ما لا يقتل الروك يجعله أقوى | الغزو البريطاني

بعد إجهاض الموجة الأولى من الروك في الولايات المتحدة في أواخر الخمسينيات، لاحظت شركات التسجيل أن هذه الموسيقى خلْفت شريحة عمرية جديدة من المستمعين، أكبر من الأطفال وأصغر من الراشدين، ذات ذائقة تفضل الصاخب والمتمرد والهائج عاطفياً. قد يفاجئ البعض أن ظهور هذه الشريحة في السوق كان سبباً رئيسياً في تشكل خصائص سن المراهقة في الولايات المتحدة -ولاحقاً في باق العالم – كما نعرفه اليوم، جنباً إلى جنب مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

جعلت شركات التسجيل مهمتها إيجاد بديل للحفاظ على شريحة المستمعين الشرهة هذه، وكانت أولى محاولاتها تشكيل نسخة هجينة من الروك تخلو من أي نزعة مهددة أو شقية أو حتى صاخبة، وبالتالي إخصاء الروك ليصبح نسخة تجارية يتقبلها المجتمع. عُرف ذلك بتوجه مبنى بريل The Brill Building Approach الذي قام على توظيف كتاب وملحنين يؤلفون أغانٍ قصيرة وبعيدة عن التمرد. أدى ذلك إلى إعادة الفصل بين المغني ومؤلف الأغاني، وتركيز مستكشفي المواهب على وسامة وكاريزما الموسيقيين بدلاً من قدراتهم الإبداعية أو خامات أصواتهم التي يمكن التلاعب بها في الاستوديو. تم أيضاً استخدام كلمات عاطفية ورومنسية حتى لو كانت مبتذلة. من جانبٍ آخر توسعت شركات التسجيل لضم نجمات روك إناث كـ براندا لي التي اتبعت توجهاً عاطفياً هادئاً، وجانس مارتن التي قُدّمت كنسخة أنثوية أقل جموحاً بكثير من إلفيس، وعُرفت بأغنية My Boy Elvis. كذلك ركزت شركات التسجيل على الأغاني الراقصة التي زاوجت صيحات الرقص Dance Crazes، وشغلت عدداً متزايداً من البرامج التلفازية، أحد أشهرها American Bandstand، حيث يرقص مراهقون أمام الكاميرا على موسيقى فرقة تعزف في الاستوديو.

أغنية ذ تويست التي أطلقت إحدى أكثر صرعات الرقص انتشاراً بذات الاسم.

أدى ذلك إلى تراجع المستوى الفني في الروك واضمحلاله، إلا إذا استثنينا حالاتٍ نادرة وازنت بين الإبداع الفني المهادن والنجاح التجاري كـ فرانكي آفلون والأخوين إيفرلي اللذان كان لهما دور هام في تأسيس الغناء الهارموني في الروك، تاركين أثراً كبيراً على مكارتني ولِنُن.

الجانب المشرق من فترة السبات

رغم ما سبق، شهدت فترة السبات بعض الإنجازات التي كانت محوريةً في تطور الروك بعد عودته اللاحقة، أهمها بروز دور المنتج، وتحوله من مجرد شخص يشرف على التسجيل في الاستوديو وكمية الوقت الذي يستهلكه التسجيل، إلى فنان له دور في جماليات المنتج النهائي مثل لِس بول الذي كان حتى ذلك الوقت لا يزال حالة فردية لم تعمم. كان فِل سبيكتر Phil Spector من أعظم منتجي تلك الحقبة، ابتكر تقنية تسجيل تؤدي إلى صوت موسيقي أكثر ضخامةً عرفت بجدار الصوت The Wall of Sound. بدلاً من تسجيل أصوات الآلات والمغنين على مايكروفونات أحادية المجال لا تلتقط سوى صوت من يقف أمامها، قام سبيكتر بتسجيل كل الأصوات على مايكروفونات عمياء المجال Omnidirectional تلتقط صوت الآلة التي أمامها بشكل رئيسي وباق الأصوات بشكل منخفض لكن مسموع بوضوح، ثم دمج تسجيلات كافة الميكروفونات بشكل يجمع الصوت الرئيسي لكل آلة أو مغني بأصدائه من التسجيلات الأخرى، وينتهى الأمر بأغانٍ ضخمة صوتياً ومُرضية، مشكلتها الوحيدة أنها لم تسجل ستيريو Stereo قناتين صوتيتين مختلفتين من اليمين إلى اليسار.

