.
هل توجد لدينا موسيقى كلاسيكية عربية؟ وبأي معنى؟ جرى العرف بين الباحثين أن الموسيقى الكلاسيكية العربية هي الأعمال ذات الصيغ المعروفة في الكلاسيكية الغربية؛ كالكونشرتو والسيمفونية، وأعمال موسيقى الحجرة المختلفة، والأوبرا. قدم مؤلفو تلك الأشكال من العرب أعمالًا غزيرة، بعضها وصل إلى العالمية، وبعضها وصل إلى درجة عالية من الإتقان؛ كأعمال عزيز الشوان وكامل الرمالي وأبي بكر خيرت، وعطية شرارة وحسن شرارة وعبد الحليم نويرة، ورفعت جرانة وحسن رشيد ويوسف جريس، وغيرهم. كما يستعمِل الوسطُ الموسيقي العربي أحيانًا تعبير الموسيقى العربية الجادَّة، أو المتطورة، أو ذات الصيَغ، للإشارة إلى موسيقى هؤلاء المؤلفين. يحمل التعبير الأول (الجادة) بعدًا قيميًا، والثاني (المتطورة) غامض، لا يفي بحقبة زمنية، ولا أسلوبية محددة، والثالث (ذات الصيَغ) جامع غير مانع؛ فللموسيقى العربية التقليدية كذلك صيغ معروفة: كالموشح والطقطوقة والموّال والدور، والمونولوج والديالوج والترايالوج، وغيرها. نقترح أن ندعو تلك الصيغ الأخيرة باسم الموسيقى العربية التقليدية تمييزًا لها عن الكلاسيكية، وذلك لما يلي.
الصيغ العربية سابقة الذكر صيغ محددة، لكن الذي يفرقها عن الكلاسيكية أن جوهر الكلاسيكية، غربية كانت أو عربية، هو الاشتقاق اللحني، وليس الصيغة. الحركة الرابعة مثلًا من تاسعة بيتهوفن (الكورالية، مصنف ١٢٥، مقام ري الصغير) متحررة من الصيغة، وكذلك الحركة الرابعة من ثالثته (إيرويكا، مصنف ٥٥، مقام مي بيمول الكبير)، وعلى ذلك حركات وأعمال كثيرة فيما يسمى بـ الموسيقى الكلاسيكية الغربية بلا جدال. يعني الاشتقاق أن يتم بناء الحركة من العمل على أساس وحدات أولية محدودة وبسيطة، تتطور وتتراكب وتنمو إلى أن تصير بناءً كاملًا، وذلك دون إضافات لحنية جديدة منبتّة الصلة، أو ضعيفتها، بالمكونات الأوّلية. باختصار: الموسيقى الكلاسيكية رأسية بشكل أساسي؛ تَبنِي طوابقَها على أساس واحد في البداية، ولا تضيف إليه جديدًا جوهريًا أجنبيًا، أما الموسيقى العربية التقليدية فهي أفقية غالبًا، تعتمد على تجاوُر الألحان في عقد معين منظوم، كالقصيدة العمودية القديمة (البيت وحدة القصيدة)، وهنا يقع التجاوُر اللحني، نقيض الاشتقاق اللحني. انظر: نصار، زين: الصيغ الغنائية في الموسيقي العربية، مجلة الفنون، عدد ٦٤، ١٩٩٧.
إلى مدًى أبعَد، ولتحقيق قدر أكبر من توحيد المصطلح بين الموسيقى وبين الشعر العربي، يمكن القول أن أساس البناء في الموسيقى العربية هو النَّظْم، بالمعنى نفسه الذي لنظرية النظْم في البلاغة، وأن جوهر البناء في الكلاسيكية هو التأليف؛ وهو انعكاس ربما لعقلية ساميّة، تجاوُرية نظمية، وعقلية آرية، تعاقُبية، تأليفية؛ وهو وصف بِنية لا حُكم قيمة. بقيَ أن نشير إلى أن تعبير الموسيقى التقليدية العربية، الذي نقترحه لتصنيف أعمال سيد درويش والسنباطي والقصبجي، وسواهم ممن قدموا التلحين على التأليف، يتجنّب البُعْد القيمي في تعبير كلاسيكية؛ فحين نقول (من اللاتينية): نصّ كلاسيكي locus classicus، نعني النصَّ، الذي تحول من عمل فني إلى مذهب فني، أو قاعدة يقاس عليها (كالمتنبي مثلًا بالنسبة للأدب العربي، أو شكسبير في الإنجليزية، أو جوته في الألمانية،.. إلخ)، بالتالي نتجنب خطر سيادة أعمال فنية معينة، وتحولها إلى أصنام فنية، على التناقض الأصلي بين الإبداع وبين التصنيم. هذا هو السبب في قدر كبير من احتقار بعض النقاد، والمتلقينَ، للموسيقى الشابة بأنواعها، وإعراضهم عن محاولات التجريب. تبقى لفظة كلاسيكية متعلقةً فقط بطريقة بناء معينة للعمل الموسيقيّ؛ وقد تعرضنا في مقالة حروب الخنادق الموسيقية على معازف للانقسام الحادث الممتد منذ الثلاثينيات إلى اليوم بين العرب حول مدى أصالة التأليف الكلاسيكي العربي.
قلنا في المقالة سابقة الذكر مباشرةً أنّ الحل ليس باتخاذ جانب في حروب الخنادق؛ فمن طبيعة تلك الحروب أن تستمر حربًا استنزافية دون نتيجة لمدة طويلة. يبدأ الحل في مثل تلك الحالات بتفكيك الخنادق نفسها، ونقد المعسكرين معًا. من هنا نقطة البداية الحقيقية للطرح الحالي. يحتاج تعريف الموسيقى الكلاسيكية العربية نفسه إلى إعادة إركاز على قواعد أصلب وأعمق. ما هو كلاسيكي كما سلف تقديمه هو سمة التعاقب اللحني، التي عبرنا عنها بالاشتقاق، وذلك مقارنةً مع طبيعة التجاور اللحني في الموسيقى العربية التقليدية. قد يرى القارئ أن هذا التعريف يسمح بإدخال أية مقطوعة اشتقاقية، أي تتميّز باشتقاق لحني واضح، في الموسيقى الكلاسيكية العربية، حتى لو لم تتخذ لنفسها شكل الصيغة التقليدية في الكلاسيكية الغربية، كالكونشرتو، والسيمفونية، إلخ. هذا صحيح، بل هو المقصود.
https://youtu.be/GgMTTi0SXaQ
الصيغة عنصر أساسي في تعريف الكلاسيكية، لكنها تالية في الأولوية بالتأكيد على أهمية الاشتقاق؛ إذ كما ذكرنا هناك أعمال شهيرة، ومستقر عليها في الموسيقى الكلاسيكية الغربية ولأكبر المؤلفين، لا تُصنّف تحت صيغة معينة، لكنها تحمل داخلها هيكل الاشتقاق صلبًا وجَلِيًّا. من هنا لم تجرِ أصلًا محاولة إخراجها من الموسيقى الكلاسيكية.
تتعلق النقطة الثانية في هذا التمهيد بالتلقي. هنا نتطرق إلى القسم الثاني من تركيب كلاسيكية عربية، وهو لفظة عربية. بأي معنى، وإلى أي حد، يمكن اعتبار الموسيقى الاشتقاقية التي ينتجها العرب عربية، حتى إن وافقنا على اعتبارها كلاسيكية؟ ما العربي في الموسيقى العربية؟ ولهذا السؤال رنين سؤال آخر في مجال مختلف، ومتقاطع، هو الفلسفة، وذلك حين نسأل: هل هناك فلسفة عربية؟ والإجابة: لا، ونعم.
لو كان السؤال بصدد عمل شارح، يقدم فكر فيلسوف غربي كأرسطو أو هيجل، من الفارابي أو حتى إمام عبد الفتاح، فنحن لسنا إزاء فلسفة عربية؛ لأنها تفتقر إلى عملية التفلسف الأصيل، النابع من أزمات المجتمع العربي وخصائصه الثقافية. أما إذا كان السؤال حول أعمال مفكرين، نحتوا في التراث، وفي الواقع، وأنتجوا كتابة أصيلة، لا هي تراثية، ولا غربية، لا هي تابعة في الزمان للتراث ولا للمكان في الغرب، فقد نجحوا فعلًا في إنتاج فلسفة عربية بالمعنى السابق أعلاه.
النتيجة حين نطبق ذلك على الموسيقى هي أنها كي تكون عربية يجب أن ينتجها العرب، وأن تخرج منهم وأن تعبر عن واقعهم وأعماقهم، في حزمة من الأعمال لمؤلِّفٍ واحدٍ، أو لعدد من المؤلِّفينَ. لكن الفن يختلف عن الفلسفة في العلاقة مع المتلقي؛ فبينما تقدم الفلسفة خطابًا علميًا يتغيّا الموضوعية، ويتعرّض للتحكيم العلمي، والنقد العلمي، فإن الفن يعتمد بدرجة أكبر بكثير على المتلقي. يمكن القول إن الفن كي يكون فعلًا ابن بيئته، يجب عليه أن يخاطِب أبناء هذه البيئة. لهذا الخطاب عنصر أساسي في الفن، لكنه ليس أساسيًا في الفلسفة، بل قد يعَدّ عيبًا فيها؛ حيث يفقدنا التركيز على المتلقي موضوعيتنا في الأحكام. ليس من الضروري، كي تستمتع مثلًا بفيلم أميركي يصف بطولات الأمريكيين في حرب فيتنام، أن تكون مؤيدًا لموقف الولايات المتحدة. مدى احتفاء الجمهور بالعمل الفني جانب أساسي من جوانب حكمنا النقدي عليه، خاصةً حين تتسع المسافة الزمنية بيننا وبين ذلك العمل، ويمكن لنا الحكم عندئذٍ على مدى شعبيته. ليس هذا إعلانًا لموقف نقدي معين بقدر ما هو جزء من تعريفنا لعروبة الموسيقى. هل يمكن لنا الحكم على موسيقى مؤلفٍ ما كونها عربيةً، برغم أن أحدًا لا يكاد يعرفها بين العرب؟
بناءً على ذلك، هل احتفى الجمهور بأعمال عزيز الشوان وكامل الرمالي وأبي بكر خيرت، وعطية شرارة وحسن شرارة وعبد الحليم نويرة … إلخ؟ ينفي الواقع العملي ذلك. قارن بين شهرة أعمال أبي بكر خيرت، وبين شهرة موسيقى عمر خيرت ليتضح الفارق الكمي، الذي يقوم على أساس كيفي. هذا الأساس الكيفي هو نواة هذه المقالة.
