fbpx .
بحث | نقد | رأي

بين رعشتي صوت أو نقرتي وتر | حوار مع فادي العبد الله

فادي العبد الله ۲۰۱۳/۱۱/۲۲

معازف: في مقالك عن تلك الموسيقى، الذي سنسأل، انطلاقاً منه، لأهمّيته، عدّة أسئلة لاحقة، تصف موسيقى النهضة العربيّة بأنّها انتعشت لومضةبين أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. وأنّها لم تخلّف إلّا عدّة موسيقيين برزوا خارج عمليّة الإنتاج السّائدة. بالنّظر إلى تاريخ الموسيقى في العالم العربي اللاحق للنهضة، نجد أن انتعاشها لم يدم أيضاً إلا لومضات. هل هي مشكلة استمراريّة، أو مشكلة جماليّات مغرّبة عن القيم العربيّة؟

فادي: نستطيع أن ننطلق من بعض النقاط الأساسية: 1ـ الموسيقى في العالم العربي لا تنحصر في الموسيقى المصريّة والشاميّة، بل هنالك موسيقات متعددة من المغرب إلى اليمن مروراً بالعراق والكويت وتونس وسواها من معاقل الموسيقى. 2ـ كل من هذه الموسيقات مرّت بمراحل انتعاش ومراحل تراجع لصالح موسيقى معمّمة منطلقة من مركز مصري/ لبناني وعلى تقاطع مع البوب العالمي وأنماطه. 3ـ ما نسميه موسيقى عصر النهضة العربيّةأو الموسيقى الخديويّة هو نتاج مزيج خاص مديني مصري في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلا أنّه، بالطبع، على ارتباط بأصوله التاريخيّة لجهة كونه قائماً على الموسيقى المقاميّة، وهو المفهوم المعتمد أيضاً في الموسيقات الفارسيّة والتركيّة والأذريّة وغيرها. 4ـ يستفاد من ذلك أن الموسيقات العربية بأنواعها المختلفة لديها أيضاً جماليّات مختلفة تعبر عن بيئاتها أكثر مما تعبر عن قيم عربيةلا نجد لها تعريفاً محدداً ولا وسيلة واضحة لاستقرائها في الموسيقى. كما يستفاد أنّ تراجع هذه الموسيقات مرتبط بانتشار أنماط أخرى. 5. لماذا كانت هذه الانتعاشات قصيرة، ومضات وانقضت؟ على الأرجح لأن عصف الحداثة بالمجتمعات العربية أدّى أولاً إلى تزخيم طاقاتها الداخلية عبر استدخال أنواع جديدة من أساليب التسجيل والعمل الموسيقى وأماكن جديدة للتنافس بين الموسيقيين ولتذوق نتاجهم، لكنه أدى ثانياً إلى هيمنة السوق التجاريّة على الموسيقى، وهي الهيمنة التي تؤدي إلى التنميط وتغيّر الجماليّات المتبعة والقضاء تالياً على الانتعاش الأول للموسيقى المحليّة.

نموذج ذلك هو تحديداً الموسيقى النهضويّة أو الخديويّة. لم يكن انتعاشها ممكناً لولا بروز أماكن جديدة لتذوق الموسيقى خارج المجال الديني (البلاط الخديوي، قصور البورجوازيّة، الحفلات العامة، وأماكن الاستماع إلى الفونوغراف) وأساليب إنتاج جديدة (عبر شركات الأسطوانات)، ما ولّد منافسة كبيرة بين المطربين والموسيقيين، فجادوا بأفضل ما في أمكانهم، وإلى دمج الطرائق الدينيّة في الإنشاد والدنيويّة في الغناء (فكان الدور أفخم قوالب الغناء، المتّكئ على أساليب الإنشاد في التفريد وفي رد البطانة على المطرب)، مثلما أدت إلى إسراع شركات الأسطوانات نفسها إلى تسجيل التراث الموسيقي المتوافر بأكثر من صوت وأكثر من تخت وصيغة، قبل أن تعود شركات الأسطوانات هذه إلى ابتلاع السوق وإخضاع المطربين والموسيقيين إلى شروطه وشروط الحاجة الرأسماليّة إلى مضاعفة الأرباح بتسهيل الاستماع وتنميط النتاج المقدم إلى المستمع، منهية بذلك شروط الانتعاش نفسها الذي كانت ساهمت فيه.

