fbpx .
بحث | نقد | رأي

كانت معكم نهاوند، ولكنكم تحبون الكفار

نور عز الدين ۲۰۱٦/۱۱/۱۸

على حافة رصيف جلست سيدة جميلة تنظر بخوف إلى شوارع ساو باولو. انتظرت لساعات الفرقة التي أتت برفقتها من لبنان، ثم أيقنَت أن الفرقة لن تعود، وأن عليها أن تواجه مصيرها وحيدة، دون نقود أو مبيت أو حتى بضع كلمات برتغالية.

هي نهاوند التي غنت منذ طفولتها وحتى آخر أيام حياتها. معظم من سمعها لا يعرف شيئاَ عن غياباتها التي كان آخرها لـ ١٥ عاماً، وعن عودتها الأخيرة، والبطيئة، وحكايتها الموجعة.

هذه الحكاية كانت مخبوءة عني أيضاً، حتى سقط صوت نهاوند في أذني بعد أن أرسل لي صديق رابطاً لأحد أغانيها. وجدتني بعد ساعات ألاحق باقي أغانيها وماضيها الغامض، لأحاول معرفة سرّ غيابها عن ذاكرة جيل رغم موهبتها الفذة.

كل ما توصلت أليه هو أن اسمها الحقيقي لوريت كيروز، وأنها قد ماتت عام ٢٠١٤ عن عمر يقارب التسعين عاماً. كل ما كتب عنها غير ذلك كان شائعات. لذلك وجدت نفسي بعد أسابيع في بلدتها يحشوش شمال لبنان. كنت قد قرأت في خبر وفاتها أنهم أقاموا الصلاة على روحها في كنيسة البلدة، واستطعت الوصول إلى الكنيسة. وقفت أمامها أتساءل ماذا عليّ أن أفعل الآن؟ كيف أجد القصص عن إمرأة ماتت بسرّها. التقيت بثلاثة أطفال في ساحة الكنيسة وسألتهم عن لوريت كيروز، لم يجبني أحد إلا بعد أن أضفت بأنها لقبت بنهاوند وكانت مغنية. أخبروني أنهم سمعوا عنها من أهاليهم ولكنهم لا يعرفون شيئاَ عن أقارب لها في القرية.

جلستُ على حافة الطريق وكنت على وشك أن أطلب منهم إصطحابي إلى منزل أحد أهاليهم إلى أن رأيت رجلاً كبيراَ يهم بدخول باب الكنيسة من بعيد. ركض إليّ الأطفال وأشاروا إليه :”روحي عند عمو طانيوس هو أكيد بيعرفا.”

انزلقت إلى قلب الكنيسة وأنا أنادي العم طانيوس الذي أجبرني أن أتبعه إلى آخر الكنيسة بسبب سمعه الضعيف. بعد محاولات عديدة، وما إن إلتقط سمعه اسم نهاوند، حتى نظر إلي مطولاً ثم خرج عن صمته قائلاً :” إي نهاوند طبعاَ بعرفها، هاي رفيقتي كانت ترتل هون، غمضي عيونك بتسمعي صدى صوتها“. وابتسم بهدوء.

دلني على الحي الذي تسكن فيه عائلتها وأضاف أنهم وحدهم يعرفون قصتها.

استلزمني الوصول إلى البيت حوالي ساعة سألت فيها عدداً كبيراً من سكان القرية عن موقعه. كان ينتابهم الفضول لمعرفة لماذا أبحث عن امرأة اشتهرت بصوتها وتوفيت بهدوء دون كاميرات واهتمام إعلامي. سألني أحدهم إن كان صوت نهاوند يستحق مشواري من بيروت.