لو وجدنا عند عمر خيرت هيكلًا اشتقاقيًا – حتى لو كان خارج أية صيغة الكلاسيكية – يحقق الحجم الحرِج للانتشار، والخطاب، وينبع من بيئته المحلية، فقد أنتجَ فعلًا موسيقى عربية كلاسيكية بالمعنى المرسوم أعلاه لكل من الكلاسيكية، والعربية. هكذا يتكوّنُ منظورُ معالجة نموذجَي هذه المقالة: عمر خيرت، وعمّار الشريعي.
يمكن القول إن عمر خيرت في ذاته ظاهرة، ظاهرة تستحق التوقف عندها مليًّا من زاوية هذه المقالة، ومن زوايا أخريات كذلك. لقد حققت موسيقى عمر خيرت انتشارًا غير مسبوق ربما في تاريخ الموسيقى العربية الحديثة، إذا تناولناها من جهة الموسيقى الخالصة. المستمع العربي ليس معتادًا على الجلوس، والاستماع لمدة طويلة إلى موسيقى الآلات، والتفاعل الشعوري معها، دون صوت بشري ودون كلمات. مع ذلك حققت حفلات عمر خيرت شعبية عالية ملحوظة، وجديرة بالدراسة من حيث مداها، وتوزيعها النوعي، وأسبابها؛ ولأن الدرس الحالي ليس إحصائيًا-اجتماعيًا، فإننا نركز هنا على الجانب الثالث: الأسباب.
لم تكن جل أعمال خيرت في الأصل موسيقى خالصة، بل كانت موسيقى تصويرية لمسلسلات وأفلام عربية، وألحانًا لأغانٍ. لكنها حين تُعرض على الجمهور في حفلات دار الأوبرا المصرية وساقية الصاوي وغيرها، فإن المستمع لا يكاد يذكر، وربما لا يعرف، العمل التصويري أو الأغنية التي وُضعت لها هذه الموسيقى. في هذه الحالة يستمع الحضور إلى موسيقى خالصة من حيث التعريف، وإن لم تكن كذلك من حيث التكوين. أمرٌ يفرقه عن موسيقى الشريعي، التي تتميز بارتباطها القوي بأعمالها التصويرية كمسلسلَي رأفت الهجان ودموع في عيون وقحة. هذا أساس نقطة البداية الفعلية: التعامل مع منتج خيرت كموسيقى خالصة.
الملحوظ أن بعض نقاد الموسيقى العربية ينفون وجود موسيقى خالصة عند العرب، ففاجأهم هذا الانتشار غير العادي لموسيقى خيرت، ونجاحها. مثلًا: فؤاد زكريا: التعبير الموسيقي، مكتبة مصر، القاهرة، ٢٠٠٩، ص ٦٦. انظر كذلك: آيات ريان: فلسفة الموسيقَى وعلاقتها بالفنون الجميلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط١، ٢٠١٠، ص ٢٠. ما السبب إذًا الذي أدى إلى انتشارها، وكسرها لتلك “القاعدة”؟ المثير أن عمّ عمر خيرت: أبا بكر خيرت، هو الذي أسس الكونسرفتوار، بمعاونة ثروت عكاشة، وكان عمر خيرت من الدفعة الأولى في الكونسرفتوار لعام ١٩٥٩ مع رمزي يسَّى – تلميذ الدكتورة الراحلة بثينة فريد – ومصطفى ناجي، وغيرهم، فلم تشتهر موسيقى العمّ بقدر اشتهار موسيقى ذلك الشاب النابغة. مع ذلك كان لأبي بكر خيرت الدور الأساسي في أواخر الخمسينات في مصر في تأسيس هذا المعهد، الذي أثمر هذه الظاهرة كما دعوناها، والتي تعتبَر بلا شك إحدى أهم نجاحات السياسة الثقافية في العهد الناصري، التي لم تزل مستمرة إلى اليوم. كي نتعمق نحو الأسباب، التي قد تدعونا إلى اعتبار موسيقى عمر خيرت كلاسيكية وعربية، نحتاج أولًا إلى التوقف عند طبيعة موسيقاه بوصفها خالصة.
بعد تخرج عمر خيرت من الكونسرفتوار مباشرة اتجه إلى الممارسة – مؤقتًا – على حساب استكمال الدراسة النظرية، واشترك مع زميله في الكونسرفتوار عزت أبو عوف وآخرين في تأسيس فرقه القطط الصغيرة Les petits chats لموسيقى الجاز، وتخصص في الإيقاعيات. لكن ذلك لم يكن محض ممارسة، بل كانت تلك – بحسبه في حواره مع عمار الشريعي – فرصة للتوسّع الجمالي، والمعرفي، وتذوُّق الغريب وغير المألوف في الفن بشكل حرّ لا يتقيد بالحياة شبه العسكرية للأكاديمية. استفاد خيرت بدرجة كبيرة من ممارسة العزف على الإيقاعيات في كل حياته الإبداعية فيما بعد، وصار – في رأي عمار الشريعي نفسه – من أفضل من كتبوا للآلات الإيقاعية بين العرب على الإطلاق. مسألة الإيقاع عند خيرت مسألة جوهرية، سنتوقف عندها بتفصيل أكبر فيما بعد.
كانت علاقة عمر خيرت بالممثلة المصرية فاتن حمامة نقطة تحول في حياته. هي التي منحته الثقة بالنفس للتأليف، بدلًا من الاقتصار على التوزيع والعزف والارتجال، وهي التي طلبت منه شخصيًا تأليف موسيقى فيلم ليلة القبض على فاطمة (١٩٨٤). المثير كذلك هو أن بداية بيتهوفن لم تختلف كثيرًا عن ذلك؛ فقد بدأ مرتجِلًا، وانتهى مؤلفًا عظيمًا. كانت موسيقى ليلة القبض على فاطمة بالنسبة لعمر خيرت هي البداية الحقيقية الناجحة، وصار لحن هذا الفيلم من أشهر مقطوعات خيرت. لا بد أن نذكر كذلك، في سياق تكوين موسيقاه، عمله في الوهابيات؛ حيث طلب محمد عبد الوهاب مقابلته، واقترح عليه توزيع بعض ألحانه، وبعد مشقة استطاع خيرت القيام بهذه المَهمة وحاز تقدير عبد الوهاب.
من نقاط التحول المفصلية كذلك في حياة موسيقى خيرت لقاؤه براقصة الباليه، وأستاذة الرقص الغربي والشرقي، الكندية ديانا كالنتي، التي قامت بتدريس الرقص في وزارة الثقافة المصرية، والجامعة الأمريكية في القاهرة، لمدة خمسة عشر عامًا. طلبت ديانا من خيرت تأليف موسيقى باليه لها، لكنه احتار في وضع عمل دسم كهذا، لا تألفه الموسيقى العربية، حتى وإن كان أقل دسامة من السيمفونيات والكونشرتوات. قررت ديانا أن تلتقي بخيرت عدة ليالٍ، وتؤدي بعض الرقصات، وفي كل ليلة تضع عطرًا مختلفًا يمتزج بالإيقاع والطابع الشرقيين، وينشّط وحيَ خيرت بشكل مختلف كل مرة. من هنا ولدت موسيقى باليه العرافة والعطور الساحرة، وهو من الأعمال ذات الصلة، ولا نقول ذات الصيغة، بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. الباليه ككل ليس صيغة معينة، بل رقصاته هي التي تتميّز بصيغ مختلفة بحسب تصور الموسيقار. جرت تأدية هذا الباليه عام ١٩٨٩ في دار الأوبرا المصرية، وحقق نجاحًا غير متوقَّع، وفي عام ١٩٩٢ قامت ديانا بتوظيف ألحان هذا الباليه في فيلم كندي بعنوان البحث عن ديانا. هكذا خرج خيرت من المحلية إلى العالمية بسهولة نسبية. أيضًا، من الملاحظ أن ألحان هذا الباليه، بالذات الافتتاحية، من أشهر ألحان خيرت على الإطلاق. لقد تحول خيرت بدءًا من هذا العمل – كما يمكن أن نقول – إلى تشايكوفسكي الشرق؛ جمال اللحن، وحضور الإيقاع، وبلاغة التلوين، لكن في إطار موسيقى خفيفة، هي الرقصة.
