معنديش وقت | دين

منذ أن بدأ دين (٢٢ سنة) بالراب عندما كان في الثانية ثانوي، سلك طريقًا صعبة وطويلة حتى وصل إلى مكانه اليوم. لأعوام، لم يستطع الانخراط في مشاهد الراب في مصر كونه يعيش في طنطا، وكون هذه المشاهد قد تمركزت في القاهرة إلى حدٍ بعيد، ما صعَّب عليه شد الانتباه والترويج لأعماله الأولى، والأكثر من ذلك الحصول على نصائح أو تحقيق تعاونات وجدها ضرورية لصقل وتحسين أسلوبه. منذ عامين تقريبًا، تخلى عن الإيقاعات المجانية على الإنترنت لصالح العمل مع منتجين صاعدين مثله، ثم انتقل إلى القاهرة العام الماضي، مقتربًا من مشاهد الراب ومبتعدًا عن جامعتِه، وبدأ منذ ستّة أشهر بالتسجيل في استوديو الرابر عبده القزاز (١٥ مايو، القاهرة) بعد أعوام من التسجيل في المنزل.

وسط سلسلة الجهود والتسلقات هذه، التي أكسبته بالفعل اهتمامًا متزايدًا كدعوة سايكس (من مجموعة الـ ٩٩) له للأداء في إحدى حفلات هايب، ثم تعاونه الأخير مع عباسكيات، وسط كل هذا، تعرضت قناة دين على ساوندكلاود إلى حملة تقارير مجهولة المصدر ليومين، انتهت بالحذف التعسفي لـ ٤٤ تراك من قناته، لم يستطع حتى اليوم استعادة أيٍ منهم. أصيب دين إثر الحادثة بإحباط دفعه للانقطاع عن الكتابة والتسجيل لسبعة أشهر  صدرت أغنيته الأخيرة قبل أربعة أشهر، لكنه سجلها قبل شهرين من الإصدار، وكتبها قبل شهر من التسجيل حتى عودته بـ معنديش وقت.

أتت فكرة التراك من المنتج المغمور كرايمِن Crymen، والذي لا يمتلك أي حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي أو منصات البث لتمثيله كمنتج، بل يتواصل مع الرابرز الذين يهمه التعاون معهم ويرسل إليهم بعض الإيقاعات على واتسآب أو فايسبوك. بعد عدة إيقاعات أرسلها كرايمِن لـ دين ولم تعجِب الأخير، انقطع كرايمِن لفترة، ثم عاد بإيقاع معنديش وقت، وبرسالة ملحّة تشجِّع دين على إنهاء انقطاعه الذي تجاوز نصف العام وقتها.

كونه هاويًا ويعمل خارج الاستوديوهات، جمَّع كرايمِن البيت الخاص به من عينات إيقاعية وسطر جيتار مكرّر من على الإنترنت، ما جعل البيت مسطحًا وجافًا بعض الشيء، ومتوقعًا على مستوى إيقاعات التراب النحاسية المعهودة، كونه يتكل بشكلٍ أساسي على العينات المتاحة على النت، والتي عادةً ما تكون مألوفة لدرجة تفقدها الشخصية. لكن بخلاف هذه المشكلة التي يعاني منها معظم الراب في مصر بسبب ضعف البنية التحتية، امتلك بيت كرايمِن شخصية ملفتة، فيها حس فَتي ودافئ قريب من أغاني الروك المستقل، وأسطر إيقاعية طويلة تشجِّع على السرد والانطلاق بأريحية أكبر من بيتات الراب التقليدية المتلاحقة بشكلٍ منهِك.

أثّرت طبيعة البيت على كلمات وتدفقات دين، الذي يكتب أغانيه دائمًا بعد سماع البيت وبالتفصيل عليه، فجاءت معنديش وقت يافعة حميمية، كلماتيًا وصوتيًا. حتى التدفقات جاءت على مقاس أسطر الجيتار الإيقاعية الطويلة، بشكلٍ سمح لدين بوصل كل ثلاثة بارات والتمهّل عند الرابع. هذه السلاسة والانطلاق في التدفق أكسبا الأغنية انطباعًا ارتجاليًا، وكأن دين كتبها على طريقة تيار الوعي المستمر Stream of Consciousness، حيث يخبرنا في كل لحظة بما يفكر به ويشعره خلال هذه اللحظة، حتى لو لم يكن الأمر كذلك.