في آخر ممرّ صغير على سفح جبل شاهق، وقف منزل صغير تظلله شجرتين. قرعتُ الباب وتمنيت ألا أقع في ورطة. فتحت الباب امرأة خمسينية وتمعنت فيي، ولم تتجاوب معي حتى نطقت باسم نهاوند. أضاءت عيناها ونادت على الموجودين في المنزل. عند الغروب، كنت أجلس متوسطة أهلها وجيرانها الذين تحولوا إلى أطفال يحكون القصص عن صوتها في الكنيسة وبهجته في الأعياد والأعراس. استمعنا سوية إلى تسجيل لها تغني يا فجر لما تطل، وحيدة، في خريف عمرها على كرسي بلاستيكي في مأوى عجزة، وبكينا.

هاربة من الصيادين والوادي

تسللت لوريت وهي لم تتجاوز الرابعة عشر من مدرستها بزيّها المدرسي إلى إذاعة لبنان عام ١٩٣٨. كانت تغير اسمها كي لا يعرفها أهلها، لأنهم في كل مرة سمعوا صوتها على الإذاعة قاموا بضربها. اختار لها المذيع رامي غنطوس اسم نهاوند تيمناً بالمقام الذي تقارب مع صوتها، وخوفاً من أن تقضي ليلتها وحيدة في القبو.

واجهت نهاوند الكثير من المشاكل مع عائلتها التي كانت رافضة تماماً فكرة غنائها، ولم يتقبلوا الموضوع إلا بعد أن هربت من المنزل وحاولت الانتحار من علو صخرة الروشة. لكن رجلاً لم تعرفه منعها من القفز، وأعادها إلى عائلتها، طالباً منهم ألا يمنعوها عن الغناء.

وهكذا، صارت تتأبط يد عمها الضرير ليأخذها إلى الإذاعة، وينتظر معها ليعيدها إلى المنزل. انتقلت عائلتها من يحشوش إلى بيروت، وهناك تعرفت على جارهم عيسى النحاس الذي كان يعمل على تأمين ملابس المطربين في مسرح تياترو الكبير، تحايلت عليه لوريت وأقنعته باصطحابها معه لتغني ولو مقطعاً صغيراً على المسرح.

وقفت نهاوند للمرة الأولى في حياتها على هذا المسرح الذي كان من أهم مسارح بيروت في الثلاثينات والأربعينات، واحتضن أهم مطربات لبنان. غنّت ميجانا أمام حشد من الموسيقيين والملحنين الذين وقفوا احتراماً لجمال صوتها وصغر سنّها. تلقت إثر ذلك عرضها الأول من الملحن يوسف صالح وكانت أغنيتها الأولى أنا عصفورة.

في منتصف الثلاثينات كانت الألحان اللبنانية تتخذ شكلاً جديداً. تطورت الموسيقى الفولكلورية اللبنانية بعد أن أخذت كلمات أبناء القرى الجبلية وخاصة الفلاحين وأخرجت صيغة غنائية قوية، لتبدأ هذه الألحان بالتطور في قالب معاصر، بداية الأربعينات.

تجلى ذلك بوضوح في هذه الأغنية. اللحن له إيقاع بسيط وبطيء، يطغى عليه صوت نهاوند الذي يبعد كل البعد عن الأصوات الجبلية الصلبة. على الرغم من سقوط صوتها في هفوات صغيرة إلا أن عذوبته وتمازجه مع اللحن جعل من الأغنية نجاحاً باهراً.

الفجر الذي أطل من صوتها

كانت نهاوند من عائلة فقيرة، وعزّ على قلبها أن ترى أمها تتعذب في بيتهم الصغير. لذلك قررت أن تجني المال من غنائها، وأن تضرب عصفورين بحجر. قال لأهلها إنها ذاهبة إلى منزل الجيران ثم تسللت إلى مطعم طانيوس.

هناك، أقنعت مدير المطعم بصوتها الذي ما إن سمعه حتى أرسل صبياَ يساعده ليشتري لها فساتين مستعملة ترتديها على مسرح المطعم. كانت سعاد محمد وغيرها من الفنانات اللواتي حاولن تسلق سلم الشهرة في بداية الأربعينات يغنون هناك.