كأغلب الموسيقيين المشاهير تلقّى عمر خيرت رعاية موسيقية منذ الصغر، ودرس الموسيقى على نحو نظامي. الموسيقى متفردة في هذا الأمر، أنها ينبغي أن تتحول إلى طبيعة ثانية عند الموسيقار منذ حداثة سنّه؛ فهي تعتمد على الحدس المباشر بالزمن، وبطابع الآلة والألوان الأوركسترالية والإيقاع المناسب، واللحن نفسه، أكثر مما تعتمد على نمطِ تفكيرِ حلِّ المشكلات. كذلك، ولأن الموسيقى كائن اصطناعي بحت، خليقة إنسانية محضة، وإضافة بشرية خالصة على الطبيعة، فلا مجالَ نسبيًا لتعلمها تلقائيًا من المجتمع والطبيعة، كالشعر والتصوير. كل من الشعر والتصوير حاضر في كلامنا اليومي، وفي الطبيعة المرئية نفسها. الطبيعة مرئية، والموسيقى مسموعة. الطبيعة إلهية، والموسيقى بشرية. الله يصنع الفيلم، ونحن نضع له موسيقاه التصويرية. كما تعرضنا في مقالَي زمن الموسيقى ومكانها، والتأويل الموسيقي للعالَم لهذه المسألة بقدر أكبر من التفصيل انظر كذلك الرأي نفسه عند إيجور سترافنسكي، أصوات الطبيعة ليست موسيقى، في: Stravinsky, Igor, Poetics of Music in the Form of Six Lessons, trans. Arthur Knodel and Ingolf Dahl, Harvard University Press, Cambridge, 1947, 1947, p. 23..
مرحلة فيلم الرؤيا (١٩٨٣)، قصة وسيناريو وحوار المخرج اللبناني، الذي هاجر إلى مصر، يوسف شرف الدين. برغم أنها مرحلة متداخلة مع المرحلة السابقة، إلا أنها مرحلة؛ فقد مرت موسيقى خيرت فيها بتحول شبه جوهري. كانت موسيقاه في المرحلتين السابقتين راقصة، خفيفة، ذات حضور إيقاعي واضح، أما موسيقى الرؤيا فقد وضعت لفيلم مبنيّ على قصة خيال علمي تأليف المخرج نفسه، تحمل أبعادًا فلسفية، أعمق بالتأكيد من باليه العرافة والعطور الساحرة. لهذا اضطر خيرت اضطرارًا لتبديل أسلوبه، ليعبّر عن تلكم الأبعاد، فاكتسبت موسيقاه طابعًا حالمًا، شاعريًا، لكنه لا يغفل عنصر الحركة والدراما. هنا برز دور البيانو.
لمن يعرف موسيقى عمر خيرت جيدًا فستبدو له النقطة السابقة فارقةً في سياق مساره الفني؛ إذ اعتمد خيرت على البيانو تدريجيًا اعتمادًا ناهز اعتماده على الإيقاعيات في المرحلتين السابقتين. من جهة أخرى ناسبَ البيانو الطابع الشاعري، المتمهِّل، المتأمِّل، وإن ارتكز على الارتجالات أكثر من الألحان المعدة مسبقًا، وعلى الكادنزات الكادنزا - في هذا السياق - تعني ارتجالات لإبراز مهارة العازف على الآلة الصولو. أكثر من الجمل الموسيقية الصافية. السمات، التي ستستمر معه فيما يلي من أعمال.
في المراحل الثلاث السابقة انتقل خيرت من التكوين، إيقاع الجاز، إلى الخروج، التأليف لموسيقى الآلات، وأخيرًا إلى الرؤيا، موسيقى البيانو الشاعرية. إذا طبقّنا – من أجل مزيد من التوضيح لا البرهنة – منهجية المشابهة، لوجدناه بدأ بداية ارتجالية شبه بيتهوفنية، ثم مرحلة راقصة خفيفة ملوَّنَة تشايكوفسكية، وأخيرًا انتهى إلى مزج كل تلك العناصر في صياغة شاعرية، تذكّرنا كثيرًا برابسوديات فرانز ليست. وضع خيرت رابسودية فعلًا، لكنها تذكرنا بالأخص بالشاعريين الرومانسيين من أعلام البيانو الشِّعْريّ كشوبان، وشوبرت، وشومان؛ حيث نسمع البيانو كأنما يتكلم، أو يلقي قصيدةً، لا يغنّي.
سنجد أن بيتهوفن قد بدأ مرتجِلًا وعازفًا قبل أن تخرج مؤلَّفاته من رحم ارتجالاته، وسنجد أن تشايكوفسكي، برغم تأليفه لإحدى عشرة أوبرا، وسبع سيمفونيات، وأربعة كونشرتوات في الصيغة الدقيقة للكونشرتو، وهي صناعة موسيقية ثقيلة، فقد برع أساسًا في الرقصات الخفيفة. حتى سيمفونية تشايكوفسكي السادسة، أهم سيمفونياته، وأشهرهن، لم تثِر المستمعِين إلا من خلال أجزائها الراقصة والخفيفة: قسم العرض، وقسم إعادة العرض في الحركة الأولى بلحنهما الحالم القصِيّ، والحركة الثانية التي هي كلها في صيغة رقصة، والحركة الثالثة التي هي أيضًا رقصة سكرتسو في طابع المارش.
نلاحظ أيضًا أن شهرة أعمال خيرت ارتكزت على الإيقاع أكثر من اللحن. أحبَّ الجمهورُ العمل الواحد له ككل، أي دون فصل اللحن عنه، أحبه وهو يتراقص، وينطلق، ويستدير على عقبيه – كما سنوضح لاحقًا – رغم أن العنصر اللحني قياسًا إلى بناء العمل ككل محدود نسبيًا مقارنةً بتشايكوفسكي أو رحمانينوف. لقد أحب الجمهور أعمالَ خيرت أكثر من ألحانه. العكس صحيح بالنسبة لتشايكوفسكي، حيث أحب الناسُ ألحان تشايكوفسكي أكثر من أعماله؛ بنيان سادسته مثلًا، أهم سيمفونياته، ضعيف فعلًا إذا كنّا نتحدث عن بناء السيمفونية، الذي تطور تطورًا هائلًا بعد بيتهوفن وشوبرت وبرامز، لكن ألحانه كانت أجمل منهم جميعًا، وهو سبب خُلوده.
من الملامح المهمة كذلك أن موسيقى خيرت حِسيَّة؛ بمعنى كونها تخاطب الحواس البسيطة كالسمع، والمركّبة كالحركة، وبالتالي تخاطب الجسد. من أهم عوامل ذلك اعتماده القوي في أغلب مؤلفاته على طابع صوت الآلة الصولو، وهو ما يخاطب السمع، وعلى الإيقاع، وهو ما يخاطب الحركة. لذلك كان خيرت جسدًا للموسيقى العربية المعاصرة؛ لا يعتمد كثيرًا على بنية العمل، ويتركها غالبًا حرة بلا صيغة محددة. حتى الرابسودية هي أصلًا مقطوعة غير محددة الصيغة بحكم التعريف. كما كان اعتماده الأكبر على محسوسات الصوت، والحركة.
إلى هنا نتوقف مؤقتًا مع خيرت، وننتقل إلى منافسه الأساسي في الحقبة الموسيقية المعاصرة في الموسيقى المصرية: عمار الشريعي، لنعود بختام مقارن يكشف لنا ملامح كل منهما، التي تتشابه أحيانًا، وأحيانًا تختلف، وأحيانًا أخرى تتعارض إلى درجة الضدية والتناقض، إلى درجة تفرُّعِ الموسيقى المصرية المعاصرة إلى خطَّينِ منفصلَين متمايِزَين.
وُلد عمار الشريعي في العام نفسه، الذي ولد فيه عمر خيرت: ١٩٤٨، وتجانسَ اسماهما: عُمَر، وعَمّار، لكنهما افترقا موسيقيًا إلى حدود التضاد. إذا كان خيرت، كما رأينا، جسد الموسيقى العربية؛ يعنَى بالحواس أكثر من العقل، فإن الشريعي فعل العكسَ، وظهرت لديه البنية الشكلية بدرجة أكبر، وقل اعتماده على الحواس. عمار يعاني من فقدان إحدى الحواس، كما كان بيتهوفن كذلك، الذي كان شبه أصمّ، يرى البنية بوضوح أكبر مما يرى به خامة الصوت، فخاطبَ كلٌّ منهما العقلَ قبل الحسّ، على عكس كل من خيرت، وتشايكوفسكي. كما برز دوره السياسي كذلك بوضوح أكبر، فقد تم تكليفه بوضع موسيقى احتفاليات أكتوبر، التي كانت تقيمها القوات المسلحة المصرية، ووزارة الإعلام، ووضع موسيقى أشهر مسلسلين للجاسوسية على المستوى العربي: دموع في عيون وقحة (١٩٨٠)، ورأفت الهجان (١٩٨٧-١٩٩١)، وشارك في ثورة يناير ٢٠١١، وأيدها قبل أن تنجح في تنحية الرئيس السابق حسني مبارك، وتوفّي في ديسمبر ٢٠١٢.
لمعَت موسيقاه لأول مرة بهذا البريق حين وضع موسيقى دموع في عيون وقحة، رغم أنه بدأ تأليف الموسيقى التصويرية منذ السبعينات، وربما كان من أهم أعماله في السبعينات موسيقى مسلسل عودة الروح (١٩٧٧)، عن قصة توفيق الحكيم. لكن دموع في عيون وقحة كان مرحلة تحول جوهرية، سلطتْ عليه الضوء بقوة للمرة الأولى، وصار كل طفل في المدرسة الابتدائية من جيل أوائل الثمانينات في مصر يحفظ موسيقاه. كانت ألحان دموع في عيون وقحة مميزة حقًا، وسهلة الحفظ، وكاملة التبلوُرِ. كما كانت رزينة، قاطعة، لا تضحّي بأي من الأناقة، أو الجمال، لحساب الآخَر. ما يذكرنا مرة أخرى بألحان بيتهوفن.
