fbpx .
ما بترحل حناجركم | كيف نطرب لـ صوت المقاومة

ما بترحل حناجركم | كيف نطرب لصوت المقاومة

يسر شعراوي ۲۰۲٤/۰٦/۰۸

“يداك خمائل

 ولكنني لا أغني

ككل البلابل 

فإن السلاسل 

تعلمني أن أقاتل 

أقاتل … أقاتل” ~ محمود درويش

لطالما تساءلت هل يعرف الطير أنه يغني؟ إن كان الغناء والموسيقى في الوعي الإنساني جزءًا من تسامي الروح، فإن الطيور جُبلت على الغناء لإبقاء نوعها. الغناء بالنسبة للطير نوع من الأمان الوجودي؛ وطريقة لتفاعله مع العالم. تغني الطيور لسببين: إما للتزاوج أو الدفاع عن أعشاشها. يمكننا أن نقول إذًا بدون رومانسية أن الطيور تغني للحب والوطن؛ ويحافظ كلاهما على الحرية والشعور بالذات والبقاء. 

أنا هنا لأتحدث عن هذا النوع من الناس، الذين يغنون مثل الطيور، لشيء يتجاوز جماليات النغم؛ مَن لا يدّعون الغناء، بينما يغنون عن الحب أو الدفاع عن الوطن لأن الغناء سبيلهم الذي جُبلوا عليه، ولا غرو أن ما يقع فينا من طرب لا يكون إلا بالمعايير التي تفرضها أغنياتهم. تجعلنا هذه المعايير نطرب من الصوت المبحوح كما نطرب من العندليب، ثم تنسل إلى منظورنا وتجعل لهذا الصوت معان أكثر حميمية من عمومية الطرب الجماهيري. يمكننا أن نسمي هذه الحالة طربًا سياسيًا، ومُسيّسًا بإذعان العام للخاص.

اعتمدت الموسيقى على الغناء في بادئ اكتشافها، فكانت الآلات الموسيقية مكرسة لتعزيز نظم ونغم الصوت البشري إلى أن استقلت عنه. يرى ريتشارد فاجنر أن الموسيقى غامضة ومفتوحة على التأويل و”ليس لها معانٍ واضحة”، وبالتالي يتفاوت تلقي الموسيقى فيما بيننا أفرادًا وجماعةً، لذا ترتبط بما يُصاحبها من الشعر ليتّضح ما ترمي إليه. أما الطرب عمومًا، كما يعرفنا فؤاد زكريا، هو ما يبعث في الإنسان انفعالًا؛ ويزيد الناقد فادي العبد الله أن ردود الفعل في لحظة الطرب ذاتية، ومنها ما يمكن أن يتفشى في الوعي الجمعي في الآن ذاته. أتأمل هنا السحر الكامن في لحظات الطرب، والنابعة من السياق الذي أنتجت فيه الأغنية، وأسميه طربًا مسيّسًا لما فيه من انفعال ناتج عن الغناء بوصفه فعلًا وأداء سياسيًا.

يقول المخرج والمسرحي غسان جباعي أن “هناك فرق بين مصطلحات كالفن والثورة والفن الثوري وثورة الفن.” أحيل هنا للفن الثوري – أي الفعل السياسي المشتبك. ليس فنانو هذه الأغنيات بالضرورة مغنين بالأصل، إنما يعكس اختيارهم لهذه الوسيلة طبيعة الموسيقى التي ينتجونها وعلاقتهم بها. نصغي في لحظات غنائهم التي تتعدى فعل الغناء والإنتاج الموسيقي، ونتفكر في أصدائها الأوسع من كلماتهم وحتى جماليات الصوتيات. يتميز هؤلاء بأن الجمهور الأول لإنتاجهم ليس الجمهور العام، بل عناصر في ساحات الاشتباك: الرديف أو الخصم أو السلطة. يغنون من كل قلبهم نداءً وتشجيعًا وتنديدًا ونواحًا، ومن ثم فإن لحظة إنتاجهم للأغنيات هي لحظة مشتبكة وهي نفسها لحظة المقاومة.