بعبارة أخرى، قصر حيوات الانتعاشات الموسيقيّة مرتبط، على الأرجح، بدائرة الانتاج والاستهلاك ومنطق التسليع الذي تتعرض له، وليس مرتبطاً بأصالتها المفترضة أو بتغرّبها عنها مثلما أنه ليس دليل قصر نفس عشاق هذه الموسيقات.

معازف: تتكلّم أيضاً في المقال عن تصنيم التراثمن خلال ترسيخ صورة الموسيقيين، أوّل ظهور التلفزيون، بالطرابيش. هل نستطيع الرّبط بين هذه النظرة وبين استعمال التراث الموسيقي كأدوات متحفيّة الآن؟

فادي: لماذا تم تصنيم التراث؟ لأن مصر، المركزيّة في نظرتنا إلى الموسيقى، خضعت لعمليّة تحديث سريعة انعكست رغبة خديويّة في منافسة أوروبا، لا إسطنبول، وبالتالي تم استقبال التغريب الموسيقي الذي قام به محمّد القصبجي ومحمّد عبد الوهاب على أنه نقلة إلى العصر الحديث وابتعاد عن جاهليّةحضاريّة. وكما أن الإسلام على قطيعة مع ما قبله، حمل أنصار الحديث أنفسهم على القطيعة مع قديملم يكن مر على إنتاجه نصف قرن، بدعوى فوضاه وتخلّفه وحسّيته وابتعاده عن الفكر النبيل والتلحين العلميوما إلى ذلك.

فتم رمي القديمفي زمن لم يعد بيننا وبينه جسر، وتم تحويله إلى مناط للسخرية وللإشارة إلى عهد متخلف عن الحضارة المنشودة، وهكذا تم تصنيم تراث كان لا يزال بالغ الطزاجة.

كانت تلك مرحلة الصعود الوهّابي الساحق لأنصار الغناء القديم، والمتماهي أصلاً مع طبقة من النبلاء والبرجوازيّة المصريّة تريد منافسة الفن الأوروبي بأدوات قريبة منه.

لكن تلا ذلك صعود طبقة أخرى من البرجوازيّة الريفيّة، والطبقة المتوسّطة، الباحثة عن علاقة ما مع جذورها، وهو ما عثرت عليه أم كلثوم في رياض السنباطي وفي تلحين القصائد وخصوصاً الدينيّة منها. هكذا كان رياض السنباطي ملحّناً بالغ الحداثة وحتى التغريب” (حتى استخدم البيانو في مقدمة قصيدة كانت من عيون القصائد المغناة على الوحدةمن مشايخ الطرب القدماء، أي قصيدة أراك عصي الدمعلكنّه تحوّل إلى عنوان لأصالة مخترعة، لا علاقة لها بالأصل التاريخي إن في مضمونها الموسيقي أو في حبكتها المصوغة بدقة لا تترك للارتجال مساحته التي كانت.

لذا حين تأتي فرقة أو مغنية وتسعى الآن إلى أداء الموشحات أو الأدوار فإنها تتناولها من وراء غمامتين: غمامة الحديثالذي يرمي بالقديم في مجاهل غامضة، وغمامة الأصيلالمخترع الذي يفرض مهابة وتوزيعاً وأوركسترا وأداءً منضبطاً، وكل ذلك ما يخالف حرية وبهجة روح الموشحات والأدوار، وما يؤدي إلى شعورنا بمتحفيّة الأداء الصنمي الثابت الذي يقدمه البعض، رغم حسن نواياهم.

معازف: وجود طرق تدوين للموسيقى عند العرب في الدولة العباسية، واندثارها، تقول أنه دليل على حرية تلك الموسيقى“. هل ترى جذور موسيقى النهضة في تلك الحقبة إذاً؟

فادي: ما رأيته في اندثار طرق التدوين الموسيقي العربي بعد أن كانت في الحقبة العباسيّة هو تمرد الموسيقيين العرب على التدوين، أي على الحد من حريتهم من خلال تثبيت النص الموسيقي في مخطوط. بهذا المعنى كان اندثار التدوين شهادة على حيوية وحرية الموسيقى آنذاك.

