.
فجر الواحد والعشرين من شباط / فبراير سنة ١٩٣٠، عادت حبيبة مسيكة إلى بيتها في جهة لافاييت في تونس العاصمة، ٢٢ نهج ألفرد دوران كلاي، بعد ليلةٍ صاخبة عند عائلة لمبروزو؛ ورافقها عسكر الليل خاصتها إلى المنزل مجموعة من المعجبين الميسورين يرافقون حبيبة أينما حلّت ويحرسونها. تُنسج الكثير من الأساطير حول عسكر الليل وتعلقهم الأعمى بحبيبة، منها أنهم يفرشون برانسهم على الطريق لكي تمشي حبيبة عليها.. صعدت الدرجات إلى الطابق العلوي، ذاتها التي فرش إلياهو ميموني على كل واحدة منها سابقًا ورقة من ألف فرنك نيلًا لرضاها. استسلمت حبيبة لنومٍ عميق. في الأثناء تسلل إلياهو ميموني إلى الغرفة، سكب البنزين على سرير النجمة الثلاثينية، وأشعل الغرفة برمتها. كان ذلك بعد أن راجت إشاعة عن عزمها الزواج بحبيبها الفرنسي راوول مارل.
سرت النيران في كل شيء، بما فيها جسد إلياهو الذي فرّ من المنزل ورجع إلى فندقٍ نزل فيه بعد قدومه من تستور. روت خادمة النزل أنها لمحت إلياهو وهو يحاول الانتحار بعقد شراشف النوم لتصبح مشنقة. في اليوم التالي، توفيت حبيبة متأثرةً بحروقها البليغة وأقيمت لها جنازة مهيبة جمعت الآلاف من سكان العاصمة؛ مشيخة الزيتونة وميسورو الحاضرة وفقراؤها ووزراؤها وممثلو الباي والمقيم العام الفرنسي. صُوّرت الجنازة وموكبها المهيب، وعُرضت لفترةٍ طويلة في قاعة سينما تريانون وسط العاصمة لصاحبها سارج مواطي. أثناء مراسم التأبين التي جرت عند قبرها، قال البشير المتهني من فرقة المستقبل التمثيلي: “بدونها، ستتأخر الساحة الفنية التونسية لعقدين من الزمن على الأقل.”
قَولبت أغلب المراجع التاريخية حبيبة مسيكة في صورة الغانية اليهودية، وظل الحديث عنها مقترنًا بالخلاعة والتحرر، فيما غُيّبت الإشارة إلى دورها في تاريخ الأغنية التونسية. في كتابه عن خميس الترنان، ذكر صالح المهدي – أحد أشدّ المحافظين في تاريخ الرشيدية والموسيقى التونسية – حبيبة مسيكة مرةً واحدة في معرض حديثه عن تسجيل الأسطوانات، وتجنب بشكلٍ واضح الحقبة التي رافق خلالها الترنان المغنية، إما عازفًا أو مرددًا أو مرافقًا لها في برلين لتسجيل إحدى أسطواناتها؛ وكأن اقتران اسمه بحبيبة مسيكة يُفقده دوره الطليعي في تاريخ الموسيقى التونسية، إذ أنشد وراءها في أشد أغانيها “خلاعةً”، على سرير النوم دلعني أقدم أسطوانة موجودة للأغنية بتاريخ ١٩٢٦ لسمحة البغدادية..
امتد الإقصاء إلى البارون ديرلانجي، الحاكم بأمره في الموسيقى التونسية خلال تلك الفترة، فرغم معاصرتهما لنفس الفترة، لم يذكر البارون حبيبة مسيكة في كتاباته، ومثله فعل الصادق الرزقي صاحب أول كتاب عن الأغاني التونسية، الذي سلّط الضوء على الحياة الغنائية الحضرية آنذاك. انقسم المثقفون وقتها بين معجبٍ ومندد، كما طالتها القصائد اللاذعة على يد عبد الرحمان الكافي، صاحب الزبوبية، الذي شنّ عليها حربًا بلا هوادة: “تضحك عليكم فاجرة فرناقة / عملتوا ليها صيت وهي صعلوكة / عملتوا صاية / لوحدة شرموطة ما لهاش غاية.” عبد الرحمان الكافي، ملزومة جوليات، حريدة جحجوح ١٠ أفريل ١٩٢٤.