في إحدى الليالي قررت نهاوند أن تستعير من المطربة زكية أحمد حذاءها اللامع ذو الكعب العالي والتسلل فيه إلى المسرح، كان كبيراَ على قدمها فتعثرت وكسرت كعبه. استشاط صاحب المطعم غضباً وبدأ يصرخ عليها أمام الجمهور، إلا أن أحد الحاضرين طلب منه أن يدعها وشأنها وتكفل بدفع ثمن الحذاء.

على الرغم من أن نهاوند كانت النمرة التي يتسلى بها الجمهور قبل ظهور باقي الفنانين، إلا أنها استطاعت إثبات قوة صوتها، وسرعان ما أصبحت هي الحدث الأهم في السهرة. كاد صوتها أن يجهش بالبكاء عندما قالت عن هذه الفترة من حياتها كنت حب الغنا، حب وقفة المسرح، في المقابلة التلفزيونية الوحيدة التي أجرتها نهاوند بعد عودتها من المهجر في منتصف التسعينات، والتي استطعت الحصول على نسخة منها من عائلتها.

يتضح من التسجيلات أن نهاوند كانت مؤدية جيدة، ويظهر هذا جليّاً في أغنية يا فجر لما تطل، الأغنية الفارقة في مسيرتها. كتب الكلمات الشاعر اللبناني محمد علي فتوح ولحنها مصطفى كريدية الذي غناها هو نفسه قبل أن يعطيها لنهاوند. اشتهرت الأغنية بصوتها في منتصف الأربعينات، ثم غناها عدد كبير من الفنانين حتى زعم البعض أنها من التراث السوري.

بقيت النسخة المشهورة والمسموعة هي التي بصوت نهاوند، بموّالها الذي تقف له الآلات في منتصف الأغنية فيبقى القانون وحده خليل خامة صوتها. رافقتها الأغنية طيلة حياتها مثل ملاك حارس، وبقيت حاضرة في ذاكرتها حتى بعد أن جفّت الخلايا العصبية في دماغها واستسلمت للألزهايمر.

القاهرة، حلب، بغداد

بعد أن حظي صوتها بكل هذا الاهتمام ذهبت لوريت إلى القاهرة لتشارك في ثلاثة أفلام وتؤدي أدواراً سنوية. رغم أنها أدت عدة أدوار، منها دور البطولة في فيلم اسمه عذاب الضمير للمخرج جورج القاعي، إلا أنها سرعان ما تخلت عن حلم التمثيل وتركت القاهرة. لم أجد تفسيراً مقنعاً لهذه العودة السريعة، سوى ما قالته مرة عن ازدحام المشهد المصري وشراسته.

في مقابلتها التلفزيونية، تقول نهاوند إن مشوّارها الفني الحقيقي بدأ في حلب. رحت عـ دمشق مع إمي، بس ما قبلو يعطوني رخصة غني بسبب صغر سني، تبناني عفيف الطيبة، وطالب يعطوني رخصة، أخدتها ورحت ع حلب، وهونيك صرت مطربة

في حلب واجهت منافسة شرسة من مطربات لبنانيات فضلت عدم الإفصاح عن أسمائهن. قالت إنها كانت تجد فساتينها مقطّعة قبل الحفلات، ولكنها كانت تصمت كي لا تخسر المسرح. حاولت إيجاد تسجيلات تدل على وجودها في حلب ولكن لا يبدو أن هناك توثيق لتلك الفترة. من هناك انتقلت إلى العراق في بداية الخمسينات، حيث كانت الأغنية العراقية تشهد أهم مرحلة من مراحل تطورها بعد ظهور كبار الملحنين مثل الأخوين صالح وداوود الكويتي، وخروج الأغنية البغدادية بنمط مغاير شهدت تطور المقامات.