ما وصلنا من نظريات تلك الموسيقى العباسيّة لا يجافي، بحال من الأحوال، نظريّاتنا الحاليّة عن موسيقانا المشرقيّة، لجهة الإيقاع كما لجهة المقامات، وبالتحديد في الحقبة العباسيّة الثالثة، أي بداية ما يسمى خطأ بعصر الانحطاط.

الموسيقى العباسيّة نفسها كانت متأثّرة بدرجة كبيرة بالارث الموسيقي الفارسي كما بالتراث البيزنطي، وكانت سابقة على الموسيقى التركيّة التي تأثرت بها كما بالبيزنطي. يمكن القول أن هذه الموسيقات جميعها فروع متداخلة من شجرة الموسيقى، ولا تزال حتى الآن تتداخل وتتشابك. موسيقى النهضة، أو الموسيقى الحموليّة كما يسميها البعض للإشارة إلى الدور الأسطوري لعبده الحمولي فيها، كانت تتشارك هذه الإطار النظري مع هذه الموسيقات، مثلما تتشارك روح الحريّة والارتجال معها. بهذا المعنى، أرى انه يمكن الاستشهاد بإرث الحريّة الموسيقيّة عند الموسيقيين العباسيين الرافضين للتدوين، مثلما يمكن أن نراه في رفض عبد الحي حلمي الالتزام الصارم بالإيقاعات، أو عدم ارتياح الموسيقيين العرب، حتى الآن، إلى التدوين، خارج ضرورات تسجيل الاستديو.

معازف: تاريخيّاً، قد يمكن مقاربة إنتاج موجة الموسيقى العربيّة التي تسمّى بالـبديلةبالومضات التي تتحدّث عنها. قد تبدو المقاربة، غير العادلة، أيضاً مناسبة لوصف الأثر الذي تتركه هذه الموجات. فإذا لم تكن الموسيقى البديلة تراكميّة وأصيلة، هل نستطيع التعامل معها على أنّها قطيعة مع الماضي والمستقبل، أم أنّها نفس الحركة الدائريّة مع فارق الجودة والأصالة؟

فادي: لست متابعاً بدقة، لذا لا يمكنني في الحقيقة الحديث بعمق عن الموسيقى البديلة، التي لا يكاد يجمعها ناظم سوى كونها مغايرة، في الإنتاج، عن الموسيقى الخاضعة لشروط شركات الإنتاج الكبرى في العالم العربي. أما لناحية أثرها، فقد يكون من المبكّر القول والمقارنة، إذ أن الومضة النهضويّة بقيت التماعاتها تنعكس، في هذه اللمحة الكلثوميّة أو تلك التغريدة من مصطفى إسماعيل أو في تقسيم آلي، رغم انقضاء الومضة هذه منذ نحو ثمانين عاماً.

لكن السؤال يستدعي الإشارة إلى ما أظنّه اختراع الأصالة، لأسباب آيديولوجيّة مرتبطة بالبحث عن هوية مغايرة بعد فشل مشروع الهويّة المنافسة لأوروبا على ملعبها، لذا لا أعتقد ان الأصالة معيار صالح لاستقراء الموسيقى. أما التراكميّةفأمر سيعود تحديده إلى من سيتولّون انتاج الموسيقى البديلة مستقبلاً، بعد أن تدخل الموسيقى البديلة المنتجة اليوم عالم الانتاج الرأسمالي الربحي. هل سيراكمون على الانتاج السابق، أم سيختطون طريقاً مغايراً، سواء على قطيعة أم على اتصال مع أحد انماط الماضي؟ ليس بالإمكان التكهن بدقة، لكن تكفي الإشارة إلى أن الماضي خزانة تتضمن أساليب كثيرة، كي نعرف أن خيارات البديلين القادمين مفتوحة ومتعددة.