تقول الأسطورة إن محرز بن خلف، المعروف لدى سكان الحاضرة باسم سيدي محرز أو سلطان المدينة، رفع عصاه عاليًا ورماها، ليوضع مكان وقوعها حجر الأساس للحي الذي سيؤوي اليهود ويحميهم من المضايقات. وقعت عصا النذر في قلب المدينة العتيقة، وأصبح المكان يسمى حارة اليهود، أو الحارة. ولدت حبيبة في قلب الحارة من أبوين فقيرين من اليهود التوانسة، ونالت نزرًا قليلًا من التعليم وترددت على محل والدها، دايدا، الذي كان خياطًا، والذي نقر كهاوٍ على الدربوكة والبندير.
من جانب أمها، مايحة (أو سِمحة في مصادر أخرى)، حظيت حبيبة بعائلة موسيقية تمثلت في خالها خيلو الصغير، أحد أهم عازفي الكمان والمزود في بدايات القرن، وخالتها المغنية ليلى سفاز التي أدارت محل كافيشانطة (ترجمة عامية مباشرة للمصطلح الفرنسي: المقاهي الغنائية) ’ظهرت الكافيشانطات منذ أواخر القرن التاسع عشر واستمرت إلى حدود الستينيات من القرن العشرين. أخذت الكافيشانطات مكانةً واضحة في إسعاد وترفيه بعض الفئات الاجتماعية، كما ظلت لصيقة ببعض المهن الوضيعة ذات الصلة بالفسق والفجور والدعارة.’ (سمير بشة، أنطولوجيا الفنون الغنائية الركحية في تونس، صفحات ١٩١ و١٩٢). أتقنت ليلى أساليب العروض وقدمت حفلاتها بشحنةٍ من المتعة والإثارة الجسدية من خلال عملها على ركح الكافيشانطات، مثل ميخانة في سيدي مردوم، إلى جانب الكافيشانطة المشهورة في البيقة، وأخرى في البياصة في ساحة ١٨ جانفي وغيرها. صاحبت حبيبة خالتها ليلى وانفتحت على عوالم الموسيقى والرقص.
كانت ليلى نجمة الكافيشانطات، ذاع صيتها وشغلت أوساط اليهود في العصر الذي سبق ظهور حبيبة. طيلة العقود الثلاثة الأولى للقرن العشرين، احتكر اليهود صناعة الغناء. سيطر اليهود القرانة ينقسم اليهود في تونس إلى يهود توانسة ويهود قرانة. يعدّ التوانسة أصيلي البلاد، فيما سمّي الشق الآخر بالقرانة نسبةً إلى جزيرة ليفورنو الإيطالية؛ بعد أن طردوا من إسبانيا واستقروا في إيطاليا، وتحديدًا في ليفورنو، قبل الهروب إلى تونس خلال القرن السابع عشر. على شركات الفونوجراف وتسجيل الأسطوانات، واعتمدوا على مغني أقلية اليهود التوانسة الذين احتكروا حرفة الغناء في المناسبات والأفراح والكافيشانطات. طوال تلك الفترة، والتي تزامنت مع أطوار الحرب العالمية الأولى ونهايتها والنصف الأول لِفترة ما بين الحربين المليئة بالتقلبات، تعثّرت ولادة الأغنية التونسية.
لم يكن هنالك رصيد فردي للمغني. مثّل التراث الغنائي والشعري الشعبي الرصيد الأساسي للغناء الذي اقتصر على حلقات المالوف والجلسات الصوفية أو حفلات العامة والمناسبات وبعض المقاهي ومحلات الطرب. تغير شكل الغناء تدريجيًا، وانتقل من طوره الجماعي وفق نظام الحلقة والترديد الجماعي مع المنشد عبر حلقات الذكر وأغاني المجموعات الصوفية مثل العيساوية والشاذلية والرحمانية وغيرها من الطرق الصوفية، وفرق الربايبية التي تغني في الأفراح والمناسبات العائلية، وجلسات المالوف التي كانت تقام في المقاهي ومنازل الأعيان، الجوقات النحاسية، وفرق العميان التي كانت تؤثث سهرات الغناء في المجالس النسائية.، إلى شكلٍ فرداني شهد خروج العديد من الأصوات من الحيّز الضيق الذي احتضن ممارستهم الغنائية والأدائية نحو مجتمع الفرجة.
