ما فقدناه برحيل جمالات شيحة

كتابةمعازف - May 3, 2018

وسط موسيقى شفهية تعتمد على التلقي بالحفظ حتى التشبع قبل الإبداع، مثل كلمة إلهية تلقى داخل روح بعد تطهرها بالسلطنة، تطرح كل وفاة لأحد حفظتها سؤالًا حول كم فقدنا من روح الموسيقى ذاتها. كم لحن لم يصلنا مات معه، وكم مسار نغمي لم ندونه نُسي بوفاته قبل أن نتلقاه، وكم حكاية كاشفة لعصر لم نعشه.

ماتت اليوم واحدة من الحفظة الكرام حراس لوح الموسيقى المحفوظ، جمالات شيحة بنت قرية كوم حلين في محافظة الشرقية، إحدى الباقيات الراسخات الحافظات لتراث الموال البلدي الريفي، ومات معها لمحات زمن كامل لم يُدون منه سوى القليل بمجهودات فردية أبرزها مجهود الرائد زكريا الحجاوي.

حفظت جمالات الموال البلدي الريفي في صيغته الأصيلة، بعبلها وطينة أرضها، وهو موال مختلف عن موال الوصلة النهضوية وموال المدينة الشعبي كما يغنى في أحياء القاهرة، وتأخر تسجيله في عصر الأسطوانة فلا نعثر سوى على تسجيلات نادرة منه لزينب المنصورية ومحمد العربي ومحمد الصغير.

عاصرت جمالات زهو الموالد كما شهدت انحسارها اللاحق، كان المولد “التلفزيون والإعلام كله” كما ذكر عبده داغر في مقابلته معنا، تركت الشرقية لتسكن في حي إمبابة، ثم اكتشفها جيلنا في نهاية حياتها عبر تعاونها مع فتحي سلامة وحفلاتها في مركز مكان.
جيلنا محظوظ ومنحوس، لحق بآخر قطرات الرحيق الباقي الممثل في جمالات شيحة وفنها وسجل منه شيئًا ثم شهد وفاتها قبل أن يرتوي منها ومن زمنها. نفكر الآن في فقدنا ونشعر أن أسماءنا نفسها محي منها حروف، كل فقد لحافظة مثل جمالات شيحة فقد لشذرة من روح الموسيقى الأبدي، كل خسارة “ستعني قدرةً أقل على قول الحياة وعيش اختباراتها، مثلها مثل خسارة كلمة “أحبك” أو كلمة “الله.“