الفن المُشتبك

كان للثورات وحركات التحرير دورٌ في النهوض من كبوات موسيقية؛ إذ كان يعبّر الناس عن أحلامهم وحكاياهم من خلالها. في خضم ثورة ١٩١٩، صدحت أصوات المصريين بالهتافات المسجوعة. إبانها ازدهرت الطقاطيق والمونولوجات التي تناقش ظواهر اجتماعية وسياسية، على يد سيد درويش في مصر وعمر الزعني في لبنان، وقد ذاع صيتها جماهيريًا حتى باتت أداة للتعبير عن الهموم الشعبية للطبقات دون المتوسطة وفئاتها العمالية المختلفة. كان رواجها فنًا حديثًا واجه الانتقادات الواسعة من الطبقات العليا كتاب المصريون العاديون لـ زياد فهمي

لهذا النوع من الأغاني أشكاله المختلفة عبر الحِقب، إذ يأتي بمعايير جديدة أهمها أنه يجتذب الحميمية الشعبية التي تعبر عن اللحظة الراهنة للمستمعين، وليس عن السلطة المهيمنة أو المنتجة، خصوصًا إذا تأملنا مقاصد الناس أو حتى لهجاتهم المحكية بألفاظها ودلالاتها.

مع ذلك، نعت الفن بالمقاومة أمر مبهم بالنسبة لي، إذ لا يكون الفن مقاومة دون أن نؤول منه ما يمثّل المقاومة. يُقصر دور الفن عادةً على المتعة المجردة وربما المحايدة، لكن حينها لا شك أنه عاجزٌ إزاء الضيم، بل سيُنسب لأهل الترف ولا محل له وقت الاشتباك. الفن المشتبك والمتورط هو المقاومة. حتى الفن المجرد من السياسة ليست السياسة هنا بمعنى علاقة الحاكم بالمحكوم في ماهيات الحوكمة، بل أرمي إلى علاقات القوة وموازينها أجمع التي يمكن أن تكون بين الفرد وقرينته إزاء العرق أو النوع، ويمكن أن تكون الهوية الشخصية أو العلاقات والتراكيب الاجتماعية، فكل ذلك وغيرها من علاقات يتخللها موازين القوة تندرج في السياسي. يقاوم بطريقة غير مباشرة، بمجرد أن صار أداة لمقاومة النقيض القبيح، أي أنه يناهض قبحًا أو عنفًا أو بطشًا. ربما هكذا يصبح الفن هاهنا مقاومة في وجه الركود بقدر إمتاعه ومؤانسته، لكنها مقاومة غير مشتبكة.

في عصرنا حاليًا، ما زالت تستخدم المقاومة الفلسطينية بكل أطيافها الأغاني للتأكيد على مقاصدهم وإلهاب الحماسة في الموالين وحشدهم كأغاني الجوقة العسكرية لكتائب المقاومة في غزة، وكتائب جنين وعرين الأسود في الضفة. على سبيل المثال أغنية آتون بطوفانٍ هادر كانت أغنية احتفالية حركة حماس قبل قرابة عام من تنفيذ كتائب الشهيد عز الدين القسّام لطوفان الأقصى، وكان عنوانها هو شعار الذكرى الـ ٣٥ للحركة. تناولوا في الأغنية قضية الأسرى وخطابات خالد الضيف، القائد العام لكتائب القسّام الذي صرّح وقتها بأنهم “سيجدون طريقة أخرى لتحرير أسرانا”. غنى الأغنية الأسير رمزي العُك ابن بيت لحم الذي سكن في غزة بعد تحريره من أسر دام ١٤ عامًا في سجون الاحتلال الصهيوني.

“آتون بطوفانٍ هادر

آتون كإعصارٍ ثائر

آتون زحوفًا للمسرى

وأسودًا في الحربِ كواسر”

ثم بعيد ٧ أكتوبر، أعيد نشر أغنية حدود النار للجوقة العسكرية لكتائب القسّام كأنها تسرد أحداث غلاف غزة.

“من فوق الأرض وتحتها 

من لجج البحر وجوها

من خلف خطوط عدوها

هبت كما الإعصار”

الغناء تحت وطأة الاشتباك

عن وصف لحظة الإنتاج بلحظة مقاومة يعني بأنها وليدة السياق المشتبِك، أي تقف في مواجهة مباشرة وصريحة مع قوة مهيمنة تمثلت تاريخيًا في الاحتلال أو السلطة. ليس التركيز هنا على موسيقى التعبير والتضامن والحداد والتأثير. ليست موسيقى عن المقاومة أو معها، بل من خلالها؛ وليست التي تنتج خارج هذا السياق. كما غنّى سميح شقير ووصفي معصراني ويحيى حوى للثورة السورية من المنفى، أو ما يُغنى عن النضال الفلسطيني بصوت ريم بنا وأحمد قعبور ومارسيل خليفة، وغيرهم كثر ممن ينشبون وهج القضايا فينا إلى اليوم. 

