.
وقَعت في نهاية تموز / يوليو المنصرم على مقابلة جديدة مع المغنية المعتزلة طروب، تذكر فيها أنها لحنت بعضًا من أشهر أغنياتها الخاصة – مثل يا حلّاق وأمان دكتور (يا صبابين الشاي) – مؤكدة أن لا أحد يذكر هذه الحقيقة. بعدها بأيام قليلة، صدرت مقابلة أخرى مع الفنانة تانيا صالح، تعزو خلالها قلة المؤلفات والملحنات في العالم العربي أولًا لـ “وصمة العار” التي يربطها الناس بالفن، وثانيًا لذكورية المجتمع الذي “يفضل أن يكون الرجل مسيطرًا على هذا المجال ولا يسمح للنساء بالاقتراب”، مضيفة أن التأليف والتلحين في نظر الرجال أعمال تقلل من أنوثة المرأة. يُذكر أن تانيا صالح – وبالإضافة لكونها مصممة ومغنية ورسامة – قد ألفت ولحنت أغنيات لنفسها ولفنانات أخريات مثل رشا رزق وعبير نعمة. في مكان ما على الدرب الذي يصل بين ريادية طروب وفخرها بالأعمال التي ألفتها، وبين اجتهاد تانيا صالح في شق طريق التأليف والتلحين الذي يهيمن عليه الرجال، وقفت ماجدة الرومي بحذر.
https://www.youtube.com/watch?v=L8QNHx3qeTg
عام ٢٠٠٦، وبعد ثماني سنوات اقتصرت على بضع حفلات وأسطوانتَي ترانيم دينية، عادت ماجدة الرومي إلى الشاشات العربية مغنيةً وممثلة وراقصة في وصفة لم تتكرر لعودة فنية قوية: كلمات بسيطة ومرحة، صاغ لها ملحم بركات لحنًا بديعًا أضفى عليه توزيع جان ماري رياشي غنى وحيوية، بينما أتى غناء ماجدة – المقبلة على الخمسين حينها – في غاية المرونة والنضج. إن لم تكن تلك العناصر الثلاثة كافية، فقد ظهرت الأغنية ضمن فيديو كليب مفعم بالألوان من توقيع نادين لبكي وتصميم رقصات أليسار كركلّا.
لو اعتبرنا اعتزلت الغرام خيارًا مدروسًا لعودة ماجدة الرومي، فلم يكن الوحيد وقتها. صدرت نسختان متطابقتان من الفيديو على محطتي ميلودي المصرية والإل بي سي اللبنانية لكن بفارق بسيط: ذكر الفيديو الأول أن الكلمات لنزار فرنسيس ونهى نجم، بينما أكد الفيديو الثاني على اسم نزار لكن كشف عن هوية الكاتبة الأخرى: ماجدة الرومي نفسها. عند صدور ألبوم اعتزلت الغرام، جاءت خمس من أغنياته بتوقيع نهى نجم ككاتبة الكلمات، إلا أن ماجدة سرعان ما أكدت في مقابلاتها بأنها هي من كتبت هذه الأغنيات وكل الأعمال السابقة التي حملت اسم نهى نجم، معللةً أنها كانت تُحرج من وضع اسمها الحقيقي.