في أوساط اليهود، اشتهرت أسماء عديدة مثل شميمن كوهين وبريطو كوهين ولالو شكلي ومويشي صرصر لحذقهم المالوف وأغاني الزندالي، واكتفت ليلى سفاز ونسرية فريز وفريتنة درمونة وبنات شمامة بترديد الأغاني الجنسيّة، الفجّة والموارِبة، وبعض المرددات المتوارثة والرائجة التي انتشرت وقتها، مثل إيزا لكة شمس عليك، البنات في البازارات والحب في الزناقي، شفايف المرجان محمد بورقعة، مجلة الثريا، العدد الخاص بوفاة عبد الرزاق كرباكة، ١٩٤٥.. كما كان للرقص علاماته مع عائشة بنت شك العصبان وحبيبة بروطة وحبيبة ريّاقة البدن وصالحة نصف الدنيا المختار المستيسر، نشأة الرشيدية، صفحتي ٥١ و٥٢.. تزامن ذلك أيضًا مع مظاهر حداثة جديدة وافدة على المجتمع الحضري التونسي مع انتشار ثقافة الذهاب إلى المقاهي والمسارح والسينما، بعد أن تحررت عروض الفرجة من حواضنها التقليدية في مزارات الأولياء والساحات العامة والأحياء الشعبية.
استمرت حبيبة مع خالتها، وشغلت روّاد محل الغناء بجمالها وغنجها. سبّب لقاؤها المبكّر بـ عاشير مزراحي سنة ١٩١٧ نقلةً مهمة في حياتها، وتعلمت على يده العود وأصول الغناء. بدأت الفتاة اليافعة بأداء الأغاني “الخادشة للحياء” والحضرية المنتشرة في أوساط اليهود، واستقطبت روادًا كثرًا للمحل طمعوا في رقصاتها المثيرة وجمالها الفاتن. مثّلت الكافيشانطة فرصةً لليهودية اليافعة لتلتقي بِمحمود بورقيبة الذي فتح لها أبواب المسرح بدءًا من فرقة الشهامة الأدبية أول فرقة مسرحية تونسية، تأسست سنة ١٩١٠ وانحلّت سنة ١٩٢٢.. شهدت تلك الفترة ازدهار المسرح في تونس. تقلّبت حبيبة بين تشكيلات عدة كالهلال والتمثيل العربي والمستقبل التمثيلي، واستفادت كثيرًا من قدوم المصري حسن بنان الذي أدخل تقاليدًا غنائية إلى المسرحيات مع فرقة الشهامة، وكان أحد أساتذتها في الغناء، ودرّبها على أداء الطقاطيق والأدوار المصرية.
علّم محمود بورقية حبيبة اللغة الفصيحة أيضًا، ودرّبها حتى تتجاوز قصور النطق الفصيح لدى يهود الحاضرة الذين يتكلمون خليطًا هجينًا بين العامية التونسية والعبرية، وتتمكن من خصوصيات الأداء الفصيح لِأداء أدوار الطرب. بما أن حبيبة كانت جاهلة بِالعربية، حرص بورقيبة لدى ترجمته نصوص الأغاني على الكتابة بالحروف اللاتينية حتى تتمكن من أدائها. لا يحسن يهود تونس النطق بكامل الأحرف العربية، إذ كانت “لهم لهجة مخصوصة يقلبون فيها السين شينًا والهاء ألفًا والألف هاءً وغير ذلك، ويغمغمون الكلام، ويقطفون منها أحرفًا حتى لا تكاد تُفهم.” الصادق الرزقي، الأغاني التونسية، صفحة ٧٢.. حوّلت حبيبة تلك النواقص إلى ثيمةٍ جمالية أضافت غنجًا على أدائها، ميّز أداءها اللعوب وصناعتها للفرجة والإثارة على الركح.