شاهدتُ المقابلة وانتظرتُ أن تتكلم عن علاقتها بالفن العراقي وكيف تعرفت على الملحن رضا علي الذي ترك إرثاً فنياً لا يقدر بثمن من ألحان أغنت المنجز الموسيقي العراقي، لكنها لم تلتفت للموضوع، بل قالت ببساطة وكأنها لم تدرك يوماً البصمة القوية التي حفرتها في رؤوس العراقيين في تلك الحقبة :” انبسطت كتير ببغداد، وبالإذاعة العراقية سجلت كتير أغاني وكانوا يحبوني“.

مدها رضا علي بالألحان طوال فترة مكوثها في العراق، وهو مؤشر على براعتها وتمكنها. فـ رضا علي مثّل مرحلة مهمة في تطور الغناء العراقي، خاصة أنه اتبع البساطة والسلاسة في ألحان تطلبت تمكناً من المطرب وقدمت نقلة نوعية في تجديد الأغاني العراقية، ودمج الحس الشعبي في لحن معقد.

تصف نهاوند كيف أنها كانت تجلس في منزلها في بغداد إلى جانب الراديو، تستمع إلى الإذاعة العراقية، عندما خرجت أغنية يبا يبا شلون. انتهت الأغنية وتفاجأت بصوت المذيع يقول :”كانت معكم المطربة نهاوند، لم تكن تعرف هذه المسكينة أنه صوتها، فراحت ترقص في أرجاء منزلها وحيدة من الفرحة.

انتقل صوت نهاوند في هذه الأغنية إلى مرحلة جديدة. تطورت قدرتها على الغناء ولم تعد تسقط في هفوة إخراج تلاوين صوتها بهشاشة، كما أضفت اللهجة العراقية عليه نوعاً من السحر. أجادت اللهجة العراقية وجارت الإيقاع البغدادي الجديد برصانة، حتى ظن البعض أنها مطربة عراقية جديدة.

تتلوّى على السيكا

في أين يا ليل، الأغنية الأولى التي غنتها نهاوند بالفصحى، بدت ملامح صوتها أكثر وضوحاً. إذا أغمضنا أعيننا وحاولنا تخيل شكل المغنية سنحصل على صورة سيدة أربعينية محنكة تعتلي المسرح بثقة، تغني بقوة واقتداررافق القصيدة الكثير من التأويلات حول من كتبها ولحنها. نُسبت مثلاً إلى سيف الدين ولائي، رغم أن سيف الدين اشتهر بكتابة أغان باللهجة العراقية البسيطة. البعض الآخر نسبها إلى الشاعر العراقي علي الشرقي الذي اقترب في أسلوبه من كلمات أين يا ليل، وتجلّى بوضوح في قصيدته شمعة العرس، ولكن لا شيء رسمي يؤكد مرجعية كلماتها له.

تضاربت المعلومات حول هوية الملحن أيضاً، وأرجحت بعض الروايات أنها من ألحان منير بشير من أهم عازفي العود في القرن العشرين، ووصل البعض إلى القول بأنها من ألحان نهاوند. لكن ما استطعت التوصل إليه بعد استشارة صديق من العراق، هو أن الأغنية على مقام السيكاه وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون هناك ملحن. كل ما احتاجته نهاوند هو ضبط المقام وإيجاد ما يناسبه من الشعر، وهي نجحت بهذا، وأغوتنا على مقام يتجنبه الكثيرون غنت أم كلثوم قصيدة الأطلال بتلحين رياض السنباطي على هذا المقامإذا قارنا صوتها  بـ صوت يوسف عمر وهو أكثر من أجاد إخراج المقامات العراقية والتلوي في قالبها، سنجد أنها لامست المقام بطريقتها الخاصة وزادت عليه من جمالها.