معازف: في كتاب يوسف المنيلاوي: مطرب عصر النهضة العربيّة، ذُكِرَت عدّة أسباب لاختفاء تقاليد موسيقى النهضة تلك، منها ظهور مفهوم حقوق الملكيّة الذي أنهى عهد الرصيد المشترك المفتوح للجميع، حيث يقدّم كل موسيقيّ نسخته الخاصة للأعمال. لكن بينما استحوذت شركات الأسطوانات على الأعمال ومنعت تداولها، حصر الرصيد الموسيقيّ في دائرة مكرّرة ومملّة. الآن، تظهر بوادر للتحرّر من ماكنة الإنتاج الرأسماليّة من خلال الانترنت، وانتشار مفهوم المشاع الإبداعي“. هل تعتقد أن هذا سيؤثّر على جودة وأصالة الإنتاج الموسيقي مستقبلاً؟

فادي: الكتاب المشار إليه، ومؤلفوه محسن صوى وفريدريك لاغرانج ومصطفى سعيد، في تقديري من أهم الكتب في الموسيقى العربية قاطبة، لغة وفكراً وتدقيقاً. وإشارته دقيقة إلى موضوع شركات الإنتاج التي لعبت دورين متناقضين، لا يجمعهما سوى هاجس الربح، الأول تسجيل التراث والتنافس فيه، والثاني القضاء على روحيّة التراث هذا من خلال احتكار الإنتاجات الجديدة والقضاء على دورة حياة العمل الموسيقي السابقة القائمة على المشاع والإضافات الإبداعيّة وإنضاج الموسيقى من خلال تفاعل الموسيقيين والمطربين والملحنين على مدى سنوات عديدة قبل أن يصل دورما إلى صورة نهائيّة شبه ناجزة لا تقضي على مساحات الارتجال، ذلك قبل أن تواصل الشركات ومعها إنتاج الأفلام عملها التدميري عبر الابتعاد عن الموسيقى القديمةوالتسويق للـجديدالوهّابي خصوصاً.

لا شك أن انحسار مبيعات الأسطوانات والسيديهات، وغياب الاحترام في العالم العربي لحقوق الملكيّة الفكريّة، وانتشار الانترنت واليوتيوب، كل ذلك يقضي على مركزية التسلّط المالي على الانتاج الفنّي. أعتقد أن المرحلة القادمة، والتي بدأت بالفعل، هي مرحلة استخدام الانتاج الموسيقي للتسويق لنجوميّة المغني أو المغنيّة. حتّى أنّهم هم من يتولّون إنتاج فيديو كليباتهم أو ألبوماتهم. ذلك أن مدخول المغنّي أو المغنّية اليوم يتأتّى بالدرجة الكبرى من الحفلات، لا من المبيعات.

ما آمله هو ان هذه الحراك التاريخي سيؤدّي إلى إفراز سوق موسيقيّة أكثر تنوّعاً، حيث أن الانترنت يسمح للمتلقين بالاتصال بشكل مباشر (دون انتظار الإذاعة أو التلفزيون) بالموسيقى الخديويّة، كما بالموسيقات العربية المحليّة، وبأنماط الموسيقى اللاحقة على تنوعها. وربما يصبح لكل من هذه الموسيقات سوقها وحفلاتها الخاصة، في هامش محترم يعترض على احتكار النجومللسوق.

هنالك خطر حقيقي في أن يؤدي ذلك إلى مزيد من تصنيم كل من أنواع الموسيقى هذه، لا سيما أن النجوميّةعموماً لا ترتبط في بلادنا بالعمل الجاد والدؤوب. لكن هنالك فرصة حقيقية في أن يؤدي الوجود المتزامن والمتاح لكل هذه الأنماط الموسيقيّة إلى بحث موسيقيين جادين عن إغنائها من خلال المزج ما بينها واستعادة خصوصياتها في سياقات متجددة، بدل الاكتفاء بالترديد الببغائي.

معازف: تحدّثت عن ارتباط عميق لأداء المغنين للمقامات نفسها باختلافات دقيقة ولكن واضحة مرتبطة بمواقعهم الجغرافية وشخصية المدن التي عاشوا فيها. هل يعني هذا أن تذوّق هذه الموسيقى بشكل كامل محدود أيضاً بحدود جغرافيّة؟ وفي حالة الاستماع للتسجيلات، بحدود زمانيّة أيضاً؟

فادي: الدرجات الموسيقيّة المعتمدة في الموسيقى المقاميّة تختلف من بلد إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى. درجة السيكاه القاهريّة مختلفة عن تلك الإسطنبوليّة أو الحلبيّة، مثلما هي مختلفة عن السيكاه في صعيد مصر. وهذا ما يجعل للموسيقات المختلفة نكهات وطعوماً مختلفة.