سنة ١٩١٨، هجرت حبيبة الكافيشانطة. تزامن ذلك مع طلاقها من زوجها الأول فيكتور شطبون الذي كان قد التحق بالجيش الفرنسي. صارت حبيبة في حلٍّ من كل ارتباط وانطلقت نحو حياة زخمة وجامحة، فتحت لها الباب لتدشين أول مسيرةٍ احترافية منفردة من خلال غناء مصحوب بالرقص، مثّل ثورةً غير مسبوقة في مشهد الموسيقى آنذاك، وأشارت إليه الصحف في ذلك الوقت بِـ:”ثورة حبيبة مسيكة” صوفي بسيس، Les Valeureuses، صفحتي ١٩٢ و١٩٣..
انطلقت حبيبة من حفلات الأعراس والختان إلى كازينوهات حلق الواد وقاعات المرسى. شهدت تونس وقتها توسعًا متناميًا للأحياء الأوروبية وانتشارًا لقاعات العروض بمختلف أصنافها منذ نهاية القرن التاسع عشر، ما ولّد حياة فنية مزدهرة ومتنوعة في العاصمة. كما لعبت دُور العرض والمسارح الفرنسية والإيطالية دورًا في استقدام موسيقات وتقاليد جديدة، ففي حين أسرع السكان الأوروبيون نحو المسارح والعروض الموسيقية، اكتفى الأهالي، الذين انزووا داخل المدينة العربية، ببعض الأنشطة الظرفية المرتبطة بمناسبات مخصوصة تتمثل في تظاهرات جماعية ذات طابع عائلي أو اجتماعي أو في احتفالات دينية Mohamed Gerfi: Musique et spectacle, le theatre lyrique arabe: esquisse d’un itinéraire (1847 – 1975)..
غنّت حبيبة في بيوت المسلمين واليهود وحفلات الختان والأعراس والجلسات الضيقة، كما أدّت في المسارح والكباريهات ودور العرض العصرية وقتها، وأحيت سهرات السكان الأوروبيين. لم يسبِق لغيرها أن جمع بين مشهدين متناقضين؛ بين اهتمام العامة من اليهود والمسلمين، والميسورين من الأوروبيين والأعيان. كسرت حبيبة شكلًا طبقيًا للموسيقى والغناء، ارتبط بموجبه صيت المغني بطبقةٍ معينة دون غيرها.
انتبهت حبيبة إلى أن أداءها للأغاني الجنسية التي ارتبطت باليهود وقتها، ليس كافيًا لكسب جمهور أكبر، فأدت الطقاطيق والموشحات والأدوار المصرية، وساهمت في دفع موجة التمصير التي انتشرت على نحوٍ غير مسبوق مع ازدهار الفونوجراف والأسطوانات منذ سنة ١٩٠٨، مع غزو الأغاني الشرقية وأدوار المشايخ على حساب الغناء التقليدي.
خلال تلك الفترة، شهدت تونس قدوم الفنانين اليهود الليبيين الذين هربوا من بطش الاستعمار الإيطالي في ليبيا منذ سنة ١٩١١، واتجهوا إلى تونس محملين بإرثهم الغنائي وأساليبهم الفريدة. كان منهم ريدو عازف العود والمغني موني الجبالي وبرامينو ورحمين برداعي اللذَين استقدما تقاليد العزف الشرقي على الكمان إلى جانب إتقان العود. تعرفت حبيبة مسيكة على برامينو برداعي عبر خالتها ليلى سفاز، قادمًا ضمن قوافل المهجرين من طرابلس وحاملًا معه إرثًا غنائيا ضاربًا في القدم، سيكون له التأثير الأكبر على أداء حبيبة بجانب عاشير مرزاحي الذي ساهم بدوره في نشر ثقافة اليهود الليبيين الغنائية.
ألهم اليهود الليبيون الفنانين المحليين لتلحين أغانيهم على الطريقة الطرابلسية المرزوكية، نسبةً إلى مدينة مرزك التي تقع في فزان في ليبيا، ومنهم جاستون بسيري الذي وضع لحن أغنية الكيف كيفي وطاستي قدامي لحبيبة، كما جلبوا معهم الأغاني الطرابلسية ذات المقامات والخصوصيات الطرابلسية التي اعتمدتها حبيبة في تسجيلاتها مثل الفريسة ذابت والربيع منوّر. اعتمدت حبيبة على إدماج النون في بعض الكلمات وبدء الغناء من النصف الثاني من الصدر وفق الأسلوب الطرابلسي، وهو من خصوصيات الغناء البدوي المشترك بين القبائل التونسية والطرابلسية المتقاربة في الموقع الجغرافي، ويقوّي نبرة الإيقاع في الكلمات الرخوة ذات الإشباع، علاوة على إدماج آهات لاستكمال الإيقاع. حافظت حبيبة على اللكنة اليهودية اللعوبة في أدائها. محمد القرفي، نظرات في الموسيقى والغناء والفرجة، صفحة ٢١١.
