.
في العقدين الأولين من إشراق الأغنية السعودية، الستينات والسبعينات، لم يكن المناخ مهيأً لتقديم صوت أنثوي في الساحة الغنائية، لذلك برزت كثير من الأسماء النسائية من بوابة الأعراس. لتوضيح الصورة بشكل أعمق، يمكن الإشارة إلى فيلمي حد الطار وآخر سهرة في طريق ر الذين جسّدا شيئًا من واقع مجتمع فنانات الأفراح.
رغم هذا الحصار الاجتماعي، سطعت بضعة أصوات نسائية في ذاكرة الأغنية السعودية، عبر الحفلات الخاصة والأعراس وأشرطة الكاسيت، تاركة أثرًا عميقًا. قدمت فنانات مثل عتاب وتوحة وابتسام لطفي، وسارة قزاز صاحبة الرائعة أنا بستناك، وغيرهن، أعمالًا ذات جودة فنية عالية وعملن على نصوص كتبها كبار الشعراء.
ثم جاءت الثمانينات بما يمكن وصفه انطفاءً تدريجيًا لصوت المرأة في الأغنية السعودية؛ فانسحبت أبرز الأسماء مثل ابتسام، وتوحة، بينما هاجرت عتاب لتستمر.
بعد فترة من الخفوت، بدأت بعض الأصوات الجديدة تحاول استعادة الوجود النسائي في الساحة الغنائية. في أواخر التسعينات، كان أبرز ظهور من نصيب الفنانة الجوهرة، التي قدّمت ألبومًا ناجحًا عام ١٩٩٩ بعنوان جايز أنسى.
من المهم توضيح أن تكرار بعض الألقاب أمر شائع، لهذا السبب يجب التفريق بين فنانتين تحملان نفس الاسم: الجوهرة التي يتناولها هذا المقال هي الفنانة التي ظهرت عام ١٩٩٩، والتي اكتشف موهبتها ودعمها الراحل ناصر الصالح. أما الجوهرة الأخرى فهي فنانة ظهرت عام ٢٠٢٠، واكتشفها فايز السعيد وتختلف تمامًا من حيث التوجه الفني والمرحلة الزمني.
بدأت الجوهرة مسيرتها بإصدار ألبوم جايز أنسى الذي تضمن ٨ أغانٍ، منها ٤ من ألحان ناصر الصالح، بالإضافة إلى أغنية من كلمات وألحان خالد عبد الرحمن، بينما كتب أغلب النصوص شعراء كبار مثل مساعد الشمراني وعلي عسيري. صادف توقيت صدور ألبوم الجوهرة نزول ألبوم الفنانة أحلام الشامسي، بعنوان طبيعي، ما أثّر سلبًا على مبيعات ألبوم أحلام.
حقق ألبوم الجوهرة نجاحًا ملحوظًا من أيامه الأولى، حيث باع ما يقارب ٧٥ ألف نسخة خلال أول ثلاثة أيام، ونفدت طبعته الأولى من السوق. اللافت هنا هو ما حققه من مبيعات في زمن لم تكن فيه وسائل التواصل متاحة، ولا التسويق الرقمي موجود. لم يكن هذا النجاح عابرًا على المستمعين، بل كان إشارة واضحة على موهبة استثنائية قادمة لفتت أنظار أحد أهم الملحنين في الخليج، بالإشراف على ألبومها وتلحين نصف أغانيه دفعة واحدة.
في ٢٠٠٤ بدأ ناصر الصالح بإعادة توزيع بعض ألحانه التي سبق أن صدرت وتقديمها لفنانين أكثر شهرة بهدف منحها فرصة جديدة للانتشار. أبرز مثال على ذلك أغنية أنا بخير للجوهرة من ألبوم جايز أنسى، التي قدمها الصالح لـ نوال الكويتية. أثار هذا القرار تساؤلات حول غياب إبداعه وإنتاجه. من ناحية أخرى، واجهت نوال إحباطًا بعد الأداء الباهت لألبومها، خصوصًا مع اكتشاف أن أنا بخير سبق أن غنتها الجوهرة.