بالعودة إلى أرشيف ألبومات ماجدة الرومي، يظهر اسم نهى لأول مرة ككاتبة كلمات أغنية بسمعك بالليل الصادرة ضمن أسطوانة من عام ١٩٨٨. بالإضافة إلى إيقاع الأغنية الرتيب، أتت جملها قصيرة ومفككة جعلتها تبدو كخاطرة أكثر من قصيدة منظومة للغناء. في نفس الفترة، غنت ماجدة من كلماتها بكير فليت وجاي من بعيد، اللتَين لم تُسجّلا في الاستوديو أو تصدرا ضمن أسطوانة، بل اقتصر أداؤهما على الحفلات الحية. اللافت في الأولى هو الأثر الواضح الذي تركه أسلوب الشاعر مارون كرم الذي نظم بعض أغنيات ماجدة مثل عم يسألوني عليك الناس ومطرحك بقلبي، إذ أنها شبيهة بأغنية وداع التي صدرت في أول أسطوانات ماجدة الرومي. لا يقتصر الشبه هنا على مناخ الأغنية، بل أيضًا في اختيار الكلمات: تخاطب كلا الأغنيتين شخصًا يهمّ بالرحيل، فتقول في وداع: “يا حبيبي عالغياب / غاب من عمري الشباب” والتي تقابلها في بكير فليت: “إنت العارف عذابي / وحابس صوتي وشبابي.” أما جاي من بعيد التي كانت أكثر تماسكًا من حيث صياغة الجمل، حاكت إلى حد ما أعمال الأخوين رحباني المغرقة في الحب الطفولي، الزاخر بالصور الطبيعية وسلسلة المفردات الجاهزة التي يسهل إقحامها في أي مكان دون التفات للسياق: زهر / ورود / مواعيد / عناقيد.
أما في التسعينات، فاقتصرت قصائد نهى نجم على ثلاث أغنيات فقط: الأيام التي تحاكي برتابتها وتفككها بسمعك بالليل المذكورة سابقًا، إضافة لصدورها ضمن ألبوم احتوى أغنيات أخرى تفوقت عليها، مثل كلمات وإنت وأنا واسمع قلبي. الأغنية الثانية هي طفلة صغيرة، انتشرت على شريط بإصدار خاص لصالح مركز الرعاية الدائمة في لبنان ولم تُغنّ بشكلٍ حي لكونها تحمل طابعًا خيريًا محدد السياق. الثالثة هي أنا لما بوردة تمسيني، الأشهر ربما بين الأعمال التي سبقتها، إلا أنها صدرت بتوقيع اسم مستعار آخر: منى. في مقابلة أجراها ريكاردو كرم مع ماجدة الرومي في منتصف التسعينات، واجهها بحقيقة كتابتها لقصائد غنتها سابقًا، فضحكت مرتبكة وقالت: “لا، إنه … هيدا الموضوع إذا بدك صفحة بحب خليها مطوية لأنه فعلًا ما بتستحق إنه نحكي عنها.” لو نالت قصائد ماجدة نجاحًا مماثلًا لما نالته قصائد مارون كرم وإيليا أبو شديد وإيلي شويري، لربما اختارت الحديث عن هذا الموضوع بصراحة وشيء من الفخر، لكن ساعدها خيار اللجوء لاسم مستعار على تجنب سهام الانتقاد لفترة محدودة.
خلال انقطاع ماجدة الرومي عن إصدار الأغنيات الجديدة بين عامَي ١٩٩٨ و٢٠٠٥، أطلقت ألبومي ترانيم دينية هما قيثارة السماء وارحمني يا الله. عنصر المفاجأة في هذين العملين تمثل بوجود اسم ماجدة على الغلافين كمؤلفة لبعض هذه الترانيم، في كسر للسرية المفترضة حول كتابة ماجدة لبعض أعمالها، يمكن تفسيره بأن هذين العملين غير تجاريين بالدرجة الأولى، ولم تطلقهما ماجدة من باب مهنتها كمغنية فحسب، بل كمسيحية مؤمنة تضع موهبتها في خدمة الكنيسة. إضافةً إلى ذلك، قد يجنّب ارتكاز العملين على الغاية الدينية كتابة ماجدة من الانتقاد، إذ أن نجاح الألبومين تحقق بشكل أو آخر بمجرد صدورهما ودون حاجة للتمحيص في الجوانب الجمالية أو التقنية.