ولد الشريعي في أسرة أرستقراطية، رغم انحيازه فيما بعد إلى الجمهورية، والثورة. تلقّى تعليمًا موسيقيًا منذ الصغر، كما تلقاه عمر خيرت كذلك في الصغر؛ وقد تعلم الموسيقى بشكل أكاديمي على أيدي أساتذة مصريين وأجانب، مباشرةً، وبالمراسلة. كذلك – كما فعل خيرت عقب تخرجه – كوّن فرقة موسيقية هي الأصدقاء، مع حنان ومنى عبد الغني وعلاء عبد الخالق، عام ١٩٨٠، وذلك بعد استغراقه في العزف على الأكورديون والعود والأورج، مع فرق موسيقية مختلفة. الملاحَظ أن الشريعي قد بذل جهدًا كبيرًا في التعلم الذاتي، نظرًا لفقدان بصره، والجدير بالملاحظة أيضًا أن فرقته الأصدقاء قد حملت اسمًا عربيًا، بخلاف الاسم الفرنسي الذي كان لفرقة خيرت. لهذا دلالته في كل مسار الشريعي فيما بعد؛ فهو مؤشِّر على مدى قربه من قضايا الواقع المعيش، الاجتماعي والسياسي، مقارنةً بخيرت، وذلك منذ البدايات. برغم ذلك كانت موسيقاه في هذه الفترة خفيفة نسبيًا مقارنةً بما بعدها، وغنائية.
على أية حال، إذا كان خيرت بدأ بيتهوفنيًا، وانتهي تشايكوفسكيًا، فإن الشريعي بدأ، وانتهى، بيتهوفنيًا؛ وهي البنية التي نجدها في المقارنة بين موسيقى كل من المؤلفَين. البدايات متشابهة، لكن المسار سرعان ما يفترق إلى مسارين فرعيين منفصلين، والسبب في رأيي هو فقدان إحدى الحواس. كما أثر فقدان السمع في مؤلفات بيتهوفن، الذي صار قبل سن الثلاثين يسمع الطبقات المنخفضة أكثر مما يسمع العالية، فقد أثر فقدان البصر على الشريعي؛ حجب بينه وبين الجسد، وانفتح لكل من بيتهوفن والشريعي مجالٌ خالص للعقل الذي يتعقّل نفسَه. هكذا كانت فاتحة الشريعي قريبة الشبه من فاتحة بيتهوفن.
كما قلنا: كانت موسيقى مسلسل دموع في عيون وقحة لحظة فارقة، ليس فقط في حياة الشريعي، أو حتى في ما يشمل موسيقاه، بل في حياة الموسيقى العربية ككل، بسبب تميزها الكيفي من جهة، وانتشارها الكمّي من جهة أخرى. فجأة بدأت موسيقاه تكتسب طابعًا عسكريًا، كما نجد في بدايات أعمال بيتهوفن الناضجة؛ وكما تأثر بيتهوفن بنابليون بونابرت، وانقلبت موسيقاه رأسًا على عقب، تأثّر الشريعي ببطولات جهاز المخابرات المصرية، وعملياته الصعبة الناجحة برغم ضعف الإمكانات التخابرية، خاصة عمليات أحمد الهوان (١٩٣٩-٢٠١١)، ورفعت الجمّال (١٩٢٧-١٩٨٢). نلاحظ أن موسيقى المقدمة في مسلسل دموع في عيون وقحة لا تبدأ البدايات العدوانية إياها، كما تبدأ موسيقى رأفت الهجان، أو الزيني بركات، اللتين سنتطرق إليهما حالًا، بل تبدأ بنبضات شبه منتظمة، كالقلب، لتوحي بجو العمل السري، الهادئ، الخطير برغم ذلك. لكن قبل أن يذهب القارئ لمراجعة تلك المقطوعات للشريعي يجب عليه أولًا أن يحاول الاستماع إليها متحررًا من أصلها الدرامي-التصويري؛ أي أن يحاول الاستماع إليها في أصلها هيَ، ودون أصْلٍ لها. يجب علينا أن نتخيل إمكانية كون هذه الموسيقى موسيقى خالصة دون حدث معين، دون ارتباط بالحدث التاريخي، كي نحكم عليها من منظور موسيقي بحت. من المؤكد أن القارئ، إذا اتبع هذه المنهجية في الاستماع، قادر على فتح مجالات فهم واستمتاع مختلفة في النوع عمّا كان يستمع إليه منذ طفولته من موسيقى تلك المسلسلات. دون هذه الخطوة سيبقى جمال هذه المقطوعات الفريدة بما هي موسيقى آلات – دون صوت بشري – محتجِبًا في أغلبه.
بعد النبضات الافتتاحية يبرق الكورنو، الذي استعمله بيتهوفن من قبل في سيمفونيته الثالثة ليوحي بالطابع العسكري استعمالًا مقارِبًا، ثم يسود الكورنو، ويعزف أول صورة مكتملة أصيلة للحن الأساسي، هذا اللحن، الذي سيسود الموسيقى التصويرية للعمل تمامًا من تتر البداية إلى كافة مقطوعات موسيقى المسلسل، ما عدا تتر النهاية، ولحن آه يا لا للي للموسيقار فوزي الجمل.
كان فوزي الجمل أحد مؤسِّسَي فرقة الصامدين مع الموسيقار سالم علي، والتي تكونت في ١٩٦٨ عقب هزيمة العرب في ١٩٦٧، وكان الهدف منها دعم المقاومة بالفن. لهذا السبب اتخذت هذه الفرقة آلة السمسمية، التي عُرفت في موسيقى مدن القناة (السويس، الإسماعيلية، بورسعيد) منذ القرن التاسع عشر كآلة شعبية، وإن كان مختلَفًا علي تاريخ ظهورها. بطبيعة الحال كان الضغط الأكبر من كافة المناحي، الأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، على مدن القناة إبان الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، فهي على خط النار؛ وقد استعمل الشريعي لحن آه يا لا للي بالذات نظرًا لأن أحداث المسلسل التي تدور في مصر تدور في مدينة السويس، ولأن أحمد الهوان سويسي. هنا نجد الملمح المستمر منذ فاتحة الشريعي: التوجّه الواقعي-الشعبي، الذي بدأ منذ إرهاصاته مع تكوين فرقة الأصدقاء. ليس هذا فحسب، بل كذلك يكشف اختيار الآلات المحلية عن هذا التوجه، كاختياره للناي – رغم ضعف قدراته – للإيحاء بالجوّ المصري-الشعبي، وذلك في اللحن الثالث من تتر المقدمة.
لكن من الزوايا الموسيقية البحتة فإن أهم المعالِم في هذا التتر هي البنية الواضحة، والتي لا نجدها بهذا الوضوح عند خيرت. بعد البداية النابضة إياها، ثم دخول الكورنو باللحن الأساسي بعد انقلاب الإيقاع إلى مارش قوي خطير، يظهر اللحن الثاني، لحن الحب، الذي يُختتَم بنبرة فدائية لا شك فيها، تذكرنا فعلًا بإيرويكا بيتهوفن. ربما كان الشريعي هو الوحيد الذي وصل بتعبيره عن الفداء والاستشهاد البطولي إلى درجة مقارنته، نوعًا لا كمًا، ببيتهوفن. يلي ذلك مباشرة اللحن الثالث والأخير بالناي، ثم تختتم المقطوعة ككل بعودة اللحن الأول الأساسي، يليه اللحن الثاني. بهذا الشكل يقبع لحن الناي كفريدة القلادة بين منظومتين متناظرتين، تتكون كل منهما من اللحن الأول، يعقبه الثاني.
كذلك صيغت كل من مقدمتي مسلسلي رأفت الهجان والزيني بركات وفق بنية مماثلة تقريبًا. هذا وإنْ كان عمار الشريعي نفسه لا يقدم تحليلًا تفصيليًا كهذا، ولا معتمِدًا على التمييز بين الألحان، وتنويعاتها، بل التمييز بين القِطَع، التي يتكون منها العمل، ويقصد: عناصر العمل الأساسية. لكننا سنتبع أسلوب التحليل الكلاسيكي المعهود. تبدأ موسيقى مقدمة رأفت الهجان مثلًا على نحو مختلف، فهي بداية صارخة قوية، عكس الافتتاحية النابضة في دموع في عيون وقحة، لكن المسار يتشابه من حيث البنية العامة بعد ذلك. هناك لحن كذلك للناي، يتوسط المنظومة، التي تتكون من جناحين متناظرين: لحن أوّل، ولحن ثانٍ؛ ورغم أن هذا ليس مجاله بالضبط فمن الضروري أن نشير إلى أن اللحن الثاني، بدءًا من بداية الدقيقة الثانية في الفيديو المرفق، يتكون في الحقيقة من لحنين متزامنين، وهي من الأمثلة النادرة للكونترابنط، التي وصل بها مؤلفها إلى هذا الإتقان، وتلك الشعبية والانتشار. الكونترابنط ليس من خصائص الموسيقى العربية في الأصل، وصعب على التلقي. إن هذا اللحن الثاني إنجاز في حد ذاته، فمنذ سيد درويش المتوفى سنة ١٩٢٣، الذي أنجزَ أولَى المحاولات لإدخال الكونترابنط في الموسيقى العربية في ختام الفصل الأول من مسرحية شهرزاد تأليف توفيق الحكيم، في لحن دقت طبول الحرب فيكتور سحّاب: السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة، دار العلم للملايين، بيروت، ط١، ١٩٨٧، ص ٤٦.، احتاج الأمر إلى أكثر من نصف قرن لإتقان هذه الخاصية، وعلى نحو متفرد.
وضع الشريعي الكثير من موسيقى المسلسلات قبل هذين العملين، وبينهما، وبعدهما، لكن تظل ألحانه في هذين العملين أكثر شهرة من أغلب مؤلفاته من جهة، وأكثر نضجًا في التعامل مع البوليفونية من جهة أخرى. الغريب أن جل المستمعين العرب لا يتعرفون على دور البوليفونية في أعماله، لكن الملحوظ أيضًا أنهم لا يشكُون منها، وأنها لا تزعج ذائقتهم الجمالية؛ وفي الفن – لا النقد الفني – ليس من الضروري أن يدرك المتلقي مدى ما بلغتَه نظريًا من إبداع، بل يكفي فقط أنه لم يشعر بنشاز في التلقي. أما بيان مدى ابتكار هذا الإبداع، وكيفيته وعلّته، إنما من شأن النقاد ومن أدوارهم الأساسية. ليست الملاحظة السابقة هامشية، فمعنى أن المستمع العربي لم يشعر بنتوءات خاصة في التلقي، وأن العمل الذي نتحدث عنه منتشر شعبيًا بامتياز، فإن هذا يعني أن البوليفونية ليست بطبيعتها غريبة على العقلية العربية، هي فقط غريبة على الفن العربي.
