بعد الهزيمة | الراس

كتابةنزار حسن - November 8, 2018

قرر الراس في ألبومه الرابع بعد الهزيمة – وللمرّة الأولى – أن ينتج الألبوم بنفسه. تحديدًا من غرفة نومه. انعكس قراره سلاسةً في الإنتاج. هذا أول ما يشعر به من تابع ألبومات الراس السابقة. فمقارنة بعد الهزيمة مثلًا مع آخر ألبوماته الطويلة إدارة التوحش، تُبرز تبدلًا واضحًا لناحية جعل الموسيقى أقلّ تخمةً وإعطاء مساحةً أوسع للصوت البشري. أي أن الانتاج كان متناسب أكثر مع أسلوب المؤدّي ومضمون كلماته.

ما قدّمه الرّاس في بعد الهزيمة جديدٌ من نواحٍ عدة. تغيرت الايقاعات مرحّبةً بموجة التراب الجديدة، فقلّت آلات النقر وهيمنت الإيقاعات الإلكترونية والجمل الموسيقية الطويلة. كما طوّر الراس استخدام صوته ومعه الاستخدام الجريء للأوتوتيون. ظهر ذلك جليًا في حديث الحمامة، وبلال، وخزامى ومولاي. كان الراس قد استبق إطلاق ألبومه بمقال طويل حول الأوتوتيون وتجربته مع التقنية، مفسّرًا أن هدفه التحبير لا التصحيح. لأغاني الأوتوتيون في هذا الألبوم وظيفةٌ خاصّة ومساهمة كبيرة، فقال فيها الراس الشعر الذي لا يقال بالراب، وفتحت عُرَبه نافذة نحو الأحاسيس التي ينبع منها الكلام.

يكمل الألبوم تجدده في أغنية قرية صغيرة مع المغنّي سلّام نصر وعازف القيثارة يعقوب حيدر. تقدم هذه الأغنية تجربة مشجّعة لراب الراس مع موسيقى الجاز، نأمل لو يستتبعها بأخريات. من ناحية موسيقى الهيب هوب، لم تخسر أعمال الراس في بعد الهزيمة أيًّا من أناقة ما سبقها، بل يمكن أن نقول أحضرت مقدورًا مهمًا من التأنّي، وأصبحت أقرب الى ما يحتاجه جسد المستمع للتحرّك المتناغم. هنا تبرز أغنيات الرقية الشرعية، حامل الأسفار ودهب. بدأت الأخيرة بتسجيل صوتي من والدة الراس مذكرًا إيانا بأسلوب انتشر مؤخرًا واستخدمه كندريك لامار وفرانك أوشن.

في المجمل، بقي الراس في مساحة مريحة من ناحية الإنتاج، ولم يقدّم لنا جرعة الموسيقى الراقصة واللعوبة التي توقعها بعضنا، خصوصًا أنه قدّم خلال السنة الماضية نموذجًا جديدًا من ناحية الموسيقى والأداء في هي هيك، طحّانة وزمن المسخ، التي لم يكن أي منها من إنتاجه. أظهر الراس في هذه الأغاني قدرته على التنويع في أسلوبه لكي يتناسب مع هذا النوع من الإيقاعات المهيمن حاليًا في عالم الهيب هوب. بالمقابل، غاب هذا الهيب هوب الجديد عن بعد الهزيمة، ولم يعطنا الراس ما كنّا نتمنّاه من ناحية مهارات الدفق، رغم إنتاجه لإيقاعات كانت تسمح بتنوّعٍ أكبر في أسلوب تواتر الكلمات والصمت بينها. هل اختار الراس ترك هذا الهيب هوب الجديد خارج ألبوماته، والاكتفاء بالأغاني المنفردة والشراكات ليرضي محبّي هذا النّوع؟

