تمرد الصوت الخام | لمحة من أثر ستيف ألبيني
أجنبي جديد

تمرد الصوت الخام | لمحة من أثر ستيف ألبيني

عمر غنيم ۲۰۲٤/۰٦/۱۰

جلست أستمع إلى ألبوم سرفر روزا لفرقة بيكسيز عقب معرفة خبر وفاة ستيف ألبيني، وتذكرت الفترة التي بدأت أتغوّل فيها في البحث وراء الموسيقى التي استمع إليها ومعرفة العازفين بأسمائهم؛ معرفة من لعب سولو الجيتار هذا ولاين الباس ذاك وكل هذه المعرفة الإضافية “النيردِيّة”. كنت وقتها في مرحلة اكتشاف موسيقى الروك البعيدة عن السطح، حيث فرق الأندرجراوند في مشهد الشوجيز ومجددي الروك البديل كسونيك يوث وذَ جيسَس ليزارد. كنت أشرع في جولات مطولة بداخل الإنترنت على مواقع مثل ريدت وريت يور ميوزك حيث يتواجد “النخبة” من السمّيعة حول العالم ويبدأون بالتبجح بمعرفة موسيقى أكثر غموضًا وآراء أقل شعبية. 

تذكرت حين رأيت بوستًا على أحد تلك المواقع يتحدث عن منتج موسيقي أنتج عديدًا من ألبوماتي المفضلة في ذلك الحين، لم أكن أفهم بالتحديد ما الذي يفعله المنتج الموسيقي، في خيالي كان أن هناك عازفين على الآلات ومهندسي صوت وكل ذلك بدا واضحًا، فما هي مهمة المنتج الموسيقي بالتحديد؟ ذهبت في مهمة بحث عبر الإنترنت بدافع الفضول ولأسباب ادعائية تمكنني من التباهي على أصدقائي في جلستنا القادمة، لأكتشف من هو ستيف ألبيني الذي أنتج كل تلك الألبومات التي تعتبر الآن كلاسيكيات في موسيقى الروك البديل وما حولها.

بعد دقائق من البحث، وجدتُ أن شخصية كهذه لا تتكرر. شخصٌ يتوسل إليه أعضاء أشهر فرقة في العالم في ذلك الحين، نيرفانا، لإنتاج ألبومهم، فيرد على طلبهم في خطاب من أربع صفحات يضع فيه شروطه الخاصة للقيام بالمهمة، هو أحد اثنين: رجل يثق تمامًا في قدرته على صنع موسيقى جيدة أو شخص أحمق بالكامل. ستيف بالتأكيد لم يكن الأخير. ليس هذا فقط، ففي إنهائه ذلك الخطاب بجملة “إذا استغرقت صناعة هذا الألبوم أكثر من أسبوع فهناك أحد يرتكب خطأ فادحًا” جرأة مدهشة، لكن ليست غريبة على الإطلاق على شخصية ستيف ألبيني التي يمكن وصفها بأنها تجسيد حقيقي للبانك.

أنتج ستيف ألبيني آلاف الألبومات لمئات الفرق والموسيقيين، بعض تلك الألبومات غيرت في شكل صناعة موسيقى الروك بشكل ملموس وأعادت تعريف حِقب موسيقية كاملة. قليلون جدًا من يمكننا الحديث حول تأثيرهم على صناعة الموسيقى على هذا النحو خاصة ممن هم خلف الكواليس، فلم يكتسب ألبيني شهرته كجيتاريست او مغني، بل كمنتج موسيقي ذي مكانة أسطورية ومهندس تسجيل فريد من نوعه.

لم يسعَ ألبيني نحو الكمال في طريقته التسجيلية، بل كانت للروح والصدق الأولوية. كان هو الرجل الذي يلجأ إليه كل من يعنيه أن يكون جادًا في موسيقاه، فينصاع لشروطه الخاصة ويتحمل نقده القاسي. الرجل الذي قال عن بيكسيز – أساطير الروك البديل – الذين تعاون معهم كثيرًا أنهم “مجموعة قرود”، لا يأبه بشهرة أو مكانة أي فنان، بل يريد فقط صناعة موسيقى جيدة، صادقة وعابرة للزمن والترندات المؤقتة.