أحسب أن هذا يزيد من الاستمتاع بالسّماع، ولا يقلل منه. فجزء كبير من الشّغف العربي بالاستماع إلى الموسيقى التركيّة مرتبك بغرابة تلك المقامات المشتركة ما بيننا وبين الأتراك. الغربة القائمة حصراً على اختلاف الأبعاد الموسيقيّة رغم ان السلم الموسيقى، نظريّاً، واحد.

بالطبع، أيضاً، تختلف الأبعاد الموسيقيّة، مثلما يختلف مسار المقامات الموسيقيّة، عبر العصور، فينتقل التركيز في النهاوند مثلاً من الدرجة الرابعة إلى الدرجة الخامسة.. إلخ.

يعني ذلك بالنسبة لي أن التذوّق السهل الذي لا مجهود فيه مرتبط طبعاً بالسائد في جغرافيا وفي زمن محددين. لكن التذوق الكاملكي أستعيد عبارتك، هو التذوق الذي يبذل صاحبه مجهوداً في تحويل الغرابة إلى طعم للانتباه والذي يستكمل فيه تذوق العادة والاستساغة بتذوق المعرفة والبحث وتجاوز حدود الألفة السلبيّة.

معازف: ما الذي جعل تلك الموسيقىموقع تندّر أو سخرية أو استغراب. في مقابل الأوركسترا الكبيرة والصوت النقي التسجيل، أهو الهوس بالمنتوج الثقافي بالغرب ورفض الموروث العربي؟ 

فادي: تعرّضت تلك الموسيقى، المتميّزة بالمقاميّة والارتجال والحريّة والارتباط بجغرافيتها وبحثها عن مناطق جديدة في الروح، لموجتين من الانتهاك، أولاها باسم التحديث وثانيها باسم الأصالة، فقضت الموجة الأولى على جماليّات التخت والعرب الصوتيّة والرنين الهيتيروفوني الناتج عن تزامن التلاعب الحر للموسيقيين بالنص الموسيقي نصف الناجز وذلك لصالح فكرة المؤلف الموسيقي على النمط الغربي وافتراض رقي الأوركسترا الكبيرة وصوتها النقي وعلوهما على صوت التخت. أما الموجة الثانية فقضت على إمكانية العودة إلى التراث من دون المرور بخانة الأصالة التي تتطلب التعظيم والمهابة، بما يخالف روح التراث نفسه القائمة على الخفة واللعب، وهما الطرب تعريفاً.

بالنسبة لي، لكل من هاتين الموجتين أسباب اجتماعيّة اقتصاديّة مرتبطة بصعود شرائح اجتماعية معيّنة، بدءاً من تلك الراغبة في تركيب هويتها في مجاراة أوروبا إلى تلك الراغبة في الانكفاء على ما تفترضه أنه هويتها (من دون بحث جدي في وجودها من عدمه). أي أن بامكاننا أن نرى اليوم في علاقتنا بالموسيقى ترسّبات نحو قرن من محاولات الانخراط العربي في العالم الحديث، حيث تتضمن هذه الترسبات تعظيماً لآليات الانتاج الغربي ومقاربته التصنيعيّة المنضبطة بقواعد شبه عسكريّة مثلما تتضمّن هوساً بهوية غير مدققة وتصنيماً لموروث عربي يفترض أن الإمكان استخلاصه ومعالجته على النمط الغربي باستعارة التقنية دون استعارة الحامل الفكري لها: الأوركسترا الكلثوميّة هي، في تقديري، المثال الأبرز على مشاكلنا هذه، كما أن ردّة فعلنا العصبيّة على البوب العربي هي قفا العملة عينها.