الملاحَظ أنها خاصية شبه غائبة عن موسيقى خيرت. يحتاج الكونترابنط إلى عقلية تجريدية لاستعماله، إذ يتطلب وضع لحنين مختلفين في الطابع، متّحدين في الزمن والهارمونية، عقليةً رياضية تأليفية، ترى الموسيقى في العقل، قبل أن تسمعها في الواقع؛ وهو ما يكمل بعض ملامح روحية الشريعي، وحسِّيّة خيرت.
في مقدمة الزيني بركات سنجد كذلك بنية مشابهة، هي البداية ذات الإيقاع المضطرب، ثم استقرار الإيقاع مع دخول الكورنو وعزفه للحن الأول، ثم اللحن الثاني بالعود، ثم بالأوركسترا، يليه لحن الناي، ثم تأتي الخاتمة باللحن الثاني فقط. صحيح أنه توجد اختلافات في البنية بين المقطوعات الثلاث، لكن الهيكل العام يكاد يكون واحدًا، والاختلاف في البناء يبرره اختلاف الموضوع، وإلا كان الموسيقار منفصلًا عن موضوعه. هنا نصل بوضوح إلى نتيجة: عمار الشريعي موسيقار يتمتع ببنية ذهنية جَلِيّة في أعماله. تتكون هذه البنية بالتعميم من المقطوعات الثلاث من بداية قوية أو مترقِّبَة، يليها إيقاع مضطرب، يستقر مع دخول الكورنو، وإعلان الحرب، وطغيان الطابع العسكري، وإيقاع المارش، ثم يلي ذلك لحنان مختلفان في الطابع، أحدهما قوة، والآخَر هشاشة، والقوة إلى جانب الهشاشة جذّابة ومبهِرَة، والهشاشة بعد القوة تراجيدية ومدهِشَة، ثم يأتي لحن الناي، ويليه اللحنان الأول والثاني، ليختم أحدهما المقطوعة. نستنتج من هذه النتيجة أنَّ الشريعي قد تمتّع بعقلية تجريدية، ترى العمل ككل، أو تسمعه في لحظة واحدة، قبل كتابته من الأصل. كانت هذه هي مرحلة الانتقال الحقيقية من موسيقى الغناء إلى موسيقى الحرب، أعرافٌ بين الجنة، والجحيم، وربما من الجنة إلى الجحيم.
هكذا خرج الشريعي من الناس، ودَخَل عالمَ الظلام المطلَق بمعقولاته المتعالية، ثم عاد به إلى الناس، وصارت موسيقاه، على ما تحمله من بنية ذهنية، وبوليفونية غير معتادة للأذن العربية، على لسان أطفال المدارس، وفي كل بيت. صحيحٌ أن الشريعي وضع في مرحلته المتأخرة نماذج من الموسيقى على الصيغ الكلاسيكية مثل كونشرتو لآلة العود والأوركسترا، ومتتالية على ألحان عربية (عزفهما أوركسترا عُمان السيمفوني ٢٠٠٥)، كما فعل خيرت كذلك في رابسوديته، لكنها ليست الأعمال المعبّرة عن جل إنتاج خيرت والشريعي الموسيقيّ، الموزع بين تلحين الأغاني، وتأليف الموسيقى التصويرية. كما أن التجديد، والتجريب، في صيغة نخبوية كالكونشرتو، الذي لن يهتم به سوى مستمع الموسيقى الكلاسيكية النادر بين العرب، لن يكون له تأثير عميق ومستمر، بخلاف التجريب والتجديد في موسيقى المسلسل، التي تدخل كل بيت، وفي عمل ذي شعبية كبيرة مثل عملي الجاسوسية سابقَي الذكر.
أيضًا، زاد انتشار الشريعي تلحينه لأغاني الأطفال، إذ وضع كمًّا كبيرًا نسبيًا من هذا الفن، أشهره ما قام بتلحينه لعفاف راضي، وصفاء أبو السعود، وعبد المنعم مدبولي؛ وهي أغانٍ رفيعة المستوى من حيث كلمات سيد حجاب، وتلحين عمار الشريعي، لكنّ فيها ظاهرة لافتةً حقًا، هي الدراما، وطابع الخطورة، الذي يتناقض، ويتناغم في الوقت نفسه، مع طفولية الموضوع. انظر مثلًا أغنية اصحي يا دنيا غناء عفاف راضي، إن الشريعي لا يدخر وقتًا أصلًا لإغراق المستمع في الطابع الدرامي، الخطِر، منذ المازورة الثالثة في مطلع الأغنية، أي في ثوانيها الأولى. انظر إلى البيتين الثالث والرابع في بداية الأغنية “إصحي يا دنيا قومى يا دنيا، والبسي واتزوقي تزاويقك / إمشي ورشي علينا كولونيا، وخدينا معاكي فى طريقك”، ولاحظْ هذه الخاصية الغريبة الجامعة بين التراجيديا والبراءة في جملة واحدة، خاصة بصوت كورال الأطفال. أما تلحين البيتين “والموج يتمطع فى بحوره، والبوبي يعضعض فى فطوره / والنحل يدور وسط زهوره، واسقيه يا زهور من أباريقك” فهو ياقوتة لحنية متفردة؛ حيث اللعب الصعب في المساحات الضيقة أعلى المقام. غالبًا ما تتحرك ألحان الأطفال حركة محدودة، من أوسط المقام إلى أعلاه، أو من أوسطه إلى أدناه، وبالعكس، وذلك لبساطة الموضوع، وبساطة المتلقي، ومراعاة هذه البساطة؛ لكن ما نراه في هذه الأغنية هو صعود غير محدود المساحة من أقصى المقام إلى أقصاه. لا أدري إن كان عمار الشريعي قد أوضح بنفسه فلسفته في هذه المسألة، أي أغاني الأطفال الدرامية، أو إذا كان قد سئِلَ عنها. لذلك يبقى الأمر مثيرًا، وغامضًا في الوقت نفسه.
أما أغنية حادي بادي بصوت عفاف راضي أيضًا فلها خاصية أخرى لامعة بالإضافة إلى خاصية الدراما، هي الكونترابنط. بعد تكرار الجملة الأولى في المفتتح الموسيقى نجد الوتريات العالية قد انفصلت، لتعزف لحنًا مختلفًا في الوقت نفسه؛ ورغم أن هذه الظاهرة ليست عامة في كل الأغنية، فهناك ظاهرة إلى جانبها أكثر عمومية، هي بوليفونية الطبقات، وهي واضحة في الاستعانة بطبقتي التينور والباص للإيحاء بأصوات الحيوانات والجمادات، مع إضافة أصوات حقيقية لهاتين الطبقتين. هي كذلك ظواهر حاضرة في أغانيه مع صفاء أبو السعود، خاصة الأزرق بحر الافراح، وأولها الحلوة تجينا. الأغنية الأخيرة بالذات ذات طابع عسكري واضح في استعمال النحاسيات في المفتتح، وإيقاع المارش. إذا انتقلنا نقلة سريعة من أغاني الأطفال إلى أغاني الحب، مثل أغنية أكتر من روحي بحبك بصوت لطيفة، فإننا سنجد كذلك الطابع الدرامي، المتصاعد، النشِط، والذي يذكرنا بالتصاعدات اللحنية العظمَى لغطاريف الكلاسيكية بلا مبالغة. انظر إلى هذا التصاعد، ثم التَّمَهُّل، ثم إعادة التصعيد، حتى انفجار الجملة المذهبية: “ولا كل لغات الدنيا تقدر عن حبي تعبر/ وغنايا بكلمة أحبك / أكتر من روحي بحبك / بالنسبة لدرجة حبك / رمز صغير مش أكتر/ أكتر أكتر أكتر من روحي بحبك.”
هذا الطابع الدرامي، التراجيدي، بل والعسكري، في تترات مسلسلات الجاسوسية، وأغاني الحب، بل وأغاني الأطفال، يجعلنا نشعر فجأة بطابع الجدية، والانفصال المباغت عن حياتنا العابثة، أو العبثية. استمع مثلًا إلى مقدمة دموع في عيون وقحة بقيادة نادر العباسي بعد استماعك إلى العرافة والعطور الساحرة، لتشعر بهذا الانتقال الآنيّ، الذي يقطع مسافة هائلة. الانتقال ذاته، بلا زيادة ولا نقصان، الذي نجده حين نستمع إلى إيرويكا بيتهوفن بعد السيمفونية رقم ٤١ مثلًا لموتسارت، أو افتتاحياته.
لا يعني ما سبق أن خيرت لم يتمتع ببنية مستقرة في أعماله، فكثير من إنتاجه يتشكل فعلًا حول بنية معينة، لكنها أبسط مما نجده لدى الشريعي. تتخذ بنية خيرت غالبًا هيكلَ الرقصة، حيث تتكون الرقصات عمومًا، أيًا كان إيقاعُها، من لحنين متعارضين في الطابع والسرعة، يتكرر أحدهما مرتين في البدء والختام، بينما يحتل الثاني موضع واسطة العِقد. كما يعتمد خيرت غالبًا إما على بداية قوية صارخة، كما في صابر يا عم صابر مثلًا، تلفت نظر السامع، وإما على بداية هادئة تأملية (غالبًا تؤدَّى بالبيانو) كما مثلًا في خلي بالك من عقلك، أو اللقاء الثاني، ثم يليها اللحن الأساسي، الذي يتصاعد تدريجيًا، ثم يستقر المستوَى ليصنع الإحساس بالطرب، الذي يتأسس على التكرار، وعلى الإيقاع. لهذا، أي بسبب التكرار، يميل الموسيقار هنا إلى التنويعات، إذا كان عازفًا عن الإنماء؛ وهو ما يناسب المستمع العربي تلقائيًا.