“لابد من التريث في اختيار الأعمال المطروحة أمامي لأن الجمهور لا يرحم، ومن هنا التأني هو مبدئي في أي عمل أقوم به.” ~ الجوهرة
يوم الخميس الموافق ١٤ سبتمبر، نشرت جريدة الجزيرة خبرًا بقلم عبد اللطيف المحسن في قسم الفن، بعنوان: بعد إجرائها لعملية جراحية، الجوهرة تعتزل الغناء.
عنوان من النوع الذي نطلق عليه اليوم كليك بايت، عناوين تجارية رخيصة تسبق المحتوى ولا تمثله بدقة. كان محتوى الخبر ببساطة أن الجوهرة أجرت عملية جراحية وستأخذ فترة للتعافي، وهذا بطبيعة الحال يعني ابتعادًا مؤقتًا عن الفن وليس اعتزالًا شاملًا أو نهائيًا؛ وسيتم إصدار الألبوم بعد عدة أسابيع.
يبقى السؤال: هل كان ذلك عنوانًا متسرّعًا أم تسريبًا داخليًا؟ طُوي الخبر مثل كثير من أخبار تلك الفترة، لكن ظل الأثر معلقًا، تمامًا كاختفاء الجوهرة، غير محسوم وبلا تفسير.
حقق ألبوم فدوة عيونك نجاحًا آخر بعد جايز أنسى، وتضمن أسماء أكبر مثل خالد الفيصل والراحل صالح الشهري، ولم يخل طبعًا من اسم مكتشفها ناصر الصالح، بالإضافة إلى المايسترو وليد فايد كموزع. أبرز أغاني الألبوم بنت أبوها وليه تتجاهل وجودي، وكذلك فدوة عيونك التي غنتها لاحقًا أحلام الشامسي.
فلة (العمري، عبابسة، الجزائرية) فنانة جزائرية بدأت نشاطها الغنائي في الثمانينات، وتُتقن الطبوع الموسيقية بشكل واضح، كما أنها غنت باللهجة الخليجية وأصدرت أغنية بعنوان تجيك التهايم. واجهت فلة سلسلة من المشاكل المهنية والشخصية، أبرزها خيانة زوجها ومنعها من دخول مصر لفترة طويلة، وصراعات عائلية أثّرت على استقرارها النفسي. أيضًا، أُخذ عليها تغيّر شكلها المتكرر بسبب عمليات التجميل، إلى جانب تهميش إعلامي وفني واضح، كما خاضت خلافات علنية مع فنانين مثل أصالة، ومع شركات إنتاج كبرى مثل روتانا. عانت فلة بالنتيجة من ضعف الترويج لأعمالها وإلغاء حفلاتها حتى بالجزائر، ما زاد من شعورها بالتجاهل.
في ١٩٩٨ نشر محمد بكر يونس ألبومًا بعنوان ما وحشتك، تضمن أغانٍ تعاون فيها مع فنانة لم نسمع عنها بعد – آنذاك – هي جوهرة الجزيرة، وهي نفس جوهرتنا لكن لم تصدر بعد جايز أنسى. المثير للتناقض أنه كتب على صورة الغلاف أنه تم تركيب صوت فلة العمري على أغنية شغلة غريبة. بعدها بعام كتب عبد الرحمن ناصر عامودًا على الجريدة بعنوان، بعد شغلة غريبة الجوهرة تقول جايز أنسى.
“المطربة الخليجية الجوهرة تعود مرة أخرى للساحة الغنائية، لكن هذه المرة لوحدها لتثبت أنها بالفعل التي أشهرت شغلة غريبة التي شاركها بالدويتو محمد بكر يونس، وفي الأيام القادمة سيطرح بالأسواق شريط جايز أنسى لهذه المطربة.”