معازف: تحدّث ثيودور أدورنو الذي تقتبسه في المقال عن السيطرة على الفنون من خلال التنميط بتوحيد معايير تلقّي هذه الأنواع الفنيّة. وتحدّثت في مقالك عن إنتاج الرحابنة للموشّحات بغير صيغتها الحرّة الطليقة المُطرِبة“. كيف تنظر إلى تجارب أخرى معاصرة، مثل غادة شبير وريما خشيش؟

فادي: أدورنو كان رائداً في النظر إلى الموسيقى من ناحية عملية إنتاجها وتلقّيها، وليس فقط من ناحية خصائصها الفنيّة الذاتيّة. من هنا كان نقده للتسليع الرأسمالي للموسيقى، الذي يؤدّي إلى التنميط، بما يسمح بالتسويق، مثلما يؤدي إلى الابتسار بتحويل الأعمال الموسيقيّة الكبيرة والمعقدة إلى ثيمات مبسّطة وإلى خلطة من الألحان السهلة، بحيث يتم إبدال التذوّق الموسيقي بالاستساغة الناتجة عن الألفة الإجباريّة تحت وطأة القصف الإعلامي المركّز، مثلما يتم إبدال الإعجاب بالعمل الموسيقي بالاكتفاء بمعرفة النجم، حيث أن هذه المعرفة تصبح كافية كي نحبّه.

إنتاج الرحابنة للموشّحات كان، في تقديري، خاضعاً لمنطق مختلف، هو منطق الهويّة والتحديث. فالرحابنة كانوا المحاولة اللبنانيّة لانتاج هويّة موسيقيّة مدمجة، تضع معاً التوزيع الأوركسترالي الغربي والألحان البيزنطيّة والموروث الشامي (ومن ضمنه الموشّحات) والسائد المصري وتضيف إليه الجبلي اللبناني، حيث أن أيّاً من هذه العناصر لن يكون كافياً لإنشاء هويّة لبنانيّة. لكنهم في عملهم هذا تعاملوا مع الموشحات من خارج منطقها الذاتي، وأخضعوها للتدوين والتوزيع، بما يكفي لقتل أيّ روح مطربة وحرّة فيها.

أظن أن ريما خشيش تتمرّد تحديداً على التعامل الرحباني مع الموشحات، لكن من دون استسهال السّقوط في فخ تقديس القديم وتصنيمه، فتتعامل معها دون توزيع أوركسترالي، وتنفتح بدل ذلك على آفاق الجاز، أي على مساحة حريّة وارتجال شبيهة في روحيّتها بروحيّة الموشحات. يظل أن ريما خشيش لا تترك تمرّدها حتى يصبح جارفاً، بل تظل تخضعه لدقّتها الحرفية ولذاكرتها المختزنة الكثيرة، ربما بما يعوقها عن أن تصل بالموشحات إلى نبعها المتفجر كما يفعل محمد خيري مثلاً.

أما غادة شبير فهي، في تقديري، تجمع حضور الوعي والذاكرة، كما لدى خشيش، الذي يعوق إنطلاقة الطرب التي هي مخاطرة بالصوت والروح (استمع إلى ماري جبران مثلاً أو لور دكّاش)، وتضيف إليه، للأسف، تقديساً أعلى للقديم، بما يؤدي إلى انتاجها نسخاً حديثة نقيّة التسجيل من موشحات قديمة لكن دون أن تضيف إلى هذه الموشحات شيئاً سوى تقريبها من المستمع الحالي الذي ينزعج من خشخشة الأسطوانات القديمة. مؤسف ذلك، حيث أن صوت غادة شبير لناحية الخامة والطواعية شديد التميّز والجمال.

معازف: لا يبدو أن الحل، بالنسبة للموسيقى العربيّة المعاصرة، إلا بالبقاء خارج ماكنة الإنتاج. لكن هل نستطيع، كمتلقّين، تحمّل ثمن ذلك؟

فادي: لا ننس أن ماكينة الإنتاج تتعرض للتشظي الآن، وان هذه قد تكون فرصة نادرة لبناء سوق متعدّدة غير موحدة وغير خاضعة لهيمنة نمط موسيقي واحد. ينبغي أن يصبح لدينا إمكانيّة لتوفير حياة لائقة لموسيقيين مغايرين للإنتاج النجومي السائد من دون أن تلجئهم الحاجة إلى التكّسب بفنهم على أعتاب النجوم أو على أعتاب السّلطات الماليّة والسياسيّة.