عانت أصوات اليهود المتنوعة ذات الرصيد الأدائي الثري، التي ازدهرت على نحوٍ غير مسبوق منذ بداية القرن وتصدّرتها حبيبة مسيكة، من غياب التعاونات مع شعراء وملحنين. فقط مع بداية الثلاثينيات بدأنا نشهد العلاقة الثلاثية بين المغني والشاعر والملحن في مشهد الموسيقى التونسية مصطفى شلبي، الموسيقى في تونس، صفحة ٤٦.، لكن حبيبة استبقتها بعلاقتها مع الملحن المصري حسن بنان والشاعر عبد الرزاق كرباكة. صقل ذلك اللقاء المتأخر بين كرباكة وحسن بنان وحبيبة مسيكة الشكل الجنيني الأول لمشهد الأغنية التونسية.
مع جمعها بين إتقان أدوار المشايخ المصرية والرصيد الغنائي الحضري القديم والأسلوب الطرابلسي، وبمعية مرافقيها، رسمت حبيبة شكل الأغنية الثلاثينية التي عرفت “عدة تأثيرات أجنبية أهمها الشرقية ثم الطرابلسية وغيرها. فالشرقية نرى أهمها المصرية، تليها الشامية فالطرابلسية وخاصة المرزوكية منها، ثم أخيرًا الأوروبية التي تبينت لنا من خلال أغاني الفرانكو آراب.” يسرى الذهبي، إشكالية الأصالة والحداثة في الأغنية التونسية فترة ما بين الحربين، مجلة الحياة الثقافية، صفحة ١١٦.،اكتمل تطور الأغنية الثلاثينية مع ظهور ملحنين وشعراء طليعيين من حركة تحت السور فيما بعد.
في غياب الأدلة التاريخية، يحوم الغموض حول اقتصار حبيبة على الاستعادات دون أن يكون لها نصوص خاصة. نكاد لا نعثر على أسماء الشعراء في رصيد حبيبة المحفوظ في المكتبة السمعية لمركز الموسيقى العربي والمتوسطية، النجمة الزهراء، الذي كان قديمًا قصر البارون ديرلانجي. على الأغلب، يعود الأمر إلى التستر على الشاعر مخافة أن يقترن اسمه بحبيبة مسيكة الموصومة بالخلاعة، حسب تصريح منير الهنتاتي الذي أشرف على جمع وتنظيم الأرشيف في المركز. إلى جانب كرباكة ومحمود بورقيبة الذي كتب الشعر الغنائي أيضًا، أحاطت حبيبة نفسها بشعراء ذاع صيتهم وقتها مثل الشاذلي خزندار ومحمد سعيد الخلصي، ما يجعلنا نستبعد عدم اقتراح هؤلاء نصوصهم على حبيبة.
إضافةً إلى كرباكة ومحمود بورقيبة وحسن بنان، استقطبت حبيبة اسمًا مغمورًا قادمًا من شمال البلاد ومحملًا بإرث الغناء الأندلسي؛ خميس الترنان. انضم خميس إلى فرقة مسيكة وتحول من عازفٍ ومنشد وراءها إلى أهم ملحنٍ في تاريخ الموسيقى التونسية فيما بعد. مثّل استقدام حبيبة مسيكة لخميس الترنان ثورةً غير معلنة وقتها، بان قطافها بدايةً من الثلاثينيات بعد موتها المفاجئ. تحول الفتى من محلات الغناء ودكاكين المالوف في تونس العاصمة، إلى مصاحبة حبيبة مسيكة لتسجيل أسطوانة في برلين وجولة عروض في فرنسا وإيطاليا، وذاع صيته كأحد المبشّرين بخلافة الشيخ أحمد الوافي، الذي يعتبره كثيرون الجدّ الأول للأغنية التونسية الحديثة. ساهم إتقان الترنان للمالوف والخصوصيات الطرابلسية واحتكاكه بأوساط اليهود في صقل غناء حبيبة مسيكة، ودفع بالموسيقى المصاحبة لها نحو الحرفية والإتقان.