في هذه الفترة التي قضتها في العراق واظبت نهاوند على زيارة سوريا، حتى تزوجت من رجل سوري متنفذ منعها من السفر والغناء لسنوات طويلة: “كان يمنع أغانيي من الإذاعة ويحرق صوري مع المشاهير، صهرو كان وزير داخلية بسوريا، كان بدهم يقوصوني، كسرلي مستقبلي وكسرلي حياتي“. اختفت نهاوند إثر هذه الزيجة وظل صوتها أسيراً إلى أن توفي زوجها وعادت إلى بيروت.

الحُب إن ابتلع صوتاً

لم تخف نهاوند من الزواج رغم هذه التجربة القاسية، بل عادت إلى بيروت وأحبت رجلاً لبنانياً هذه المرّة. لم يمنعها زوجها الجديد من الغناء لكنه جعل بقاءها في لبنان مستحيلاً هو كان سبب سفري لأميركا، تعرف على ست وحبها، وقالي بدك تضلي معي قلتلو لأ. قاللي بشدك عـ بيت الطاعة. قمت سافرت حتى نسيتو“.

هكذا غادرت نهاوند لبنان، وكأن قصتها ما كان يكفيها من اللمسات الدرامية سوى أن يخونها من تحبه ويضطرها أن تهرب منه. بقلب جريح وصلت إلى البرازيل وهناك تركتها تلك الفرقة الموسيقية على رصيف أزقة ساو باولو.

بعد ساعات عثر عليها رجل لبناني. أخبرته بقصتها وساعدها على إيجاد سكن وعمل في مطعم لبناني، حيث عادت تغني العتابا والميجانابقيت في ساو باولو حوالي ١٥ سنة. عشقتها الجالية اللبنانية هناك وتتبعتها من مكان إلى مكان ومن حفلة إلى حفلة. لكنها لم تغن أغان جديدة. بعد فترة سُجّل لها شريط غنت فيه عتابا وميجانا، وانتشر انتشاراً ساحقاً في البرازيل.

في منتصف التسعينات قررت لوريت أن تعود إلى بلدتها وأهلها، وأن تستقر في لبنان من جديد، لتبدأ من جديد، مشواراً جديداً متأخراً في إثبات نفسها.

على عرش نسوها

نهاوند أسموني لمقام نسبوني على عرش وضعوني وعادوا ونسيوني

بهذه الأغنية عادت لوريت، بجسدها المتآكل من الأوجاع والمآسي التي مرّت فيها. رآها المنتج اللبناني ميشال ألفتريادس في مقابلتها اليتيمة، وقرر أن يعيدها إلى الساحة رغم كونها في نهاية السبعينات من عمرها. كان صوتها قويّاً، كما أنه اكتسب نضجاً وحيوية غير متوقعة.

لم يكن العود أو القانون خليل صوت نهاوند هذه المرة. إذ أن ألفتريادس قرر أن يعيد نهاوند بقالب جديد ومختلف كما يقول في تقرير مصوّر أجرته سي إن إن عن نهاوند في عامها الثاني والثمانين.

مع ألفتريادس، يعلو صوت الآلات الإلكترونية على صوتها الذي يحاول أن يجاري الإيقاع السريع. هذا ما فضله ألفتريادس لجذب جمهور جديد وتحقيق نجاح تجاري. لكن رغم كل هذه الضوضاء وصخب الجيتارات وغياب الآلات الشرقية، استطاعت نهاوند أن تسلطن.

في مهرجانات جبيل عام ٢٠٠١ التي نظمها ألفتريادس، ظهرت نهاوند للمرة الأولى على خشبة مسرح جبيل، وأثبتت أن كبر سنّها جذب الجمهور، فطلب منها ألفتريادس أن تبدأ بإحياء حفلات في الميوزك هول، وهو من أشهر النوادي الليلية في بيروت، حيث عمر معظم الحاضرين أقل من نصف عمرها. لو كنت هناك تلك الليلة، كنت سأقلق كثيراً لظهورها في تلك الأجواء.