لكن أعمال الشريعي لا تحقق هذا المستوى من الإطراب، أو على الأقل لا تستهدفه؛ وهي ظاهرة تفرق بين موسيقى كل من الموسيقيَّين موضوع المقالة. لو عايننا مثلًا موسيقى الأيام لخيرت لوجدناها نموذجًا لبنية أعماله: البداية القوية، ثم التصاعد الإيقاعي، ثم الاستقرار الإطرابي، حتى لتكاد تصلح للرقص. أما موسيقى دموع في عيون وقحة مثلًا فهي كما رأينا في الفقرات السابقة: ذات بنية محددة، وهي تتميّز بجانب إنمائي، لم نشر له بما يستحق أعلاه، لكننا سنتعرض له في فقرة (الدَّوْري والطولي) فيما يلي. لا تحقق هذه البنية الإنمائية القدر نفسه من الطرب، فلا يَسْهُل أن تستمع مثلًا إلى عمار الشريعي في هذه المقطوعة المذكورة في الخلفية، كموسيقى يومية مصاحِبة، بينما يليق خيرت إلى حد أكبر بهذا المقام.
لا تستهدف موسيقى الشريعي الإطراب، بل الاضطراب؛ بمعنى كونها تستهدف إحداث قطيعة مع اليومي، والعابر، وإدخال المستمع على نحو مباغت في جو مختلف، أكثر جدية. هذا بينما تتكيف موسيقى خيرت مع اليومية، وتحاول أن تكون موسيقى تصويرية لحياتنا العادية الملأى بالأفراح والأتراح. يصنع الشريعي هذا الاضطراب بالإيقاع المضطرب في البداية، الذي يبحث عن نقطة استقرار، وذلك كما رأينا بوضوح في افتتاحيات مقطوعاته الثلاث: دموع في عيون وقحة، ورأفت الهجان، والزيني بركات؛ ما يذكرنا نوعًا بالحركة الأولى من سيمفونية شوبرت الثامنة، التي هي نموذج من نماذج الاضطراب الإيقاعي المقصود في الموسيقى الكلاسيكية. الاضطراب نفسه عنصر إيقاعي، فهو لا يلبث إلا أن يستقر، ثم يضطرب، وهو إيقاع، لكنه إيقاع على مستوى مختلف، لا تعبر عنه الآلات الإيقاعية، بل يفهمه الذهن، ويشعر به السامع. من تعريفات الإيقاع الأكثر عمومية، ودقة، تعريف سوزان لانجر فيلسوفة الموسيقى والفن، وتلميذة إرنست كاسيرر النجيبة، أنه “علاقة نجرّدها ذهنيًا بين توتر، وانبساط.” Susanne K. Langer, Feeling and Form: A Theory of Art, developed from Philosophy in a New Key, Charles Scribner's Sons, New York, 1953, pp. 126-127. لهذا كله، بينما قد تصلح موسيقى خيرت للخلفية، والرقص، فإن موسيقى الشريعي أصلح للأمامية، والمارش. خيرت متصل بنا، والشريعي فاصِل لنا.
بشكل ما، ومن زاوية محدودة، يمكن القول أن موسيقى خيرت هي موسيقى الشعب، وموسيقى الشريعي موسيقى السلطة. هذا ليس من زاوية تكليف أي منهما بإنتاج أعمال دعائية للسلطة، لكن من زاوية طابع الأعمال نفسها. درامية الشريعي، ورصانته، أقرب إلى التعبير عن الموضوعات الجادة، الخطيرة، وفيها من القوة والحزم ما يصلح للمقارنة، كمًا لا كيفًا، بإيرويكا بيتهوفن، وإيجمونت، وكوريولان، وغيرها من الموسيقى المتجهِّمة، العدوانية. بينما يعبر خيرت عما هو يومي وبسيط، ومباشر نوعًا، في حياتنا العادية، من لحظات حب وانتصار، وانكسار وقوة وضعف، إلخ.
لهذا ركزنا فيما سبق على ذلك الطابع الشريعي الأصيل العسكري الدرامي حتى في تلحينه لأغاني الحب، والأطفال. هو إذًا طابع عام تتسم به موسيقاه، ولا يقتصر على الأعمال الموضوعة أصلًا لمسلسلات الجاسوسية، واحتفالات القوات المسلحة. هذا الفارق بين خيرت والشريعي هو ما أهّل الأول لأن تكون ألحانه أكثر شعبية، بينما كانت أعماله أكثر بساطة، وهو نفسه ما جعل للشريعي قيمة أكثر تميزًا في إدخال مثل هذه البنية المعقدة إلى مستوى انتشار لم تحققه الكلاسيكية العربية ذات الصيغ الكلاسيكية الغربية، كأعمال عمه أبي بكر خيرت؛ ما يعني أن عمر خيرت كان أكثر انتشارًا من جهة الكم، أما الشريعي فقد كان أكثر تميزًا من ناحية التوزيع النوعي.
في مقابل ذلك الطابع العسكري الخطِر لموسيقى الشريعي فإن موسيقى عمر خيرت أقرب إلى الطابع الشاعري، الذي نجده في المدرسة الشاعرية للبيانو. موسيقى خيرت تتكلم في هدوء، وتلقي شِعرًا، وترقص، أما موسيقى الشريعي فتصرخ، وتتحدَّى وتحارب، وتنتهي بالفداء والاستشهاد. الفارق بيِّن بذاته في هذه النقطة بين الموسيقيينِ. خيرت شاعر، والشريعي محارِب.
لقد استعمل خيرت الآلات والمقامات الشرقية، كما استعمل القانون مثلًا في الأيام، بل أكثر من ذلك: لقد مزج خيرت بين ضوضاء الشارع، وبين موسيقاه الأنيقة الراقية، كما نرى مثلًا في افتتاح موسيقى صراع الأحفاد، التي تبدأ بضوضاء أحد السيركات الشعبية، كالتي تؤدَّى في الموالد، ثم يقطعها الكمان الأول، وتبدأ الألحان الأساسية. برغم هذا، موسيقى الشريعي أكثر شرقية من موسيقى خيرت، بمعنى كونها خارجة من صميم المجتمع العربي بما هو عربي؛ وهو ما أوضحناه في تقديم المقال من معنى لفظة عربي في تركيب الكلاسيكية العربية.
هذه مفارقة اصطلاحًا، بمعنى كونها تناقضًا ظاهرًا، يمكن حله بمزيد من التمحيص؛ فبرغم أن خيرت استعمل آلات ومقامات وأصوات شرقية وشعبية، وبرغم كونه موسيقَى اليومية والعابرية، فإنه كان أشد انفصالًا عما هو عربي في المجتمع. من السهل ملاحظة أن الطابع العام لموسيقاه أكثر نعومة، وأناقة، مما هو معهود في الموسيقى العربية التقليدية، ومن موسيقى الشريعي. كما تطغى شدة اعتماده على صولو البيانو بقوة على استعماله للعود، والقانون، بوضوح في جل أعماله. من الصحيح كذلك أن الشريعي يستعمل الأورج كثيرًا، لكن – وكما هو معروف – فإن الأورج ينتج تقريبًا جميع أصوات الأوركسترا الغربي والشرقي، بما يحول بينه وبين تصنيف صوته على نحو جغرافي، رغم أنه آلة غربية على نحو تاريخي.
إذا كان خيرت قد عبّر عما هو قائم في يوميتنا، فإن الشريعي قد عبّر عما هو قادم في طموحنا؛ وبمعيار خاص أرى أن التعبير عن طموح الحضارة والمجتمع، أعمق، وأوثق صلة بالمجتمع، من التعبير عما هو قائم فعلًا. الإنسان مشروع دائم، من وجهة نظر وجودية، لا يحركه ماضيه بقدر ما يفعل مستقبلُه. خيرت حاضر، والشريعي مستقبَل.
ليس فقدان إحدى الحواس مجرد نقْص في التلقّي، إنه يصنع عالَمًا بديلًا لصاحبه. إذا قلنا إن العالَم هو كل ما نتلقاه في الخبرات المباشرة، فإن من يفقد إحدى حواسه يتلقى عالمًا مختلفًا، وليس عالمًا ناقصًا. من هنا كان عالَم بيتهوفن، بدايةً من بدء صممه التدريجي مختلفًا، وكان هذا من عوامل صناعته للتاريخ، وكذلك كان عَمَى الشريعي – الذي وُلد كفيفًا – مُنتِجًا؛ فقد أبدل عالَمه بشكل جذري، وبالتالي تحركت موهبته لتصف وجودًا يراه هو بلا عينين، ولا يمكن لنا نحن رؤيته بعيوننا المبصِرة، لكن يمكن لنا أن نسمعه.
لهذا كله صارت موسيقى الشريعي أكثر تجريدًا، وأقل حِسّية، مقارنةً بموسيقى خيرت؛ وقد ساهمت عدة عوامل للخروج بهذا الحكم. إن موسيقى خيرت تستعمل أوركسترا أكبر، وآلات أكثر تنوعًا، وتعتمد على الإيقاع، الذي هو عنصر حسي حين تعبر عنه الآلات الإيقاعية، والتي تخصص فيها خيرت إلى جانب البيانو منذ بداياته. كما تعتمد موسيقاه على التلوين الأوركسترالي، وعلى طابع صوت الآلة. هذا بينما عاش الشريعي إلى حد أكبر في عالم من التصورات العقلية، وتمرَّن منذ حداثته على التأويل العقلي الضروري لتخيُّل ما لم يره أصلًا؛ فقد ولد كفيفًا. هذا النشاط التأويلي، الذي اعتمد عليه الشريعي، ليتخيل عالمنا المرئي، قد صار، كما هو لدى كل من فقد إحدى حواسه، طبيعة ثانيةً، منحت أعماله خاصية ذهنية، وجعلت بنيتَها أقوى، وأوضح، وأصلب.