دشّنت تجربة حبيبة مسيكة الجدلية المعاصرة مغني / شاعر / ملحن، ومهدت لظهور الثنائي صليحة / الترنان اللذان استكملا بناء ملامح الأغنية التونسية المعاصرة، مع دورٍ رئيسي للرشيدية، وأسّسا مشروع الهوية التونسية، أو كما سماه مصطفى شلبي “القومية الموسيقية التونسية” مصطفى شلبي، المصدر السابق، صفحة ٤٦. الذي تدعّم فيما بعد مع محمد التريكي وصالح المهدي وأسماءٍ بارزة في الغناء مثل الهادي الجويني وعلي الرياحي.
استمرت حبيبة في ثوراتها الصغيرة التي امتدت إلى شكل الأداء. فرضت على فرقتها اللباس الإفرنجي في الحفلات المشرقية واللباس التقليدي المحلي في الحفلات التونسية، وجمعت من حولها عسكر الليل خاصتها كأول نادي معجبين مرافق في تاريخ الموسيقى التونسية، كما أدخلت آلات غربية ومشرقية جديدة على التخت التونسي التقليدي وقتها. تخلت حبيبة عن عازفي الرباب والعود العربي والطار في التخت التونسي التقليدي، وعوّضتهم بناقر الدربوكة وعازف العود الشرقي والكمان، فيما حافظت على الأورغن. المختار المستيسر، نشأة الرشيدية، صفحة ٥٣.
ساهم الاستعمار الفرنسي في نشر قيم الفردانية التي تجلّت بشكل واضح في مشهد الغناء والموسيقى مصطفى شلبي، الموسيقى في تونس، صفحة ١٣.. يرتكز مصطفى شلبي على هذه النقطة في تفسير العدد الكبير للفنانين اليهود بداية القرن العشرين، إذ بادر يهود الحاضرة بالاستجابة لعطش الفردانية، مدفوعين بتقاليدهم الاحتفالية وولعهم بالغناء والسمر، وصنعوا أولى نجوم الغناء. على امتداد ثلاثة أجيال، رسّخ يهود الحاضرة جوًا ثقافيًا واجتماعيًا أعاد خلق أندلسٍ جديدة في الحاضرة مصطفى شلبي، المصدر السابق، صفحة ٤٠.، تصدّرتها حبيبة مسيكة التي مثّلت الشكل الأكمل للديفا الموعودة، متفوقةً على خالتها ليلى سفاز وفريتنة درمونة وبنات شمامة اللواتي سطعن مطلع عشرينيات القرن العشرين.
شقّت حبيبة مسيكة طريقها لتتسيّد مركز اهتمام تلك الحقبة برمتها، وحازت جمهورًا من اليهود والمسلمين والأوروبيين وأصبحت تُلقّب بـ حبيبة الكل. ربطت الباحثة سلوى بن حفيظ شهرة حبيبة مسيكة في العشرينيات بظهورها “في فراغٍ غابت فيه الوجوه النسائية وكانت المرأة التونسية لا تخرج سافرة؛ كما شكّل اقتران الضغوط الاجتماعية والضغوط الاستعمارية مجالًا سانحًا للفنانين اليهود الذين اغتنموا نقطة ضعف الرجل التونسي التقليدي، واستغلت حبيبة مسيكة هذا الفراغ العاطفي الذي أفرزه كبت التقاليد.” سلوى بن حفيظ، جريدة الصحافة، ٢٤ فيفري ١٩٩٥..
كنجمةٍ اكتسحت مشهدي الغناء والمسرح وحتى الحياة العامة، جمعت حبيبة من حولها خيرة العازفين، من خيلو الصغير إلى خميس الترنان، كما واكبت أحدث صيحات الموضة وقتها ووصل صيتها إلى كوكو شانيل التي قالت عنها: “صنعت حبيبة باريس جديدة في قلب شمال إفريقيا.”