من ناحية المضمون، فكما سبق أن بشّرنا الميكس تايب الرياضة والأدب، برهن الرّاس مجدّدًا أنه لا يُختصر بفنّان هيب هوب ولا حتّى بمغنّي راب، فهو أوّلًا وأخيرًا كاتب، يداعب الكلمة بما تحتويه من فكرٍ وتاريخٍ وهويّاتٍ وعُقَدٍ وجمال. ويتنوّع تقديم هذه المداعبة، ليضحكنا أحيانًا قليلة، يغضبنا أحيانًا أخرى، ويجعلنا نلمس التناقضات واللاعدالة التي تهيمن في عالمنا أحيانًا كثيرة. بالفعل، ربّما الخلاصة الأكبر من هذا العمل هي أن الرّاس لا يزال متمسّكًا بخياره أن يكون المضمون هو الأساس في عمله الفنّي، هذا إن لم نقل أنه الهدف الأوّل والأخير له. فمن يستمع الى هذا الألبوم ويتمعّن في النّص، لا يمكنه إلّا أن يرى حجم الفلك الذي يدور رأس الراس فيه. هو فلك غير محدود بزمان أو مكان، وفي الآن ذاته متجذّر. فبدل أن يكون الاقتلاع وسيلة للسفر والتجوّل في ذاك الفلك، تكون الجذور هي الطريق المؤدّي إليه.

تشكل كثافة الاستعارات في كل جملة من أغنيات الراس ميزة لأعماله، وتتراوح المسائل التي تطرحها هذه الاستعارات من صعوبات تواجه الفنانين كالإنتاج من دون ميزانية، وصولًا الى مسائل تتعلق بالتاريخ اللبناني المشترك والنسيان الجماعي لأفعال النظام السوري فيه، والخيبات التي حطّمت أحلام بنتها الثورات الشعبية وحركات المقاومة، وأثر الاستعمار على الأرواح والعقول والهويّات، وتجربة الاكتئاب في خنقة المدينة، ومواضيع غيرها كثيرة. لهذه المسائل مصطلحات لا يمكن أن تكون إلّا معقّدة، كما هو تركيبها في قوافي تناسب نوع الموسيقى. برع الراس في هذا منذ بدء مسيرته. يصعب أن يجد محبّي الرّاب أي مسيرة مماثلة من ناحية كثافة وعمق المضمون وحساسية اختيار التعابير، إن كان في اللغة العربية المحكية أو الفصحى، أو حتى في اللغة الإنكليزية التي انطلق منها هذا الفن. ما يبرز مجدّدًا في هذا العمل، وكان قد نجح فيه سابقًا في أعمال عدّة مثل معركتي وتحت (٢٠١٤)، هو الغوص في المعضلات الشخصية ومصادر القلق وربطها بالمسائل الاجتماعية والسياسية التي لا تغيب عن المحتوى. يفسر لنا هذا الربط اختيار الراس لعنوان الألبوم، فهو يروي قصصًا من الجبهات الكثيرة في معركته مع الهزائم، السابقة منها والمقبلة.

لهذه الرواية تطور جميل مع تقدّم الأغاني في الألبوم، فجمعها الراس بتراتب دقيق رغم بعض الاستثناءات. في المجمل، قدّمت الأغاني الخمس الأولى الصراعات والمعضلات التي تثقل على أكتاف الراس، والتي تصل الى ذروتها في أغنية بلال، متمثّلةً بصخرة كتلك التي وضعوها على صدر بلال بن رباح لإجباره على الكفر بالإسلام ورسوله. يأتينا الراس بعدها بأغنية الرقية الشرعية التي يسرح فيها خياله في سيناريوهات نهوض العرب من قعر الهزيمة، ممثّلةً تحوّل في مضمون الألبوم من الداكن إلى الأكثر تفاؤلًا. إن كان الألبوم ككلّ هو حديث بين الراس ونفسه، يمكننا القول إن في الأغاني التالية يصبح الحديث أكثر إيجابيةً وحسمًا. يحكي الراس في النصف الثاني من الألبوم ليس فقط عن مضمون فنّه وإنسانيته، بل أيضًا ما يرفض أن يكونه كإنسان وفنان وجزء من الصنف البشري.