لهذا إننا حين نستمع إلى موسيقى الشريعي لا نجدها بهذا القدر من التلوين، بل التخطيط. إنها المقارنة نفسها بين لوحة تأثيرية ترتكز على الإضاءة، واللون، مقارنة بلوحة تكعيبية، تعتمد على الخطوط، وتأويلنا الذهني لها، ولا تستعمل الكثير من الألوان، حتى لتكاد تكون رمادية، ولا تؤدِّي فيها الألوان والظلال والأضواء دورًا جوهريًا. هو الفارق نفسه بين موسيقى بيتهوفن في المرحلة الثانية من حياته: من إيرويكا إلى سيمفونيته الثامنة، والمرحلة الختامية، الذهنية: مرحلة الرباعيات المتأخرة، والسيمفونية التاسعة؛ إذ قَلّتْ ألوان بيتهوفن متناسبة عكسيًا مع زيادة صممه، بينما تناسب تركيبُه، وذهنيتُه طرديًا معها. مع ذلك لم تفقد موسيقى الشريعي حيويتها، ودراميتها، كما هو ملحوظ، برغم الاقتصاد النسبي في الأوركسترا، والتلوين. لا ريب أن المستمع المخضرم للموسيقى الكلاسيكية سوف يتذكر هنا الصراع بين المدرسة الروسية-المتغرِّبة عند تشايكوفسكي، وبين المدرسة الألمانية التركيبية الأصيلة عند برامز. إذا كان خيرت تشايكوفسكيًا، فإن الشريعي من هذه الزاوية برامزيّ.
مفارقةٌ أخرى: فبرغم أن خيرت كان أكثر تلوينًا بكثير من الشريعي، فإنه قد وظّفَ الآلة الصولو بدرجة أكبر بوضوح، حتى ليكاد جلّ أعمالِه أن يكون كونشرتوَ طويلًا جدًا، يلعب فيه البيانو غالبًا دور الصولو. أما الشريعي فلا يخصص للصولو دورًا بالدرجة نفسها من الجوهرية كيفًا، أو المساحةِ كمًا. كما تقوم أحيانًا الآلة الصولو بقيادة الأوركسترا ككل بعزفها للحن الأساسي في بداية المقطوعة عند خيرت، كما في عفوًا أيها القانون، أو خلي بالك من عقلك، وغيرها من الكثير من الأمثلة. في مقابل ذلك نلاحظ أن الشريعي نادرًا ما يستعمل الصولو كمدخل للعمل. ربما كان الصولو الوحيد المتكرر في أعماله هو الناي، وذلك ليس اهتمامًا محضًا بطابع صوته الداخلي، بل بإحالته الخارجية للمكان، لمصر.
أيضًا، أفاد كلًا منهما تخصصُه في الآلة، وهو يؤكد على دور الآلة في التأليف، برغم كونها صماء عمياء؛ فقد تخصص خيرت في الإيقاعيات، فجاءت موسيقاه حسية راقصة، وتخصص في البيانو، الذي هو أهم الآلات الصولو منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر إلى الآن في الموسيقى الغربية، فجاءت موسيقاه أقرب إلى كونشرتو. أما الشريعي فقد تخصص في الأورج، بل قام بتعديلات عليه لينتج ربع التون الشرقي، وهو الآلة التي تُنتج كل أصوات الأوركسترا، فجاءت موسيقاه أوركسترالية بالمقارنة. لهذا يلعب طابع صوت الآلة دورًا أكثر محورية، وأهم بكثير عند خيرت، بينما يركز الشريعي على اللحن من جهة، والبنية العامة للعمل من جهة أخرى. خيرت مَذاق، والشريعي فكرة. خيرت انطباع، والشريعي تَصَوُّر.
مما يلفت النظر للوهلة الأولى ذلك الطابع الملحمي المسيطر على موسيقى الشريعي مقارنةً بموسيقى خيرت، ومما ساهم في ذلك بدايات الشريعي القوية، ونهاياته القاطعة والفِدائية، كما رأينا في موسيقى دموع في عيون وقحة ورأفت الهجان والزيني بركات، وخطوات المارش، وإيقاع المارش عمومًا. نقطة الإيقاع بالغة الأهمية في هذا السياق من حيث توظيف كل من المؤلفينِ له؛ فقد وظف خيرت الإيقاع بهدف الرقص، أما الشريعي فقد وظفه لمَهمتينِ: المارش، والإنماء. فكما رأينا في تحليل تتر مقدمة دموع في عيون وقحة، يستعمل الشريعي إيقاع المارش بطول العمل تقريبًا كهيكل عام، يربط بين أجزاء العمل، وهي مهمة الإنماء. الملاحظة المهمة كذلك عند هذا الحدّ أن انتقالات خيرت من إيقاع إلى آخَر، ومن جزء من المقطوعة إلى جزء غيره، أكثر نعومة، أقرب إلى انحناءات تلقائية، أما انتقالات الشريعي المناظِرة فعادة ما تأتي أكثر خشونة، ومباغَتةَ، وأدنَى إلى صدام الإرادات.
يستعمل خيرت الإيقاع بانسيابية أكبر، ونعومة أكثر، ويحقق به هدف الإطراب الإيقاعي مع الإطراب اللحني. من أمثلة ذلك موسيقى البخيل وأنا، فهي رقصة مائعة وصفًا لا تقييمًا. كما سنجد أن أمثلة تلك الميوعة في أعمال الشريعي نادرة بالمقارنة. حتى أغاني الحب، والأطفال، اكتسبت لدى الشريعي طابعًا جادًا، رصينًا، دراميًا، أشرنا إليه سابقًا بتفاصيل أكبر في مرحلة الناس. لقد تحول الحب بصوت لطيفة في أكتر من روحي بحبك، وبسبب التلحين فقط، إلى قضية حياة أو موت، لا “عذاب جميل”، ولا غزل أو حلم. لقد قضى تلحين الشريعي لهذه الأغنية على حالة المازوخية، التي يلتذّ بها المحبّون، وتحولت القصيدة في الأغنية نفسها إلى تقرير واضح فصيح صلب، يقطع مع حالة توقع رد الفعل، بل يقطع مع الخطاب ذاته، الذي يتوقع رد فعل المخاطَب. إنه إعلان كإعلانات الاستقلال، أو إعلانات حقوق الإنسان إبان الثورة الفرنسية، لهذا كان طبيعيًا أن يتحمس الشريعي لتحولات يناير منذ اندلاع الثورة، وحتى انطفاء روحه. هكذا نجد أن خيرت متسامح، رحب، حاضن، ومتأمِّل، والشريعي مهاجِم، ومدافِع، ومتجهِّم، وجادّ.
من أهم أوجه المقارنة بين خيرت والشريعي، حيث تكشف عن خاصية كلاسيكية أصيلة، هي خاصية الاشتقاق، أو الإنماء. بينما يعتمد خيرت على طابع صوت الآلة، وبالتالي التوزيع، وهو موزّع محترف عالي المهارة، من طبقة الموزعين الأوائل كتشايكوفسكي، ورحمانينوف، وهو ما يسّر له طريقَ بنية التنويعات، فقد ركّز الشريعي على بنية إنمائية أوضح بالمقارنة، لأن اهتمامه، كما ذكر أعلاه، لم يكن على خامة الصوت، بل بناء العمل.
إذا قمنا بتحليل بنيوي لتتر المقدمة في موسيقى دموع في عيون وقحة لقلنا إنه يتكون من أربعة أجزاء أساسية: ١- المقدمة، ومنها ينشأ اللحن الأساسي، ٢- واللحن الأساسي أو الأول، وهو الذي يلفّ المقطوعة ككل، ٣- واللحن الثاني، وهو لحن الحب، ٤- وأخيرًا اللحن الثالث وهو لحن الوطن. ما يناظر هذا التركيب في الصيغ الكلاسيكية بالدرجة الأكبر من الدقة هو صيغة الرونْدُو، التي تعتمد على لحن أساسي يظهر في البداية، يليه لحن ثان، ثم اللحن الأساسي، يليه لحن ثالث، ثم اللحن الأساسي، وهكذا. يمكن القول في عمل الشريعي المذكور إنه استعمل في الحقيقة لحنًا واحدًا، ومنه اشتق لحنين مختلفين في الطابع؛ وهذا ليس غريبًا على التأليف الكلاسيكي. أقرب مثال يتبادر إلى أذهاننا بصدد النقطة الأخيرة هي الحركة الأولى من سيمفونية بيتهوفن الخامسة، التي لا تتضمن سوى لحن واحد مع تنويعات واشتقاقات. لكن وجه الشبه الثاني المهم مع خامسة بيتهوفن هو الإيقاع المصاحب للحن الأساسي لدى الشريعي. استعمل بيتهوفن ضربات القدر الرباعية (صول صول صول مي بيمول) في الخلفية وراء اللحن الثاني، بحيث لا تصمت طيلة الحركة تقريبًا؛ وقد استعمل الشريعي ست نغمات في الخلفية بصورة مشابهة مجموعة في (ضربة، ثلاث ضربات، ضربة، ضربة). كل من الضربات، الأربع، أو الست، ليس لحنًا، بل تيمة، تصوِّر سيطرة الإيقاع الأساسي على العمل. البنية الرباعية ذاتها تقريبًا التي سنجدها في مقدمة رأفت الهجان: البداية بضربة أوركسترالية، ثم اللحن التقديمي المشتق من اللحن الأساسي، يليه لحن ثان مشتق بدوره، ثم لحن ثالث، ثم يعود اللحن التقديمي ليختم العمل. حين تتكرر البنية، كما رأينا في عملين، بحيث يمكن رسم خط مستقيم اعتمادًا على نقطتين، فهو دليل في ذاته على وجود هذه البنية في عقل المؤلف.