لأغاني الاشتباك بعد ميداني، وهي ظاهرةً اجتماعيةً وفنيةً. إن الغناء عن المقاومة، وليس من خلالها، هو النوع الأشهر الآن، إذ عرفناه في لحظة أشمل وأعم فيها ميزة الخيال وتراكم الذكريات، وبالأحرى تقنيات الإنتاج والتوزيع. بينما الغناء المشتبك شاهد على اللحظة ومتورط في حيثياتها، يتشكل من دقائق اللحظة المكانية والزمانية، ولا يستعيدها من ذكراها، بل يشتبك مباشرة مع الأحداث التي أنتج لأجلها حتى، سواء اتكأ على التكرار أو التصريح أو التورية.

من الأمثلة على الأغاني التي ولدت من لحظات الاشتباك الملولة أو الترويدة، والتي ألفتها الفلسطينيات وغنينَها لتمرير رسائل خاصة للأسرى وأهاليهم، وإلى الفدائيين إبان الانتداب البريطاني، وهي أغنيات تُغنى بكلمات مشفرة عن طريق إضافة حرف اللام لكلماتهم بقصد أن لا يفهمها المستعمر آنذاك الذي عرف بعض العربية. كذلك أغنية يا ظلام السجن خيم، كتبها الصحفي نجيب الريس في أثناء سجنه في جزيرة أرواد على مقربة من مدينة طرطوس عام ١٩٢٢، وكانت ترمز إلى حركة المقاومة الوطنية في ظل الانتداب الفرنسي. كما كانت الأغاني في أثناء أزمة السويس في مصر وسيلة لتناقل الأخبار لأهالي المهجرين في مدن وقرى أخرى، وكانت تقام الحفلات لحفظ واستمرار تناقل أخبار الحرب بعيدًا عن الإذاعة الرسمية. يضاف إلى ذلك الأهازيج أو الأناشيد الموطدة بالاشتباكات والثورات والمقاومة بأشكالها عمومًا، معبرة عن شعارات أطراف القضية وتنافرهم.

“يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار

بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح

ما بدي منكي لللكم خلعة ولا لالالا لابدي ملبوس

بين للل يامان يامان”

تحت وطأة الحرب أو الثورة، يكثر الإنتاج الثقافي عمومًا؛ ما يميز كل فرقة عن ما تناهضه. من الأغاني ما أنتج باشتباك مباشر، أو استدعي في الاشتباك المباشر في وجه آلات دامية. ليس هذا النوع جماهيريًا، لكنه يصبح كذلك بعد فترة والأمثلة تطول، كأغاني ثوار إستونيا ضد الروس، وأغاني الإيطاليين ضد الفاشية والكوبيين ضد الاستعمار. 

كحال الانتفاضات الشعبية عمومًا، يشغل الثوار الفضاء العام بشتى الطرق تعبيرًا عن السيادة الشعبية، وكانت من ضمن أساليب التعبير التي اكتسحت شوارع تونس ومصر أيام ٢٥ يناير وصاحبت احتشاد الميادين هي الرسم والكتابة على الجدران العامة. بينما راقب بعض يافعي درعا هذه المشاهد، كتبوا على جدران مدرستهم عبارات تطالب بالحرية وإسقاط النظام، وكان أشهرها أنشودة إجاك الدور يا دكتور. لم يمض يومان وكانت قوات الأمن السورية قد داهمت مضاجع هؤلاء الأطفال وأسروهم، ومع اختفائهم عدة أسابيع خرجت الأهالي بقيادة الوجهاء من عشائر درعا ذات الحميّة البدوية في الجنوب السوري صوب الأمن السياسي للاحتجاج على اعتقال أغلى غواليهم. ذيع أن رد الأمن السياسي عليهم كان: “اذهبوا وأنجبوا غيرهم وإن عجزتم أحضروا نساءكم وسنتولى الأمر.” عندها أطلق الفنان سميح شقير أغنيته يا حيف غنى سوريو المهجر للثورة كأغنية يا سوريا لا تسجلينا غياب لخاطر ضوا، كما سميح شقير ووصفي معصراني ومالك جندلي الذين انتصروا لثورتهم من خلال الأغاني التي استلهموها من ما أنتج داخل سوريا. بُعيد اندلاع التظاهرات في درعا، وقمع النظام لها بالرصاص الحي، وسرعان ما وصلت الأغنية لثوار درعا ولبثوا يغنونها في تظاهراتهم التي نشبت في أنحاء حوران، ومن ثم إلى المدن السورية المختلفة. تحكي هذه الأغنية كيف اتقدت شعلة الثورة من درعا: 