يعانق الراس شغفه في خزامى، يؤكّد موضعه في الجزء المُحتقر من الكوكب المعولم في قرية صغيرة، ويبعد نفسه عن المنظّر غير المشتبك والمستغلّ للشارع كماركة تجارية في أغنيته مع المحراك. يذكّر الراس نفسه أيضًا، من خلال أذننا، أنّه رجل سوبر عادي في نواياه وتصرفاته وحتى هويّاته، كاتبًا أغنية أشبه بطعم ذاتي ضد النرجسية. بعد هذه السلة من الأغاني التي يرتفع فيها الصلح مع النفس ويصف فيها الراس مهمّاته، وأبرزها تغيير مصير الراب العربي في أغنية دهب، اختار أن يختم ألبومه بأغنية مولاي، حيث يصبح الحديث بينه وبين ربّه، فيستمدّ منه القوّة والمعنى وأسس الصمود. ينتهي العمل بصوت شباشب الراس تبتعد عن الميكروفون، فيكمل ذلك مشهد الخشوع ويذكّرنا بأن هذا الفنّ صدر من أكثر الاستديوهات حميمية، المنزل.

إلّا أن كثافة وتعقيد اللغة التي روى فيها الراس هذا المضمون في بعد الهزيمة أيقظت الدعوات على ألسن بعض محبّيه لكي تكون المصطلحات أبسط قليلًا، والاستعارات أسهل لتفكيكها وفهمها، فهذا قد يسهّل وصول المحتوى لمن يستمع ويتابع، ومن لم يستمع بعد. مع أن الراس قد عبر في أغانٍ عديدة عن رفضه التّام للمنظور القائل بأن اللغة الشعبية يجب أن تكون بسيطة لغويًا أو من ناحية المعاني، يبقى هذا الموضوع تحدٍ مهمّ له، يحتمل مقاربات بعيدة عن ثنائية اللغة المعقّدة والفصيحة مقابل اللغة البسيطة التجارية. فالراب، بكثافة كلماته ومساحته للتعبير الحر، يتيح سرد التجارب أفضل من أي فنّ آخر، فيسمح بإظهار الأبعاد المختلفة وتعقيداتها دون أن يكون النص بذاته معقّد. قد تكون جاري يا حمّودة هي المثال الوحيد في هذا الألبوم، لكنها ليست المثال الأول، حيث برع الراس في هذا الأسلوب في السابق. تحضر أغنية ثورت مع الدرويش مثالًا بارزًا هنا، فقد أبدع فيها الفنّانان من ناحية السّرد، وكانت النتيجة عمل يخطف السّامع لخمسة دقائق وأربعين ثانية.

أكتب هذه المراجعة مع يقيني بأن الراس لم يُوجَد لكي يرضي، وأن تصميم عمله ليناسب الطلب يتناقض مع الغرض من فنّه الحر. من الواضح أن من خلف الاسم، أي مازن السيّد، لا يهوى الجلوس في خانات أو ركوب الأمواج، أو المساومة من أجل النجاح التجاري. فهو ترك عالم المال والأعمال وعاد إلينا في مهمّة، وهذا ما يفسّره بتأني في أغنية دهب. لكنّ ذلك لا يعفيه من إصرار من يؤمن بفنّه والمهمّة التي يحملها على ضرورة تطوّره الدائم ليستكشف احتمالات جديدة أو قديمة في الموسيقى والأسلوب والشكل، وليصل إلى من لم يلتقي بفنّه بعد. فلولا نجاح عباقرة الهيب هوب في السوق لما تعرّفنا على عبقريتهم ولما أثرت فينا موسيقاهم. إن الكعبة التي يعمل مازن لبنائها كما يقول، لن يزورها إلا من يعرف عنها. فكما مهّد السّيف في الماضي لكعبة مكّة، يمهّد السوق اليوم لأي كعبة في مجال الفن، فهو الأداة شبه الوحيدة في المجتمع الرأسمالي. لكلّ زمنٍ أدواته. والسّوق، كما السّيف، يمكن أن يقتل فعل الخلق أو يبشّر بمعنى جديد له.

أخيرًا، إن كان حجم التقدير لفنّ الراس غير مطابق لحجم شهرته، فهو لأن مقارنته بعمل أي فنان آخر ستكون فاشلة حتمًا. ما يخلقه الراس ليس أفضل أو أسوأ من عمل أي كاتب أو رابر آخر، بل مختلف كليًا. جمال العقول في تميّزها، وليس للرّاس كُفُوًا.