فضّل ألبيني وصف مهندس تسجيل على وصف منتج – الذي اشتهر به – وكان يرفض أن يأخذ حقوق ملكية من الألبومات التي أنتجها. كان فقط يتقاضى أجرًا مقابل عمله لمرة واحدة فقط، وهو شيء غير مألوف في صناعة الموسيقى، فالسائد أن للمنتج حقوق تعود عليه طالما استمر الألبوم بتحقيق مكاسب مادية ومعنوية أيضًا. كان يرفض ألبيني حتى وضع اسمه على الألبومات التي أنتجها، مبررًا أن ذلك يعتبر بمثابة إهانة للفنانين.

بدأ ستيف ألبيني الذي ولد في كاليفورنيا حياته الموسيقية في ولاية مونتانا أثناء فترة المدرسة الثانوية عندما قدمه أحد أصدقائه لفرقة البانك الشهيرة رامونز، وانطلق هوسه بالبانك روك من هنا عن طريق فرق مثل سكس بيستولز، بير أوبو، ديفو وغيرهم من الفرق المعاصرة. كان ألبيني بانك روكر بالمعنى الحقيقي، وامتدت روح البانك هذه في شخصيته التي ظهرت في مقالات ومقابلات وتصريحات صادمة ونقد حاد لصناعة الموسيقى. 

التقط ستيف آلة البايس جيتار في مراهقته أثناء فترة تعافيه من كسر في الرجل، وبدأ بعدها بتكوين فرق بانك مختلفة واللعب في أخرى حتى انتقل إلى ولاية إلينوي لدراسة الصحافة في إحدى جامعات الولاية، وهنا بدأت مقالاته في فترة الجامعة في إحدى الصحف المحلية بلفت الانتباه إليه وإثارة الجدل حول مشهد البانك في المدينة.

لم يتوقف ألبيني عن النقد خلال مسيرته، كان شيئًا يفعله بشكل تلقائي وطبيعي، في الاستوديو أثناء التسجيل أو في المقابلات أو في مقالاته، دائمًا سيقول ألبيني شيئًا متمردًا وسيكون ساخطًا على شيء ما، أكثرهم بطبيعة الحال هي صناعة الموسيقى ذاتها وشركات التسجيل الكبرى التي نالت الحظ الأكبر من النقد المدفوع بالكراهية والغضب.

قال ألبيني في مقال المشكلة في صناعة الموسيقى الذي نشر في مجلة ذَ بافلر عام ١٩٩٣ “كلما تحدثت إلى فرقة على وشك التوقيع مع شركة تسجيل كبرى، أجد نفسي أفكر فيهم في سياق معين. أتخيل خندقًا، عرضه حوالي أربعة أقدام وعمقه خمسة أقدام، ربما طوله ستين ياردة، مليء بالبراز السائل المتحلل. أتخيل هؤلاء الأشخاص، بعضهم أصدقاء جيدين، وبعضهم بالكاد معارف، في نهاية هذا الخندق. كما أتخيل موظفًا مجهولًا من الصناعة في النهاية الأخرى، يمسك بقلم حبر وعقد ينتظر التوقيع.”

لأسباب مثل هذه اتخذ ألبيني فلسفته الفريدة في صناعة الموسيقى، الابتعاد عن الشهرة ورفض الصناعة في صورتها الأكبر، وصناعة موسيقى بانك في جوهرها، حتى لو ابتعدت عن العناصر الصوتية التي يعرف بها البانك روك أحيانًا، موسيقى متمردة لا تطمح لإرضاء مستمع الروك العادي، تقبع متعمدة في محيطات الأندرجراوند وترفض الخروج منه. إذا حدث وان اكتسبت الموسيقى شهرة نسبية، ينهار المشروع غالبًا بقرار من ستيف ويبدأ بتكوين فرقة أخرى. 