إذن فقد طبّق الشريعي تقنية التنويعات، وهي جانب مهم من الاشتقاق، هذا رغم جمال ألحانه مقارنة بألحان خيرت، الذي قد يعوق الموسيقار في عمليات الفك والتركيب اللحنية. كما أن اللحن الأساسي لا يظهر فجأة وكأنه معد مسبقًا، وهي خصيصة في الموسيقى الغنائية، ومنها الموسيقى العربية. يظهر اللحن الأساسي لدى الشريعي، كما هو واضح في التحليل البنيوي السابق كذلك من دموع في عيون وقحة ورأفت الهجان، بعد التقديم؛ ونظرًا لأن التقديم هو في الأصل تنويع على اللحن الأساسي، فإن اللحن الأساسي يبدو نتيجةً تلقائية للتقديم. أيضًا، من المؤكد أن موسيقى الشريعي موسيقى ميلودية بامتياز، أي تشتمل في كل مقطوعة على لحن كامل التبلور، يبدو هدفًا للعمل ككل. قد يكون الأقرب مثالًا للشريعي من بيتهوفن هو رحمانينوف؛ فالموسيقى الروسية كالعربية في جانب مركزية اللحن، وقد تمتع رحمانينوف، كالشريعي، بموهبة ميلودية هائلة، لكنه تغلب على غواية اللحن بجعله الهدف الأسمى للعمل عبر مراحل من الفك، والتركيب، والإنماء. كما نجد في النموذجين: رحمانينوف، والشريعي، درجة جيدة من التوازن بين اللحن، وبين التركيب، دون خسارة أي منهما. هذا وإن كان رحمانينوف أجمل لحنًا، وأعقد تركيبًا بطبيعة الحال؛ فهو يخاطب أصلًا مستمع الموسيقى الكلاسيكية الغربية، المحمَّل بتراث تركيبي غامر.
يعني ما سبق أن الشريعي كان يتحرك في خط مستقيم، مقارنة بخيرت الذي كان يسير في دائرة مغلقة أو شبه مغلقة. يعتمد بناء خيرت بقوة على التنويع والتوزيع، والارتجال في ما يشبه جاز عربي، ولا يقوم غالبًا بالإنماء إلا في لحظات خاطفة لا تشكل بنيان العمل، ولا تحقق مستوى أعمق من الاشتقاق، مقارنة بالشريعي، كما نجد مثلًا في منتصف في هويد الليل لخيرت. يعود خيرت إلى اللحن مرارًا وتَكرارًا، وكل مرة بثوب مختلف تنويعًا، وتلوينًا، وتوزيعًا، بينما يقدم الشريعي قصة حياة اللحن، من النشأة في المقدمة، إلى الارتقاء بعد المقدمة، إلى الاستواء في قلب العمل، ثم النهاية الاستشهادية القاطعة. خيرت دائرة، إذا كان الشريعي خَطًا. خيرت ساعة تدور فيها العقارب، والشريعي ساعة ينفد منها الرمْل.
قلنا في صدارة المقال إن هناك معاييرًا محددة، قمنا باستنباطها وتعيينها لصفة الكلاسيكي العربي. عليه أولًا أن يكون كلاسيكيًا، وثانيًا أن يكون عربيًا. عليه أن يستعمل الاشتقاق، وأن يتمتع ببنية متكررة يمكن تتبعها في أعماله، وعليه ثانيًا أن يخرج من المجتمع العربي، بحالته ومشكلاته وآماله ومستقبله، وأن يعود إليه محققًا انتشارًا ذي حجمٍ حرِج. إذًا، كيف يمكن تصنيف خيرت والشريعي طبقًا لهذه المعايير؟
لقد أوضحنا فيما سبق مباشرةً، في فقرة الدَّوْري والطولي كيف أن موسيقى خيرت دورية، وأن موسيقى الشريعي في المقابل خطية. يعتمد الأول على التنويع على لحن واحد، ويرتكز الثاني على استنباط جمل موسيقية من لحن واحد أيضًا؛ ورغم أن التنويعات تقنية كلاسيكية أصيلة عند الموسيقيين الغربيين الكلاسيكيين، وأهمهم في هذا هو بيتهوفن، فإنها تقنية أقل أهمية من تقنية أخرى هي الاشتقاق اللحني. لهذا، وبناء عليه، فإن الشريعي أقرب إلى التأليف الكلاسيكي من خيرت.
كما قلنا إن التعبير عن المستقبل أقرب إلى المجتمع الحيّ من التعبير عن الحاضر والماضي؛ حيث الإنسان كائن على استعداد دائم، في حالة شروعٍ دائمة، إنه “يوشك أن..” على الدوام. بالتالي إن المستقبَل هو لحظة الإنسان الأساسية، لا الماضي، ولا الحاضر. يفهم الإنسان ماضيه، وحاضره، ليس بناء على معطيات علمية تاريخية-اجتماعية موضوعية وحسْب، فالثقافة والفلسفة ورؤية العالَم ليست مجرد نِثَارٍ من المعلومات، بل يقوم الإنسان بتأويل تلك المعطيات وربطها بعلاقات معينة، لتناسب مستقبَلًا معينًا يطمح إليه، وربما يحققه.
في عصر القومية العربية إبان الخمسينات والستينات، وهي لحظات تكوين الشريعي، وخيرت، نُظِرَ إلى الحاضر، والماضي، باعتباره “عربيًا”، وكتبَ محمد عابد الجابري الفيلسوف المغربي المعاصر في القرن العشرين عن العقل “العربي”، لا الإسلامي، ولا المغربي، ولا عن العقل عمومًا، بينما كتب كانط في القرن الثامن عشر عن العقل عمومًا؛ لأن أوروبا في ذلك الوقت كانت تسعى لأن تفكَر للعالَم، كمرحلة تالية لتفكيرها في العالَم. أيضًا، كتب نيتشه عن الإنسان الأعلَى؛ لأنه كان يرى أن المستقبَل للفرد لا المجتمع. في المقابل كتب حسن حنفي عن الوعي الإسلامي، نظرية الشعور الثلاثي، في رسالته الأساسية للدكتوراه بالفرنسية في السوربون، لأنه كان يرى المستقبلَ للإسلام ككل، لا للعروبة فحسب، ولم يكن يرى تعارضًا بين الإسلامية والقومية؛ حيث على القومية أن تتجذَرَ في الوعي الديني أولًا، كيلا يُنقَلَبَ عليها، كما حدث إبان عصر الرئيس الراحل أنور السادات، الذي قضى على تجربة ناصر في العالم العربي. لمزيد من التفاصيل: كريم الصياد: إعادة بناء العلوم الإسلامية في: فلسفة حسن حنفي، تحرير مصطفى النشار، دار نيوبوك، القاهرة، ٢٠١٧.
بالمنطق نفسه وضع الشريعي موسيقاه تَصَوُّرًا لما يجب أن يكون عليه الروح العربي: روحًا مكافحًا مقاتِلًا في تراجيديا تاريخية حقيقية، لا أحلام فيها، ولا وقتَ فيها لمازوخية الحب، ولا مجال فيها للرقص، أو الطّرَب. ذلك كله بخلاف موسيقى خيرت، التي عبّرت عن القائم والزائل، واليومي والعابر، والحلم والتأمل والشِّعْر، والتي رقصت رقصة طويلة عملاقة من المحيط إلى الخليج، ومن الخليج إلى المحيط، والتي اهتزّت تحتها الأرض في إيقاع رقصة، لكائن مفارق يدور في مكانه. بينما زلزلَ الشريعي أرض الموسيقى العربية بمارش تصاعدي، عدواني، تصميمي، محارِب، لكيان يتحرّكُ في مسار خطّي محدَّد. لهذا كان الشريعي أقرب إلى الروح العربيّ، بما هو دائمًا وأبدًا مستقبليّ، ولهذا كله، وبناء على المعايير والتحليلات السابقة، يربح الشريعيُّ – في سياق الموسيقيين العرب المحدَثين، وبما حققه من حجمٍ حرِج للانتشار – لقب الموسيقار الكلاسيكي العربي على الأصالة، أصالة اللقب، وأصالة الموسيقى.
المراجع
١. زين نصار: الصيغ الغنائية في الموسيقي العربية، مجلة الفنون، عدد ٦٤، ١٩٩٧.
٢. كريم الصياد: معنى الموسيقى الكلاسيكية، في: كيف نستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية، مجلة مؤسسة معازف، لندن، ٢٠١٨.
٣. فؤاد زكريا: التعبير الموسيقي، مكتبة مصر، القاهرة، ٢٠٠٩.
٤. آيات ريان: فلسفة الموسيقَى وعلاقتها بالفنون الجميلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط١، ٢٠١٠.
٥. فيكتور سحّاب: السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة، دار العلم للملايين، بيروت، ط١، ١٩٨٧.
٦. كريم الصياد: إعادة بناء العلوم الإسلامية، في: فلسفة حسن حنفي، تحرير مصطفى النشار، دار نيوبوك، القاهرة، ٢٠١٧.
٧. كلمة الشريعي في برنامج العاشرة مساء يوم ١ فبراير ٢٠١١.
٨. Stravinsky, Igor, Poetics of Music in the Form of Six Lessons, trans. Arthur Knodel and Ingolf Dahl, Harvard University Press, Cambridge, 1947, 1947.
٩. Susanne K. Langer, Feeling and Form: A Theory of Art, developed from “Philosophy in a New Key”, Charles Scribner’s Sons, New York, 1953.
٩. أعمال الشريعي وخيرت وحواراتهما التليفزيونية، وأعمال كلاسيكية غربية.