برز اسم ماجدة الرومي مجددًا كمؤلفة عام ٢٠١١ قبيل صدور أغنية بكرا التي ترجمتها بتصرف عن تومورو بتكليف من المنتج الموسيقي الأمريكي كوينسي جونز. ظهرت خلال صيف ذلك العام فيديوهات لماجدة في المغرب بصحبة مجموعة من المغنيين العرب خلال تسجيل الأغنية. لم تظهر ماجدة في هذه الفيديوهات ككاتبة الكلمات فحسب، بل أيضًا كإحدى المغنيات المشاركات في العمل. لكن في خريف ذلك العام، أعلن مكتبها انسحابها من المشروع بسبب “عدم قيام الجهة المنتجة بتنفيذ الشروط الفنية“، ليتبين لاحقًا أن المنتجين رفضوا السماح لماجدة بالاستماع للأغنية مسجلةً وبعد الميكساج، وفقًا لشقيقها عوض الرومي. بعدها بشهر صدرت الأغنية وغابت عنها ماجدة الرومي كمغنية لكنها ذُكرت في الختام كمترجمة الكلمات، بينما ذُكر اسم كاظم الساهر وآخرين ككتاب مقاطع أخرى من الأغنية.
بعد صدور بكرا بأقل من عام، أطلقت ماجدة الرومي ألبومها الأخير غزل الذي ضم ثماني أغنيات بتوقيعها كمؤلفة، إلا أن اللافت أنها – وفي كتيب الألبوم – اختارت أن تشير لما كتبته أنها نصوص بينما الأغنيات الست الأخرى كانت أشعارًا، ربما كي لا تظهر معتدة بما كتبته أو أن تضع نفسها في مصاف الشعراء خلال هذه المرحلة المتأخرة من مسيرتها. إلا أن فصول اختباء ماجدة خلف الأسماء المستعارة أبت أن تنتهي.
في العام الماضي، أصدر مصفف الشعر جو رعد طقطوقة بعنوان شفتك وغشيت من كلمات وألحان الكروان، الذي قيل إنه ليس سوى اسم مستعار آخر لماجدة الرومي التي كانت تدندن هذه الأغنية في بيتها، حيث سمعها جو رعد وطلب غناءها، فوافقت ماجدة شريطة ألا يذكر بأنها هي من كتبتها ولحنتها. لم ينف جو رعد أو يؤكد الشائعات حول هوية الكروان، وحتى عند سؤال شقيق ماجدة كانت إجابته غير واضحة ولا يمكن اعتبارها نفيًا قاطعًا، أما ماجدة فالتزمت الصمت.
ماذا كان سيحصل لو غنت ماجدة الرومي شفتك وغشيت، واعترفت بفخر أنها هي أيضًا من كتبها ولحنها. لو أوكلت مهمة التوزيع لشريك نجاحاتها جان ماري رياشي، لربما استطاعت أن تقدم أغنية ضاربة قادرة على إثارة الجدل، وبث الروح الجديدة في مسيرتها الراكدة والمغالية في اللياقة. تخيلوها – هي التي غنت أشعار سعيد عقل ومحمود درويش وأنسي الحاج – تحطم صنم المغنية الرصينة والحبيبة الهائمة في الطبيعة بين زقزقة العصافير وشذى الأزهار، وتقرّع حبيبها قائلة “يا هالقد بحبك، يا بهالليل عميت” قبل أن تناديه ساخرة: “يا حمار.” لو حصل ذلك، لربما استطاعت ماجدة الرومي أن تعيد تعريف نفسها كفنانة متنوعة كتبت أغنيات تراوحت بين الجدية والسخرية، ولربما ألهمت العديد من الشاعرات والملحنات والمغنيات الناشئات ممن يردن أن يسمين الأشياء بمسمياتها وأن يصنعن فنًا خاليًا من التكلف أو المواربة، وبالتحديد المترددات من خوض غمار مهنة لم يُسمح للنساء بدخولها إلا على مضض وضمن حدود واضحة وأسقف متدنية.