شهدت هذه الفترة أيضاً عدة حركات وإنجازات فرعية كظهور موجة جديدة من السول Sweet Soul من أبرز نجومها سام كوك، وظهور محاولات لمزج الموسيقى المعاصرة بالكلاسيكية كما في أغنية There Goes My Baby لفرقة ذ دريفترز، الأمر الذي مهد بشكل غير مباشر لظهور الروك السيمفوني. كذلك ظهرت في الساحل الغربي الأمريكي موسيقى راكبي الأمواج Surf Music بشقيها الغنائي والآلاتي، وكان دِك ديل أشهر عازفي هذه الموسيقى، والذي طور تقنية نقر أوتار على الجيتار خاصة به مستمرة حتى اليوم.

المشهد الموسيقي في بريطانيا

كان المشهد الرائج في بريطانيا في تلك الفترة يمثل انعكاساً غير دقيق ومتأخر عن نظيره الأمريكي، إذ ظهر فنانون وصفوا على أنهم إلفيس بريسلي البريطاني مثل كلف ريتشارد، وانتشرت بعض الأصناف الأمريكية في بريطانيا مثل البلوز بأصنافه المختلفة من الجاز التقليدي القادم من نيو أورلينز إلى بلوز شيكاغو. كانت كل صيحة موسيقية أو راقصة في أمريكا تعبر المحيط وتصل بريطانيا بعد شهر أو شهرين. تجارياً، كان الفنانون البريطانيون يواجهون منافسة صعبة في مع نظرائهم الأمريكان على المبيعات في بلادهم، أما حظوظ نجاحهم في أمريكا فكانت معدومةً تقريباً. تغير ذلك مع ظهور البيتلز.

البيتلز والستونز

كانت هامبورغ عاصمة الاحتفالات الصاخبة والماجنة في أوروبا، وكانت توازي لاس فيغاس. لهذا كان من الضروري أن تضم هامبورغ جميع أنواع الفنون والصرعات الحديثة. فكر متعهدو الحفلات باستقدام موسيقيي روك من أمريكا، لكن تكلفة السفر كانت باهظة، فلجأوا إلى البريطان، وخصوصاً من هم في ليفربول التي يجعل ميناؤها السفر إلى ألمانيا اقتصادياً وسهلاً. بدأت صالات الحفلات في هامبورغ باستيراد مؤدي الروك من ليفربول، وكان من ضمنهم أربعة مراهقين شكلوا سويةً فرقة روك لأداء الأغاني الأمريكية المشهورة.

بعد أعوامٍ من حفلات تمتد لساعات متواصلة في هامبورغ، طوروا خلالها موهبة محاكاة مذهلة دون هوية مستقلة، عثر منتج ومكتشف مواهب شاب يدعى براين إيبستين على البيتلز، وأمّن لهم جلسة تسجيلات في ديكا Decca في الولايات المتحدة أول أيام عام ١٩٦٢. دِك رو Dick Rowe من ديكا لم يعجبه الشريط التجريبي الذي سجلته الفرقة، وقال إن فرق الجيتار Guitar Bands في طريقها نحو الانقراض. عُرِف دِك رو حتى آخر حياته بأنه ذاك الذي فوَّت توقيع عقدٍ مع البيتلز. في العام التالي التقت الفرقة بمنتج/مكتشف آخر هو جورج مارتن، الذي استطاع بالتعاون مع إيبستين إيصالهم بسرعة هائلة إلى قمة النجاح المحلي عبر إصدار ألبومين نصفهما من تأليف البيتلز والنصف الآخر إعادات تسجيل لأغانٍ كانوا يؤدونها في هامبورغ. في الحالتين التزمت أغانيهم بمعايير موجة الروك الأولى من حيث قابليتها للرقص وخفتها وقصرها وغلبة أغاني الحب الساذجة عليها وبنية الـ ا ا ب ا  بنية انتشرت في الجاز بشكل رئيسي، تقوم على تكرار مقطع رئيسي مرتين ثم إدراج مقطع مختلف عرف بالجسر Bridge ثم العودة إلى لمقطع الرئيسي. تراجع انتشار هذه البنية بعد ظهور بنية اللوازم والمقاطع. اعتمدت الصحافة البريطانية في ذات العام مصطلح حمى البيتلز Beatlemania.

بدأ مدراء أعمال البيتلز بحجز أكبر عدد ممكن من الحفلات لهم في أوروبا ليجمعوا أكبر أرباح ممكنة، باعتبار أن نجم الفرقة سيخبو قريباً. في مطلع ١٩٦٤ وصل البيتلز الولايات المتحدة، وظهروا في برنامج إد سوليفان التلفازي ذائع الصيت لثلاثة أسابيع متتالية. أصيبت الولايات المتحدة بعدوى البيتلمانيا. في نيسان / أبريل من ذات العام كانت ١٢ من أغاني البيتلز في قائمة أكثر ١٠٠ أغنية مبيعاً في الولايات المتحدة، واحتلت أغانيهم المراكز الخمسة الأولى. لم ينته العام قبل إصدار البيتلز فيلمهم الأول ليلة يوم شاق الذي رافقه ألبوم بنفس الاسم.