كوّن ستيف ألبيني العديد من الفرق منذ مراهقته، وكلها اتبعت منهجيته الصارمة في الابتعاد قدر الإمكان عن الشهرة ورفض عقود الشركات الكبيرة، بل صناعة موسيقى لا تجعل شركات التسجيل مهتمة أصلًا بتوقيع صناعها، سواء كان ذلك عبر تسمية الفرق بأسماء مضطربة ومثيرة للجدل يستحسن عدم التورط معها، كفرقة رن نيجر رن أو ريب مان، أو عبر صناعة موسيقى حادة، صاخبة ومتمردة تتناول مواضيع تجعلها من المستحيل أن تتواجد على قوائم الاستماع.اعتذر البيني فيما بعد عن تلك الأسماء وصرح أنه يشعر بالحرج منها الآن.

أسس ألبيني فرقته الأشهر بيج بلاك أثناء فترة دراسته في الجامعة في ولاية إلينوي، وبطبيعة الحال اتبع أعضاء الفرقة منهجية ألبيني، فانتقدوا بشدة الطبيعة التجارية لموسيقى الروك، وتجنبوا صناعة الموسيقى السائدة وأصروا على السيطرة الكاملة على جميع جوانب مسيرتهم. كانت الفرقة تحجز جولاتها الخاصة، وتدفع ثمن تسجيلاتها، وترفض التوقيع على العقود، وتتجنب العديد من المظاهر التقليدية لفرق الروك. اتبعت حتى موسيقى الفرقة نفسها فلسفة مشابهة.

تكونت الفرقة من ألبيني كمغنٍّ ولاعب جيتار، وسانتياجو دورانجو وجيف بيزاتي على الجيتار والبايس، واعتمدت الفرقة على الدرَم ماشينز عوضًا عن وجود درَمر. كانت موسيقى بيج بلاك عدوانية وصادمة، تتميز بجيتارات صاخبة ومدوية، وكانت مواضيع الكلمات محملة بتابوهات سياسية وثقافية بما في ذلك القتل والاغتصاب والاعتداء الجنسي على الأطفال والعنصرية.

جعلت موسيقى الفرقة وفلسفتها من أعضائها أساطير في مشهد الأندرجراوند في شيكاجو، وصولًا إلى الانفصال الذي حدث في أوج شهرتهم. أصدرت الفرقة ألبومين في فترتهم بين ١٩٨١ – ١٩٨٧ هما أتومايزر في ١٩٨٦، وسونجز أباوت فاكينج الذي صدر عقب إعلان الفرقة عن انفصالهم. قال ألبيني عن سبب انفصال الفرقة أنه “من الأفضل أن ننفصل على أن نتحول إلى عرض روك ضخم آخر.” بعد بيج بلاك، أسس ألبيني فرقة ريب مان التي انفصلت سريعًا بعد سنة واحدة، ثم أسس فرقة النويز روك شيلاك التي استمرت حتى وفاته.

زيادة على فلسفته الموسيقية في الفرق التي لعب فيها او أسسها، السبب الأكبر في شهرة ألبيني كان هو عمله كمهندس تسجيل في النصف الثاني من مسيرته الموسيقية. كانت أساليب تسجيله فريدة وخاصة به فقط، تقنيات ثورية وتقليدية في الوقت ذاته، وهو ما كان يجذب كل تلك الفرق والفنانين للعمل معه. يمكن وصف استراتيجيته في التسجيل بأنها بسيطة بشكل خادع، فهي تتجنب التعقيد غير الضروري والتلاعب الزائد، وتركز على الصوت الخام والطبيعي، مبتعدة عن إضافة تأثيرات صوتية كثيفة. يمكننا التعرف فورًا على إنتاج ستيف ألبيني الذي لا لبس فيه على أي أذن، سواء كان ذلك في صوت الدرامز البعيد والصاخب، تسجيلات الجيتار الجافة والحادة، أو الريفرب الذي يتم إضافته بعوامل طبيعية بدون مؤثرات. يتضح ذلك في ألبومات مثل ذَ ماجنوليا إلكتريك كو لـ سونجز: أوهيا، وأيقونة الألتيرناتيف روك ريد أُف مي لبي جاي هارفي.