“زخ رصاص على الناس العزّل يا حيف 

 وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف 

وانت ابن بلادي

 تقتل بولادي 

وظهرك للعادي 

وعليي هاجم بالسيف”

مع أن الأغنية لم تولد في الشارع، لكن كانت علاقتها وطيدة بالميادين التي انتشرت فيها، وسرعان ما تورطت بعلو غنائها في انتفاضات الريف الدمشقي والغوطة المحيطة بعد درعا. ما يميز هذا النوع من الأغاني أنها تحرر الموسيقى والصوت الشعبي بشكل عام من تكبيل السلطة المهيمنة. ربما كذلك ألهمت الثوار لغناء وقائعهم وشعاراتهم وهتافاتهم في أناشيد وأهازيج ومواويل تعبر عنهم بعيدًا عن فيض الإنتاج الوطني الذي لا يمثلهم. ارتجل السوريون شعاراتهم على نغم العراضة والقدود، واستفادوا من هذه الاستعارات أنها كانت على الألحان المألوفة مما سهل شيوعها. كانت معظم الأغاني المرتجلة التي أنتجت أكثر حميمة وتعبيرًا عن المتظاهرين، بل ومنافسة للأغاني ذات الشعارات المطأطئة للسلطة.

لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم 

في آخر زيارة لي لسوريا قبل الثورة، أخذنا خالي إلى مطعم بمدينة حُمص، وكان اسمه جنة حُمص لا أعرف ما آل به الحال الآن، ولا أذكر منه إلا القليل، وكلما أردت استعادة هذه الذكرى أسمع “يا رايحين عَ حلب حبّي معاكم راح / يا محملين العنب تحت العنب تفاح” أغنية عالروزانا، وهي فلكلور مختلف على أصله. بصوت صباح فخري الذي كان عالقًا في المطعم. كنت أنكر بامتعاض جمال سوريا كلما ادعى أولاد خالي أن وطنهم أجمل من وطني. اليوم بعد أكثر من ثلاث عشرة سنة وثورتين ثورة ٢٥ يناير في مصر و١٥ آذار في سوريا ٢٠١١. وأغنية، أستدعي جمال حمص بل وحقيقتها، لا بما شهدته، بل من تلك الأغنية التي مرت علينا كأنها فلكلور جديد يستدعى مخيال سوريا الثورة: جنة جنة جنة، بصوت الشهيد عبد الباسط الساروت. 

تنسب الكلمات أصلًا للشاعر الراحل كريم العراقي – غناها سالفًا ابن الرقة أسعد الجابر، وقبله في ثمانينات القرن الماضي الفنان العراقي رضا الخياط. غنى الساروت اللحن بكلمات مختلفة، واشتهرت بين السوريين بصوته منشدًا أشطارها ببحة صوته الأجش، كأنه تحرر بحنجرته محلقًا من درعا إلى القامشلي، مارًا على كل المدن السورية الذي هتف لها برسائل حماسية ألهبت الصفوف، وما زالت تدوي في الخامس عشر من آذار في الذكرى السنوية لاندلاع الانتفاضات.

ذاع صيت الساروت من حمص، لاعب كرة القدم وحارس مرمى فريق شباب الكرامة، والذي لُقب فيما بعد بحارس الثورة. كان عمره ١٩ عامًا عند بدء المظاهرات. حاولت السلطة اغتياله وكان هدفًا صعبًا، إذ فشلوا في اغتياله ثلاث مرات، وأعلنوا جائزة مالية كبرى لمن ينجح في قتله. ظهرت موهبته في الغناء وتأليف الكلمات التي ولدت وحكت أحوال الميادين، وكان منها ما يعيد الأنغام التراثية، ومنها ما استلهم من الأهازيج والأناشيد ميزة التكرار، التي ترتبط بالفعل الثوري أثناء التظاهر للتأكيد والتنديد على السردية الخاصة بالثوار، وإسماع الطغاة.

كبر الساروت أمامنا، وكانت مسيرته شاهدة على الثورة وتطورها، فتطور معها، وحمل السلاح أعوامًا في صفوف الثوار مورطًا شخصه في قضيته، إذ رفض مساومة موقفه كلاعب كرة قدم شهير مقابل مبادئه، فحُمل على الأكتاف كالأبطال فضلًا عن حارس في نادي الكرامة، وقاد هتافات مختلفة، منها ما كان بجانب الفنانة الراحلة فدوى سليمان للتعبير عن وحدة الشعب السوري وتعددية ثورته. صاحبت أغاني الساروت سيرورة الثورة التي شهدها، فبعد أغنية حانن للحرية حانن، يا شعب ببيته مش آمن وجنّة جنّة جنّة، ولما حوصر في حمص غنى لأجل عيونك يا حمص، ولاحقًا أغنية يا يُمّا بثوب جديد زفيني جيتك شهيد، حين دنى أجله عام ٢٠١٩.

