة، رغم ذلك، ثمة معانٍ أخرى لكثير من الشهداء في هذا المكان. أولًا أن رفح مكان نشأتهم وعملهم، هم أبناء رفح، لذا: الرمزية هنا مضاعفة. 

بسهولة يمكن أن تلتقط عينيك صور الشهيد جمال أبو سمهدانة (أبو عطايا)، أحد أهم قادة المقاومة الفلسطينية وأحد مؤسسي ألوية الناصر صلاح الدين، الجناح العسكري للجان المقاومة الشعبية في فلسطين، إلى جانب الكثير من صور القادة الآخرين المؤثرين في مسيرة المقاومة مثل محمد أبو شمالة ورائد العطار، القادة في كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، ومحمد أبو شمالة ومحمد الشيخ خليل أحد قادة سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، إذ كان لهم دورٌ مركزي في مسيرة تطور المقاومة في غزة. 

غير أن هناك سير تدفعك للوقوف والتفكير في معنى المكان والأرض بعد أن أعطوا هم تأويلًا خاصًا لها.  ففي عام ٢٠٠١ عمل أبو عطايا إلى جانب أبو شمالة على عمليتي تفجير موقعي ترميد وحردون جنوبي قطاع غزة قرب الحدود مع مصر عبر حفر أنفاق وحشوها بالمتفجرات. 

كان ذلك أول استخدام للأنفاق في عمليات المقاومة الفدائية في الانتفاضة الثانية. لاحقًا وبعد عام واحد، عمل أبو عطايا على التخطيط لعملية تفجير أول دبابة ميركافا ٣ جنوبي القطاع، كان لهذه العملية أثرٌ هائل، بعد أن أهدى أبو عطايا رفح وغزة كلها طريقة تفجير الميركافا إلى المقاومين، ومعنًى آخر للحفر في الأرض.

بعد قضاء يومين في رفح تجهّزنا للعودة إلى مخيم جباليا شمالي القطاع. عاود مهدي سؤالي بالنبرة المتهكمة ذاتها: 

— شو رأيك في رفح؟

احتراماتي الشديدة لقلعة الجنوب،  راجع لجبالي بعمر تاني أنا.

ها هي قلعة الجنوب تعيش اليوم أيامًا قاسية. أتذكر كل الوجوه التي صادفتها في المكان وعلقت في رأسي والقصص التي سمعتها وأصحابها، وأفكر في الحال التي يعيشونها الآن وهم يواجهون هذه التحديات الهائلة ويعيشون ظروفًا لا يمكن تخيلها. غير أنني أحمل في قلبي شيئًا من الاطمئنان على المدينة التي دربت أهلها على الصبر والقوة وأهدت إلى أهالي قطاع غزة حلول ألغاز كثيرة. يخطر على بالي أغنية لمنعم عدوان ابن مدينة رفح: وقفوا صفوف صفوفي. يعلق عنوان الأغنية في رأسي، إذ يبدو كنداء مسؤول في هذه اللحظة الحرجة وأمام سؤال ما الذي علينا فعله: أن نقف صفوف صفوف، صف مدينة رفح، المدينة التي قاومت محاولات الفصل والحصار وتملك من البصيرة ما جعلها تجد في عتمة الأرض أفقًا شاسعًا. 

يدرُج في غزة قول يمسني في كل مرة أسمعه: “إن رفح كانت حظنا من الصحراء.” قيل ذلك في وصف المدينة ومحاولاتها في تجاوز المنع وما تمكن أهلها من تحقيقه عبر تهريب وسائل البقاء والمقاومة. أفكر بما تحمله لفظة صحراء من اتساع وحيز لا حد أو نهاية له. إن رفح فعلًا كانت حظنا من الصحراء في وجه ضيق الجغرافيا والجدران الإسمنتية التي يحيطنا بها عدونا كل يوم ويطوعها كأداة إخضاع ضدنا.

المزيـــد علــى معـــازف