تسير نهاوند ببطء، مرتدية فستاناً خفيفاً، وشعرها مسرّح على الجنب. تصل إلى الميكروفون، تلمسه بأناملها وتقترب منه بفمها. تبدأ فرقة شبابية بالعزف، وتذهل هي الجميع.

تمايلت الجماهير بفرح بعد أن بدد صوتها صدمتهم، أشعلت الجو وكأنها مغنية بوب. رفضت مغادرة المسرح إلا بعد أن أتى المرافق ليصطحبها إلى الكواليس، ثم تملصت من يده وركضت مرة أخرى إلى المايكروفون، لتبدأ الغناء من جديد. للحظة شعرت أنها ستستلقي على المسرح، تبكي وتحكي للجميع كيف حرمت منه، دون أن تأبه لأحد.

في مقابلة مع محللة نفسية خلال هذا التقرير تشرح فيها الحالة النفسية لنهاوند خاصة بعد أن أكد طبيبها الخاص أنها تعاني من الألزهايمر، قالت المحللة إن نهاوند تستعيد قوتها العقلية ما إن تقف على المسرح. هي تستعيد جميع كلمات الأغاني والألحان بإرادة واضحة، كما تستعيد حبها للحياة وجرأتها ونشاطها.

في فيديو وحيد وثّق هذه الظاهرة، كانت نهاوند تطلق صوتها مع الأخوين شحادة، وكأن التجاعيد التي غيرت ملامح وجهها، والندوب التي طبعت على قلبها، لم تمنعها ولن تمنعها يوماً من أن ترفع صوتها كل ما استمعت إلى الموسيقى.

غنّت سكبتلك دمعي بالكاس، لكل من خانوها وتركوها ترحل، وكأنها تغنيها للبنان، للغربة، لمن أحبته وكسر كأس الحب أمامها لتمر عليه بلوعة. لتنتقل بعدها إلى أغنيتها الشهيرة يا فجر لما تطل، وسط هتافات جمهور لم يتوقع كل هذا من إمرأة ثمانينية.

العجوز الحلوة تنادينا بأغانيها

بكامل جمال شيخوختها جلست لوريت كيروز يوماً أمام كاميرا تلفزيون، أشاحت بنظرها قليلاً وقالت بحُرقة :” أنا الحُب والغرام هني الي ضيعولي مستقبلي“. إلتفتت بعدها إلى محي الدين السباعي عازف القانون اللبناني، وقالت له :”بدي غنّي يا فجر لما تطل، كاملة“.

من كان يتوقع أنها سترفع يداها بشغف بعد عشر سنوات من هذه المقابلة، لتغني الأغنية ذاتها لكاميرا تلفون غريب نادته بصوتها، على كرسي في مأوى للعجزة.

قبل أن أعثر على أهلها وتلك المقابلة تواصلت مع الشخص الذي حمّل هذا الفيديو على الإنترنت. سألته ماذا يعرف عن نهاوند فأخبرني أنه كان في دار عجزة إسم دار سيدة المعونات في منطقة جبيل، وأن نهاوند ما إن رأته حتى بدأت تغني له. وجد نفسه مضطراً لتوثيق هذه الأسطورة فبدأ يصوّر، واحتفظ بالفيديو ولم ينشره إلا بعد موتها بأيام.

محاطة بعجائز وراهبات، ترتل لمريم العذراء بصوتها الذي نما بعناد نباتات ذاك الجبل البعيد الذي تربت فيه، وتطلب الشفاعة منها. وأطلب منها أنا أن تحمل دموعي وتعود بها إلى الحياة لعلّي أشرح لها ما فعله بنا صوتها. هي العصفورة، الطفلة، التي ذبلت زهرة عمرها، وشاخ صوتها المحروق، وهي تحاول الغناء وتحرم منه، ثم تعود لتجد طريقها له رغماً عن الجميع، وإن كانت كل معركة تضيف لصوتها المزيد من الحرقة. لكن لا بأس، ففي الحُرقة جمال.

المزيـــد علــى معـــازف