.
لا توثّق أعمال اسماعيل المتاحة تطوره الموسيقي منذ البداية، فعندما نشر أول تسجيلاته في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي كان من الواضح أنه ليس ابن البارحة، بل أنه بيرفكشنست إلى حد ما، انتظر حتى اتضحت رؤيته وبلغت درجة معينة من النضج.
يلمس هذا النضج بوضوح في عمله الأول Odd One Out الذي يعتمد على السينث والبايس والعينات الصوتية. مما يميز هذا التسجيل المكون من ٦ مقطوعات سمِّيت وفقاً لترتيبها هو التنوع في المقطوعات ووتيرتها. يبدأ التسجيل بـ I التي تحمل صوتاً محيطاً ذو حس واضح لمكان مفتوح، يميل نحو البدائية، مبنياً من عينات صوتية معدلة لتعطي صوت أمواج إلكترونية من محيط تشويش كالذي قد تراه وتسمعه على التلفاز عندما تضبط التردد بين محطتين. يستمر هذا الحس البدائي المشوش بدرجة أقل في المقطوعات الأربعة التالية، والتي تسودها أصوات إيقاعية مضطربة يجرب ضمنها اسماعيل أنماطاً مختلفة، بعضها رتيب قاتم وبعضها الآخر أكثر تلوناً وديناميكيةً، حتى المقطوعة الأخيرة VI التي تحصل فيها هذه الأصوات والنبضات المضطربة على صعقة برق فرانكشتاينية تبث فيها الحياة. تبدأ المقطوعة بأصوات غليظة مسخية يبدو أنها تحاول التكلم، قبل أن تتكاثر وتتلون وتزداد دفئاً لتتحول لمهرجان صغير من الأصوات الحية المحتفلة.
يبلغ أُد ون آوت ذروته في III التي تبدأ بصوت ممتلئ يغطي البايس والميد ويتنقل بين نغمات ثلاث، يستخدمه اسماعيل بحنكة ليبني عليه حديقة من أصوات أكثر نعومة تنبض بالحياة، تتطاير وتتراقص على أرضية نشعر أنها صناعية قاحلة. هذا الهاجس نجده في العمل كله، إذ تتراوح الأصوات بين حياة وجمود، ولادة وموت.
https://soundcloud.com/thisisismael/iii
تتضح الأمور أكثر في تسجيل اسماعيل الثاني PreData الصادر في آذار / مارس من العام الجاري. غلاف التسجيل يذكرنا بذاك التشويش من أد ون آوت، بينما يوجهنا اسمه إلى حالة بدائية سابقة للبيانات والمعلومات المستشرية في عالمنا اليوم، وهي فكرة يعززها الاستماع إلى العمل. تبدو المقطوعات كوثائقي صوتي عن كوكب عالق بين بدء الحياة وبدء الحضارة، حيث تخلق الأصوات الإيقاعية بيئةً فوضويةً مشوشةً تتحرك خلالها همسات مضطربة. يستمر ذلك حتى المقطوعة الخامسة والأخيرة والتي توثّق مجدداً مشهداً لبدء حياة ما، بطريقة أكثر وضوحاً ومباشرة هذه المرة. تبدأ المقطوعة ببايس وخربشات إلكترونية مستمرة تشغل مساحة صوتية ثابتة، لا شيء يحدث وكل لحظة تشبه سابقتها ولاحقتها نسبياً، لتمثل نصف الدقيقة الأولى هذه حالة الوجود قبل ظهور الحياة، ثم يظهر فجأةً إيقاع مضطرب يبدو كالنبض، يلغي ظهوره معظم الضجيج في الخلفية، قبل أن يعود كنبض القلب البشري المزدوج، ثم يتحول إلى إيقاع أكثر إلكترونية وسرعةً وتخبطاً. يطغى الضجيج مرة أخرى بعدها معلناً اقتراب حالة الوجود بلا حياة مرة أخرى، والتي يقاومها النبض قليلاً، ثم يخفت حتى يصبح صريراً مكتوماً تنتهي به المقطوعة.
في أعماله اللاحقة التي صدرت خلال الأشهر الماضية كـ Cross Systems، والتي جاءت كمقطوعات منفردة أو إصدارات مزدوجة من مقطوعتين، حافظ اسماعيل على هذا المفهوم بشكله الفضفاض، مطوراً الإيقاع في سياقات أكثر جرأة، كقيامه في مقطوعة Same Day Backwards بإنماء لحن كبير غير واضح الملامح يتطور عبر تغير الأسطر الإيقاعية واختلاف حدة العينات الصوتية المستخدمة، والتي تخلق بدورها ما يبدو كصوت مخلوق يعاني أو يحاول التواصل من خلال قضبان الزنزانة الإيقاعية المتماوجة القابع فيها.
تقدم عروض اسماعيل تجربة دسمة لمحبي الموسيقى الإلكترونية التجريبية بأصنافها الفرعية المختلفة وخاصةً المحيطة، تحرض مخيلة المستمع على التحول لمرافق بصري شخصي يترجم ما يسمع إلى أشكال ومساحات. للذين لا يتابعون موسيقى اسماعيل ولا يألفون أسلوبه، كل ما يلزم هو مرور على أعماله المذكورة في هذا الدليل، يهيئ الذائقة للاستمتاع برحلة استطلاعية في هذه البراري الإلكترونية الجامحة التي يرمح اسماعيل فيها.
يعرض اسماعيل في اليوم الأول من مهرجان مسافات في القاهرة، والذي يستضيفه نادي شهرزاد في وسط البلد في ٢٠ أيلول / سبتمبر الجاري.