معازف: في ظل ما نشهده الآن من سيرورات تحرّر يبدو أنّها ستطول، ما الذي تغيّر في إنتاج الثقافة، وخاصّة الموسيقى، بهذه الفترة، وما الذي، برأيك، سيتغيّر؟ وهل أنت متفائل؟

فادي: لم تطل سيرورات التحرّر الأخيرة بعد أسس الإنتاج الثقافي في العالم العربي، في شكل عام إن لجهة دور الهيئات الحكوميّة الرّاسخ أو لجهة سيطرة شركات كبرى في القطاع الخاص على أسواق الموسيقى والتلفزيون والسينما. لكن يمكن ملاحظة أن سيرورات التحرر هذه لم تنطلق، في الواقع، إلا بعد أن بدأت عملية تحدّي هذه الأسس، من خلال الإنترنت واليوتيوب والفيسبوك، بما تشكله هذه من مساحات للتبادل المعرفي والفنّي وللإنتاج والتلقّي الثقافي خارج قيود العلاقات الماليّة (حتى وإن تسبّبت عائلة الرحباني في إغلاق أكبر منتدى موسيقي، زرياب، بسبب أطماعها الماليّة) وخارج إطار الرقابة الرسميّة.

بهذا المعنى، لا يسعنا إلا التفاؤل باحتمالات المستقبل غير الأكيدة، بأن ينتج عن هذه المساحات الجديدة فن جديد، بدأت إرهاصاته شعراً وغناءً وتحريكاً وغرافيتي في كل شوارع المدن المنتفضة.

معازف: في حوار آخر تصف النقد الموسيقيّ بأنّه محاولة لاستقراء ما لا يمكن قوله، أو بمعنى أدق: البحث في شروط إنتاجه، في البنية التي تحكم ظهوره، وفي ما يقوله الصمت ما بين مقاطع الموسيقى أو بين رعشتي صوت“. ألا تتّفق بأن الأمر يتجاوز استقراء الموجود، وبأن النقد الموسيقيّ العربيّ، كغيره من أنواع النقد الثقافي، لم يتطوّر ليقدّم مناهج ونظريّات لدراسة حال الموسيقى اليوم؟

فادي: أعتقد أن هنالك فرقاً بين ما أسمّيه نقداً، وبين الدراسات النظريّة والمناهج المتبعة في الأكاديميّات، إن لناحية مضمون كل منهما أو لناحية الغرض منه. فالدراسات النظريّة التي تطوّر مناهج وأدوات للتحليل تستخدم التصنيف والتبويب والمقارنة والتأريخ بهدف تشريح الأعمال وتكوين خبراء في هذه المجالات قادرين على استئناف هذا العمل الضروري والهام. أما النقد فلا يفترض فيه أن ينتج خبراء، بل أن يسمح للقارئ بأن يستمتع بدرجة أعلى بالأعمال المنقودة من خلال توسيع إطار وعيه وتنبيهه على المعاني والملذّات المستترة (مرة أخرى، هنالك تذوق لا يكتمل إلا بالمعرفة). في هذا لا يعتمد النقد في رأيي على مناهج أكاديميّة ولا على لغتها، لكنه يستعير منها ومن لغات وأساليب اخرى، كل ما يلزم لإثرائه، وإن على حساب الاتّساق النّظري الأكاديمي ولغته الجافة. النقد هنا أكثر ارتباطاً بالمفهوم القديم لفكرة التأدب.

من هنا كانت الإجابة التي تشيرون إليها في حوار سابق لتقول إن النقد، على الأقل ذاك الذي أحب ان أكتبه، هو ذاك الذي يدفعني إلى البحث في شروط إنتاج العمل (تاريخيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً) ومدلولات ذلك وأثره على العمل واختزانه فيه (إذ لا تنفك الموسيقى عن شروط إنتاجها)، وفي بنيته الحاكمة، أي السياق الفنّي والمقامي أو الصوتي الذي يفرض من الداخل على العمل الظهور في شكل معين في ارتباطه بالارتجال أو التوزيع وما إلى ذلك، وأخيراً إلى التأمّل في ما يقوله الصمت ويقوله الصوت من ارتباط بالجغرافيا والعنف والحرب والحلم واستكشاف لمجاهل المشاعر الإنسانيّة التي لا يعبَّر عنها إلا بالموسيقى، ومن زلزلة لأسس علاقتنا بالمرور الرتيب والرهيب للزمن المتسارع لتحويله إلى أبديّة تتكوّر في لحظة الموسيقى بين رعشتي صوت أو نقرتي وتر.

المزيـــد علــى معـــازف