إن الجيل الذي كبر في كنف أهل ترعرعوا وقت الحروب والخوف، كسر هذا الحاجز، وبات هناك وعي جمعي يستدعي هذه الأغنيات بسياقاتها ومقاصدها. تغدو الصورة الجديدة نامية في أذهان الموالين للثورة – وينمو الحنين إلى المقاصد فيهم بها. في رأيي، هذا الحنين وإن كان مستعارًا لمن لم يشهد الثورة، فإنه ضرب من ضروب المقاومة إزاء كل محاولات النسيان والقمع والتهجير والدموية التي دفنت عمدًا البدايات الثائرة. 

هذا المخيال الجمعي مهم جدًا، على الأقل، ما هُدم ومات ميدانيًا سيعيش ولو في الذاكرة، والذاكرة لمقاوم هي عتاده الخصب لبقاء قضيته. في هذه الأغنيات عرّف الثوار أنفسهم وآمالهم ومعان جديدة للجنة وللوطن وللحرية، ومآرب أُخرى. هكذا كبر أبناء جيلي على معايير جديدة للأغنية الوطنية – الأكثر اشتباكًا وتورطًا، فغدونا لا نسمع إلا أقرانها من الأغاني – كسميح شقير ووصفي معصراني، أو أغنية وأني طالع أتظاهر التي رددها الثوار بلهجتهم البدوية في حي دير بعلبة في حمص. لم تكن هذه الأغاني ترديد شعارات أو نواح، بل كانت أغاني غاضبة، تحث على انتزاع الحرية، وتتعامل مع الهزيمة بلغة واضحة، إذ تسمّي البطل وظالمه.

“وأني طالع اتظاهر / ودماتي بإيديا

وإن جيتك ياما شهيد / لا تبكين عليا 

حنا أبناء الوطن / أبنائك سوريا

وما تفرق بينا المحن / سنة وعلوية”

برز في صفوف ثوار سوريا أصوات أخرى مثل أبو ماهر صالح من الغوطة الشرقية، وأحمد القسيم من حوران وقاسم الجاسوس من إدلب، وأبو مالك الحموي وإبراهيم القاشوش في حماة، كذلك أبو الجود الحلبي وعبد الوهاب الملا من حلب. بعضهم كان يؤلف الأغاني، ويلحنها أو يستلهم من التراث الشعبي والقدود والمواويل والأهازيج بكلمات تعبر عن مطالبهم وشعاراتهم. شهدت ساحة العاصي في حماة تظاهرات حاشدة صدحت بأهازيج إبراهيم القاشوش، والتي عُرف من خلالها بارتجال الأغنيات وسط زحام المتظاهرين. كان أشهر ما نُسب إليه أهزوجة يلا ارحل يا بشار، إذ دفع القاشوش حياته ثمنًا لإعلاء صوت الثورة في أغنياته عندما رددت جموع المتظاهرين هتافاته. قيل أنه لقي حتفه بصورة بشعة حين اختطفته السلطات، وألقت جثته ذات صباح في نهر العاصي – بعد ما كانوا قد حزوا رقبته واقتلعوا حنجرته.

من فلسطين إلى سوريا ومصر وحتى اليمن والسودان وكل ميادين الاشتباك، يصبح الفن أداة للمقاومة عندما يكون وعاءً لمعانٍ تناهض هيمنة سياسية واجتماعية تحاكي موازين القوة في شكله أو مضمونه. لا يكون ذلك إلا بتأويل محتوى العمل الفني بما يُراد به سرد أو محاكاة أو تعريف جديد لما هو جامد في الوعي الجمعي. تنتشل المقاومة مكامن الركود في الوعي الجمعي، وتخرجه من كبوته، وفي هذه المساحات تتفاوض المقاومة على الخطاب الذي يتم إنتاجه وتصديره، سواء كان سياسيًا أو فنيًا أو ثقافيًا. لن تهزم الكمنجة البارودة، ولا حتى نستطيع وضعهما في الخانة نفسها، لكن ثمة شدو من حناجر مقاومين يبيّت شوكًا في حلوق الطغاة. إنه الغناء لنوع من أنواع البقاء. بدون الاشتباك، أو التورط بأشكاله ودرجاته المختلفة، لا يغدو الحديث عن الفن بوصفه مقاومة مجديًا.

المزيـــد علــى معـــازف