إذًا، من هي التي غنت دويتو شغلة غريبة مع محمد بكر يونس؟ هل هي فلة الجزائرية، كما يظهر على غلاف الألبوم، أم هي جوهرة الجزيرة التي أدلت بالتصريح أنها هي من أشهرت الأغنية وشاركت بالدويتو. كأن فلة حاولت أن تنسب الفضل لنفسها، لذلك أدلت الجوهرة بهذا التصريح؟ للإشارة أيضًا، غنت فلة الأغنية لاحقًا في أكثر من برنامج تلفزيوني، وصرّحت:
“كما كانت لي تجربة مع المطرب السعودي محمد بكر، أدينا معًا أغنية بعنوان شغلة غريبة. وكانت الأغنية باللهجة السعودية. وأنا أعشق الغناء الخليجي، ومن أحب الأصوات إلى قلبي صوت الفنان المرحوم طلال مداح. وكلما سافرت إلى السعودية، يُطلب مني بكثرة الغناء في أفراح عائلات سعودية.”
دعونا نحاول نبرر هذا التصريح: في كونٍ آخر موازٍ، الجوهرة هي فلة الجزائرية نفسها. لتبسيط الموضوع، كما ذكرت سلفًا، تتقن فلة الغناء باللهجة الخليجية وأصدرت أغنية بهذه اللهجة، ومن جهة أخرى الجوهرة، غنت أغانٍ شرقية ولديها القدرة على ذلك. أما الطبقة المتوسطة، النبرة الأنثوية، والغنة الخفيفة، كلها عناصر يمكن لفلة التحكم بها، ولو اختارت فعلًا تقديم نفسها بصوت مختلف، فالصوت الذي عرفناه، الجوهرة، ليس بعيدًا عن متناولها.
التفسير الأرجح لمحاولة فهم ما كتبه عبد الرحمن ناصر في ذلك العمود الصحفي؛ أن فلة الجزائرية واجهت أزمة، تتعلق بتهمة الدعارة، عام ١٩٩٦ في مصر، ما ألقى غيمة سوداء على سمعتها وصورتها الفنية. إذًا من الممكن أن تكون الأزمة دفعتها إلى الظهور بهوية متخفية جديدة، ولعلها اكتشفت منفذًا لمواصلة الغناء بعيدًا عن الضغوط الإعلامية، التي لاحقتها سنوات، حتى الأن.
كذلك يبقى ارتباط فلة بعلاقات في الخليج قائمًا عبر زوجها الكويتي الذي انفصلت عنه عام ١٩٨٧، أو من خلال اشتغالها على أغانٍ باللهجة الخليجية، ما قد يفسر اختيارها لهوية مثل الجوهرة، كصوت بديل يتلاءم مع الساحة الغنائية الخليجية في تلك الفترة، مقابل الحفاظ على هويتها ومواصلة الغناء مع ملحنين وشعراء كبار.
من الصعب الجزم فيما إذا كانت خطوة لإعادة تقديم موهبتها في فضاء مختلف أم مجرد صدفة. لكن ظهور الجوهرة فجأة بألبوم متكامل ومنتج بعناية لا يشبه عادة ظهور فنانة مبتدئة، في ظل تراجع فلة إثر أزمتها، مثير للفضول. بهذا الاحتمال يمكن فهم تميّز الملحنين والشعراء الذين تعاملوا مع الجوهرة؛ فهم لم يكونوا يتعاملون مع فنانة ناشئة، بل مع فنانة خبيرة تحمل باعًا طويلًا في الغناء، مثل فلة الجزائرية.
من المثير أن تظهر بهوية فنية مجهولة، تطلق ألبومين يكتسحان السوق، ثم تختفي. أما تأويل هذا الغياب فيفتح أبوابًا كثيرة، مثل الضغوط العائلية، المجتمعية، أو افتضاح هويتها ضمن نطاقها كفيل بسحبها من المشهد فجأة دون تمهيد.