“دين كنت فين؟ أنا كنت برة

نفس السؤال بيتكرر كتير بيخليني مضطر إني أبرر

مش محتاج أنزل محتاج إني أتمرن

الفترة اللي فاتت مجريتش ولا مرة

مع إني عنيد مدورتش على مخرج

وماسك في الراب زي آرثر وسيفه في الصخرة”

استفادت كلمات الأغنية من انقطاع دين الطويل عن الكتابة، لتأتي زخِمة ومنطلقة طبيعية. في البارات الافتتاحية السابقة وما تلاها، يتحدث دين عن سؤال متابعيه عن سبب انقطاعه ما دفعه إلى العودة بهذا التراك، وعن رغبته بالتمهل بإصداراته وصقل أسلوبه بشكل أكبر اعتبارًا من القفزة التي شهدتها مسيرته وسمعته مؤخرًا.

“دلوقتي جيه وقتي مبقاش عندي وقت إني أسجل الرقم

مبقاش عندي وقت إني أسجل الرقم (٣ مرّات)”

في اللازمة، يشير دين إلى كل المرّات التي قابل فيها رابرز ومنتجين وضليعين في مشاهد الراب في مصر، وحصل على أرقامهم ليتابع معهم لاحقًا طلبًا لنصائح أو تعاونات أو فرص للأداء أو الترويج، ويواجَه بكميات من التجاهل أو الاستهتار، حتى حقّق قفزته الأخيرة، وصار يركز على أعماله كي تروج لنفسها. الملفت في اللازمة هو إغراق التكرار الرابع منها بتأثير الريفرب وغنائه كصرخة صغيرة، بشكلٍ يقرّب التراك لحظيًا من اللوازم الشخصية المنفعلة للروك المستقل، ويعزز استثمار دين لإمكانيات بيت كرايمِن.

“تراكي بينزل زي أول يوم دراسة

العين عليا أكني في وسط راسك

مهما أغيب بتستنى تتعلم

مهما أسيب المجال باللي فيه

بتفضل تتكلم على رابي مع اصحابك

وناسي إن الراب اللي بيـ (دين)

ومع ذلك لما بتشوفني بتتقدِّم، بتقدَّم بتسلِّم، بسلم

بتقدَّم … بتجاوز بالجري السريع لقدام

(…)

وده شقا، بتكلم ع الأمل ورقبتي في مشنقة

من نسياني تتقطع دراعات التاريخ

ع الأرض وسامع عياط ع المريخ

بعوز أتكلم عنك كتير وأبان في حياتك

وأتمنى في نيازك، ببالغ

بس هالِك، وأبقالك، ده ضجر”

يلجأ دين في بعض بارات التراك إلى تلاعبات لفظية في تدفقه تجعل الاستماع إليها متعة تدفع المستمع إلى سحب التراك إلى الوراء لسماعها مجددًا، كما يفعل في مقطع: “بتتقدم بتقدم” أو “نيازك، ببالغ بس هالِك”. رغم أن بعض الأسطر تحمل سمة تبجحية خشنة بينما يحمل بعضها الآخر طابعًا منكسرًا ورومنسيًا بعض الشيء مثل الأسطر الأخيرة، إلا أن دين يجعل كافة هذه البارات متسقة باستخدامه صوتًا أكثر دفئًا وأقل خشونةً من أعماله السابقة، وإلقائه الذي يقع بين الراب والغناء، ولا أقصد بالغناء هنا كما في التراب الغنائي، بل بطريقة مختلفة أقل شيوعًا في الراب، تعرف الانسجام مع سطر الجيتار الهوائي المكرر في الخلفية.

عند مقارنة معنديش وقت بأعمال دين المبكرة، وإن كان علي أن أقوم بذلك في ذاكرتي كون الأعمال المبكرة محذوفة اليوم، تتضح تلك المسافة التي قطعها دين بعناد وإصرار، وخلال غابات التجاهل والإقصاء التي يتحدث عنها خلال التراك، ليقوم بكل ما في إمكانه وأكثر (كانتقاله إلى القاهرة) في البحث عن تعاونات وإمكانيات تسجيلية أفضل لدفع أسلوبه قدمًا. هذا العناد هو ما يفصل رابرز الـ لايف ستايل عن الرابرز الحقيقيين الذين يعطون للـ راب المصري اسمه، الذين يتعاملون مع الراب كلغتهم الثانية، ويجدون في علاقتهم مع الراب حتمية كعلاقة آرثر وسيفه في الصخرة.