في هذه الأثناء كانت فرقة بريطانية أخرى تحاول السير على خطى البيتلز، فرقة شديدة التأثر بالبلوز، وذات براعة ملحوظة بالعزف، عرفت بالرولينج ستونز. أشرف المنتج آندرو لووج أولدهام Andrew Loog Oldham على الرولينج ستونز الذين كانوا في بداية مسيرتهم يحاولون تقمص البيتلز حتى بالشكل وتسريحات الشعر. آندرو كان له رأيٌ مخالف، اعتقد أن الستونز لا يمتلكون الكثير من الحظوظ لمنافسة البيتلز في لعبتهم، ونصحهم بأن يأخذوا كل عناصر البيتلز ويقوموا بعكسها. لم يكتف آندرو بذلك بل بدأ بحثّ الصحافة على ترويج هذه الصورة. انتشرت في بريطانيا مقالات من قبيل: أترضى لابنتك أن تتزوج أحد الرولينج ستونز؟ وأصبحت الصورة الذهنية للفرقة أنها المتمردة الشقية البذيئة والجامحة، في وقتٍ كان البيتلز لا يزالون يقدمون نموذجاً بريئاً وأغاني حب ساذجة. عندما عرض آندرو على دك رو من تسجيلات ديكا فرصة تسجيل الرولينج ستونز، لم يكرر خطأه.

في أعمالهم الأولى حتى منتصف الستينات لم يختلف الستونز عن البيتلز كثيراً. كانت أغانيهم قصيرة عاطفية يسهل الرقص عليها، تلتزم غالباً ببنية الـ ا ا ب ا، وتقوم ألبوماتهم على استعادات  Covers لأغاني نجوم الروك والبلوز الخمسيني في أمريكا كتشاك بيري وبو ديدلي وهاولين وولف وأوتس ريدينج Chuck Berry, Bo Diddly, Howlin' Wolf, Otus Redding..

الغزو البريطاني

مع عودة الروك بشكله القديم عبر البيتلز ثم الستونز، واكتساحه جمهور المراهقين الأمريكي بسرعة تجاوزت الأرقام القياسية لسيناترا وإلفيس، يئس المجتمع الأمريكي المحافظ من مكافحة الروك، مفسحاً المجال لغزو بريطاني من فرق The Animals, Herman's Hermits, Donovan, the Dave Clark Five عبرت على الجسر الذي بناه البيتلز والستونز وأقامت في لائحة الأغاني والألبومات الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة. كان بالإمكان التمييز بين نوعين من الفرق، فرق شبيهة بالبيتلز أكثر لطفاً ورومنسيةً، ذات جودة تسجيل ممتازة تحاكي الروك التجاري الرائج إلى حدٍ ما، وفرق شبيهة بالرولينج ستونز ، بجودة تسجيلية منخفضة بشكل متعمد، أعادت الصخب والجموح للروك، وتأثرت بعمق بالبلوز. كما كانت هناك فرقتان مهمتان خرجتا عن هذا التصنيف الثنائي بتركيزهما على الجيتار وتطوير توجه جديد في كتابة الأغاني، وهما ذ هو وذ كينكس.

رغم التشابه الظاهري بين البيتلز والروك التجاري الرائج، إلا أن الغزو البريطاني الذي قادته أعاد الكثير من خصائص الروك الرئيسية مثل إزالة الجدار بين المؤدي ومؤلف الأغاني، خصوصاً مع بروز الثنائي بول مكارتني وجون لِنُن، إلى جانب ما أتت به فرق أخرى كالجودة التسجيلية المنخفضة عند الستونز وكثافة الجيتار عند ذ كينكس والحس التمردي السياسي الجريء عند ذا هو. كانت الولايات المتحدة أذكى من أن تكتفي بتقبّل الروك، ففتحت أبوابها واحتوت بسرعة مذهلة كل ما أتى به الغزو البريطاني، لتفرز بشكلٍ شبه فوري جيلاً جديداً من نجوم الروك الأمريكان كان لهم لاحقاً تأثير عميق على نظرائهم البريطانيين، عُرِف بالرد الأمريكي .


هذا المقال هو الخامس ضمن سلسلة تاريخ الروك.