ما لفت نظري أثناء البحث، وجدته في مقاطع يوتيوب لأغاني الجوهرة، وبعض المنتديات المؤرشفة، حيث تكررت تعليقات يرجّح أصحابها أن الاسم عطور لم يكن سوى واجهة بديلة استخدمتها الجوهرة نفسها، في مرحلة ما بعد ألبوم فدوة عيونك حتى اعتزالها عن الساحة الفنية بكامل اللقبين عام ٢٠١٠ تقريبًا.
بعد التحقق، تبيّن أن فنانة بهذا الاسم موجودة فعلًا وتملك صوتًا يقترب من صوت الجوهرة إلى حدٍ مُربك، والتسجيلات المنسوبة لعطور ظهرت بطابع أفراح وجلسات خاصة. أبرز ما غنته الجوهرة تحت اسم عطور وظل محفوظًا هي أغنية قليل من مثل خلي في الرجاجيل رجال. تحولت هذه الأغنية إلى ما يشبه الترند آنذاك، حيث أصبحت تستخدم في مقاطع إهداء لمدح رجال معينين، وغالبًا ما تستبدل كلمة خلي في عنوان المقطع باسم شخص معيّن، وانتشرت هذه النسخ بكثرة وبأسماء مختلفة، ما ساهم في إعادة تداول الأغنية خارج سياقها الأصلي.
ربما يسرق البحث عن إجابة أحيانًا لحظة الاستمتاع، إذ ليس من الضروري دائمًا أن نعرف من هو الفنان خلف العمل، في بعض الحالات يكفي أن نستمع له، ونتفاعل مع أثره دون أن نلاحقه بأسئلتنا.
لكن العناوين التجارية تفعل فعلها، وما رمى إليه عبد اللطيف المحسن في عنوانه قد تحقق فعلًا؛ فالجوهرة اختفت، أو اعتزلت – على الأرجح – دون إعلان رسمي صريح وكأنها تبخّرت. ربما اكتفت بما قدمته أو حققت ما أرادته فعلًا.
من المؤكد أن ظاهرة الجوهرة لا يمكن اختزالها في صوت جميل أو ألبوم ناجح. هناك ما هو أعذب وما زال بلا إجابة واضحة، شعور يصعب وصفه والإمساك به، وربما لفهم هذا الشعور لا يكفي أن تقرأ عنها أو تلاحق أخبارها القديمة لكن عليك أن تستمع إليها، فقط حينها قد تبدأ ملامح الحقيقة بالظهور.
تعلقت بالجوهرة، إلى حد جعل السؤال عنها يطغى أحيانًا على صوتها، وحرّضني الغياب على النبش خلف المجهول، بدلًا من الاكتفاء بما تركته. ربما لو طبقنا قانون التقتير لقلنا ببساطة: “اختفت وانتهت القصة” مثلها مثل أي فنان معتزل، لكن هنالك شيء يجعل هذا التفسير غير كافٍ.
ما يهمّ في النهاية ليس أن نعرف من كانت الجوهرة فعلًا، ما يهم هو أن هذه الحالة كشفت عن لحظة مضطربة: نساء يخترعن هويات ليُسمع صوتهن، في فضاء لا يحتمل وجودهن الصريح.
جريدة الجزيرة، عبد اللطيف المحيسن: حقيبة اللحن والكلمة – مايو ١٩٩٩
بتصرف من مقال للصحفي: عبد الرحمن ناصر – فبراير عام ١٩٩٩
جريدة الجزيرة: الجوهرة تسجل أعمالها الفنية – مارس عام ٢٠٠١
العربية: فلة الجزائرية: زواجي القديم فشل وهذا زوجي الجديد – سبتمبر عام ٢٠٠٤
جريدة اليوم: الشاعر الجنوبي :الجميع يعرفني – أكتوبر عام ٢٠٠٥
جريدة الرياض: «الأصوات النسائية».. تاريخ عميق ومستقبل زاهر – مايو عام ٢٠٢٣