يقول البعض إن ألبيني هو أفضل من التقط صوت الدرامز على الإطلاق، وهنا قد تتفق أو تختلف، ولكن الذي لا شك فيه هو أنه عند سماعه لن نتردد مرتين في التعرف عليه ولأسباب واضحة. أسلوبه المميز في تسجيلات الدرامز كان في استخدام ريفرب طبيعي لجعل صوتها يبدو كما لو كنت مع الفرقة أثناء التسجيل. كان يجري التقاط ذلك الصوت عبر استخدام الكثير من الميكروفونات في غرف ذات صدى محكم، وبعوامل طبيعية مثل الحمامات المبلّطة. جرى تسجيل الدرامز في ألبوم إن يوتِرو لنيرفانا على سبيل المثال باستخدام ما يقرب من ٣٠ ميكروفونًا في مطبخ الاستوديو. آمن ستيف ألبيني أن وجود درامر ممتاز هو العامل الأساسي لكي تتكامل جميع الأمور الأخرى في الفرقة.

كان ألبيني خبيرًا في شيء مبهم بعض الشيء وهو: التقاط صوت الفرقة كما هو. وصف ألبيني تلك الطريقة بأنها “تسجيل فرقة ما في غرفة”، السهل الممتنع. ليس هناك فذلكة غير مبررة أو تعقيدات تقنية وتأثيرات تحجب صوت الفرقة الخام، كل شيء يتم بطريقة أنالوج. كره ستيف طرق التسجيل الرقمية، كما كره التسجيلات المنفردة (أن تسجل كل آلة على حدة)، يجب أن تكون الفرقة حاضرة كلها في الغرفة ذاتها وكل يؤدي دوره في آن واحد. ألبوم سرفر روزا علي سبيل المثال هو أفضل ما يمثل ذلك الوصف، الجيتار الصاخب والحاد الذي تشعر بأنه يلعب في أذنك مباشرة، البايس الخشن والدرامز المشبعة بالريفرب الطبيعي. 

قام ألبيني بهندسة ألبومات يتردد صداها حتى اليوم، موسيقى خالدة دفعت حدود جنرات موسيقية كاملة وعرفت حِقب من تاريخ الروك، وأثرت فيما تلاها وحاول الكثير من معاصريها التقاط صوت ألبيني الخام والصادق، من نيرفانا إلى سَن أو))) ومن بيكسيز وبي جاي هارفي إلى روبرت بلانت وجيمي بايج، مرورًا بالكثير من الفرق التي تتراوح شهرتها بين أساطير في الأندرجراوند أو فرق مجهولة تمامًا تريد أن يكون أول أعمالها من تسجيل ستيف ألبيني الذي كان علامة على صدق الموسيقي وجديتها. 

تحول ألبيني إلى أسطورة في تاريخ الروك للأسباب الصحيحة والخاطئة. سنجد أكثر ما يوصف به من معاصريه وموسيقيين عملوا معه بشكل مباشر أنه متمرد، مثير للجدل وعبقري. في حياته، كان ألبيني بانك روكر حقيقي، سواء كان ذلك عبر صناعة موسيقي مليئة بالجيتارات الصاخبة وساخطة على المجتمع في مواضيعها وناقدة سياسيًا، وهو ما فعله خلال مسيرته الأدائية في الفرق المختلفة؛ أو في نقده لصناعة الموسيقى التي كان يرى أنها تسلب الفن قيمته وتستغل الفنانين؛ أو في كرهه لطرق التسجيل الحديثة والسامبلينج وحتى الهيب هوب والموسيقى الإلكترونية، أو في مقالاته وآرائه المتمردة والصادمة دائمًا.

لا يمكن تلخيص ما قدمه ألبيني في مسيرته الموسيقية في مقال واحد أو حتى بضعة مقالات. في النهاية سأترك قائمة لبعض من أفضل أعماله يمكن من خلالها التعرف على موسيقاه. *عذرًا مرة أخرى ستيف، أعرف أنك كرهت سبوتيفاي ومنصات الاستماع الحديثة.

المزيـــد علــى معـــازف