رغم كل الإجحافات التي طالتها، شغلت حبيبة الناس وقتها وتهافت من حولها المعجبون، من الأمير فؤاد إلى الحبيب بورقيبة، الذي حكم تونس بعد الاستعمار، مرورًا بـ بابلو بيكاسو. حظيت حبيبة بمباركة محمد القبانجي، سيد المقام العراقي، الذي أدى معها أصلي وأصلك بغدادي، ونالت إعجاب إسكندر شلفون الذي اعتبرها “المفتتنة الوحيدة في شمال إفريقيا”، كما نسب إليها الباحث مصطفى شلبي المصدر السابق، صفحة ٣١. دورًا محوريًا في تاريخ الغناء في تونس، وسيّدها مرحلة الصحوة الموسيقية بجانب الشيخ أحمد الوافي. يقسّم مصطفى شلبي الحراك الموسيقي خلال القرن العشرين إلى أربعة مراحل؛ تتمثل الأولى في الصحوة الموسيقية مع أحمد الوافي وحبيبة مسيكة، ثم جماعة تحت السور الذين وضعوا ملامح الهوية الثقافية التونسية، وصولًا إلى مرحلة التّمصر التي شهدت تقليدًا شبه أعمى للموسيقى المصرية وكانت رائدتها فرقة المنار التي ساهمت في بروز أسماء مثل علية ونعمة ورضا القلعي، واختتمت في الثمانينيات مع مرحلة نجوم الغد، التي تزامنت مع شعبية التلفزيون الذي قضى على الأسطوانات. شهدت تلك المرحلة تفريخ أسماء متعددة في التلحين والشعر والغناء كانت قاطرتها برنامج نجوم الغد، وظهرت أسماء متنوعة مثل الجليدي العويني وعدنان الشواشي وصلاح مصباح وذكرى محمد.
بقدر ما سلّط موت حبيبة مسيكة لعنةً على المغنيات من اليهود، إذ كبح جماحهن وتحولت مهنة الغناء إلى خطرٍ مشوب ينذر بمصير مماثل، إلا أنه ألهم المسلمات لدخول مجال الغناء، مثل شافية رشدي وحسيبة رشدي وفتحية خيري. مهّدت حبيبة لظهور هذا الجيل الجديد من المغنيات اللواتي استفدن من إرث حبيبة مسيكة في بناء مشهد الأغنية، وتزامن ظهورهن مع بروز حركة الشعر الغنائي في تونس مع جماعة تحت السور، واكتملت بظهور الرشيدية التي ناصبت العداء لإرث غناء اليهود الخليع.
سعت الرشيدية إلى بناء أغنية تونسية أساسها المالوف وتخلت عن رصيد كبير من الأغاني الشعبية بتهمة الخلاعة، رغم أن تصوّرها لشكل الأغنية التونسية انبثق من تجارب اليهود الغنائية وتقاليدهم، بالإضافة إلى الدور الذي لعبته حبيبة مسيكة، المقصيّة من تاريخ الرشيدية وسرديات الأغنية التونسية، والحاضرة بقوة في خيال الإيروتيكا الشعبية. لطالما نتذكّر حبيبة غالبًا بحادثة موتها التراجيدية، أو من خلال غنجها وصدى أدوارها الرجالية وتقبيلها للممثلة الليبية رشيدة لطفي في إحدى مسرحياتها سنة ١٩٢٥ في البالماريوم.
طغى صخب حياة حبيبة مسيكة على أثرها الفني، وعجّل موتها الميلودرامي بإنهاء مشروع وليدٍ في تاريخ الأغنية التونسية، ما نزع عنها كل اعترافٍ رسمي بدورها في التمهيد لثورة الثلاثينيات الموسيقية. لم تكن حبيبة صاحبة الصوت القوي مثل صليحة، لكنها وضعت حجر الأساس لنجوم الغناء ولشكل الغناء التونسي الذي اعتمدته الرشيدية فيما بعد، من خلال ترسيخ الملامح الطرابلسية للغناء التونسي وتونستها، وكانت المثال الأكثر اكتمالًا للغناء الحضري. رثى الجميع حبيبة مسيكة، لكن ظلّت أغنية فليفلة الشامية وصوتها المتفجّع الذي حاكت فيه خصائص أداء حبيبة، أكثرها تأثيرًا؛ حيث استعادت خلال الأغنية أحداث حرق حبيبة في فراشها على لسانها: “يا ناس اسمعوا هالغريبة / على قصتي قادش عجيبة / اللي جرتلي أنا حبيبة، دا شي يبكّي الحجر.”