موسيقى أوسلو وشيخ القبيلة

في واحد من خطاباته بعد عودته إلىأرض الوطن، تحدّث ياسر عرفات بصراحة عن الاعتراضات التي أبداها كثيرون حول اتفاق أوسلو. وحاول، في مشهد نادر وبمنطق عجيب، أن يردّ عليها. قالالسيّد الرئيسيومها بعد ان انتهى من ابتزاز التاريخ، والتذكير ببعض اعتراضات الصحابة على توقيع صلح الحديبيّة: “إن كان لأحدكم اعتراض على ما حدث، فأنا عندي 100 اعتراض جنبيه“. هذا الرد على ما فيه من اعوجاج ومزاودة يظلّ مُستوعبًا، إذ قاله عرفات في خطاب أمام الناس. أمّا في الغرف المغلقة فكانت ردود عرفات على بعض بطانته، ومنهم شاعره المفضّل محمود درويش، حين اعترضوا على أوسلو وادّعوا أن لفيفًا من الفلسطينيين يشاركهم الرأي، ردودًا أكثر وضوحًا ومباشرة. في أكثر من واقعة، قالالسيد الرئيسلمحدثيه منهيًا النقاش: أنا الشعب الفلسطيني

في حديثنا عن عرفات، أينما ورد تقديمه على أنّهالسيد الرئيسفذلك مجازيّ تمامًا. عرفات لم يكن رئيسًا رغم رغبته الجارفة والمرضيّة بأن يكون كذلك. وقّع اتفاق أوسلو من أجل أن يصبح رئيسًا. عاد إلى غزّة وأريحا من أجل أن يصبح رئيسًا. أعطى أوامره بشن حملة ضد أفراد حماس والجهاد الإسلامي في التسعينيّات كي يصبح رئيسًا. لكنّه فشل في ذلك ومات، رحمه الله، على ما هو عليه حقًا؛ شيخًا للقبيلة.

الصحافة، أجهزة الأمن والوعود بالرخاء الاقتصادي كانت ضمن الوسائل التي استخدمتهاالسلطة الفلسطينيّةلتسويق اتفاق أوسلو واقناعهم بأنّ هذا كلُّ ما كان بالإمكان. تلك الوسائل مثّلت الشقّ الصلب من البروباغندا السلطويّة. أما في شقّها الناعم فعلى رأس القائمة كانت الموسيقى. نشأ جيل كامل في التسعينيّات على وقع أغانٍ ذات نكهة مصريّة في عمومها، أغانٍ تمجّد الرئيس وتدعو له بطول العمر. بقرار منالأعلىغطّت تلك الأغاني على إرث الانتفاضة الأولى الموسيقيّ الذي غاب (قُل: غُيِّب) في تلك السنين العجاف

النتاجالنموذج الذي يمكن من خلال تشريحه فَهم الدوافع الفكريّة، والطبيعة اللحنيّة، وماهيّة الكلمات المستخدمة في ذلك النتاج الموسيقيّ السلطوي هو أسطوانةغزةأريحاالذي تمّ انتاجه عام 1994 وبُثت أغانيه، بلا كلل ولا ملل، على تلفزيون فلسطين آلاف المرّات. التوقيع الذي طبعه محمود عباس في حديقة البيت الأبيض كان يعني، فيما يعنيه، وداعًا مؤقتًا لكل التعبيرات الموسيقيّة الشعبيّة، وترحيبًا إجباريًا بالأغنيةالشخص. الصبايا والشبّان الذين نزلوايتحدّوا الدوريّةفي أغنية الفرقة المركزيّة نزلوا، في أغاني التسعينات عمومًا، وأغاني غزةأريحا خصوصًا، ليلتقطوا صورة على بحر غزّة

الأغنية التي لاشكّ تذكر كثيرين، وأنا منهم، بتلك الأيام، ولربما دفعتهم للابتسام (الابتسام قهرًا؟) تختم نفسها بمشهد ترسمه ببطء: “صوّر عامل في المصنع، وفلّاح بيحرث يزرع، وشعب بيهتف للقائد، ورايات النصر بيرفع“. ينسحب هذا المشهد على أغلب النتاجات الموسيقيّة للبلدان المحكومة بقبضة حديديّة. المثير للسخرية، في الحالة الفلسطينيّة، أنّ هذا المشهد جرى تقديمه لشعب كان لا يزال يرزح تحت الاحتلال

القائد الذي يظهر فيصوّر يا مصوراتيفي لمحة واحدة، حين يهتف له الشعب، يخصص له نصيب الأسد في أغانٍ أخرى. إنّهضمير الشعب، البسمة والإعصارفيأهلاً أهلاً يا أبو عمّارالتي كانت تبث مصحوبة بتسجيلات لدخول موكب عرفات من جهة رفح قبل أن تتركّز الصورة على سيارته المرسيدس التي يخرج منها ليحيي الجماهير. إنّهالريّسحسبما تريد له الأغنية ومن موّلها وكتبها وبثّها وأن يكون، وعلى طريقة السادات، كان الريّس هو الذي يحمل دومًا، في جيبه على الأغلب،طلقة حبّ وطلقة نار“.

فيهذا هو القائديخرج علينا اللحن مصريًّا بامتياز، لاسيّما في مطلعه، تزاحمه دفقات فجّة لمزمار قلق. مصحوبًا بكورس نسائيّ يلطف الأجواء، يغنّي المؤدي الرئيسي الكلمات التي نقعت مطولاً في سوائل السلطة وزُيّنت بمستحضراتها وأريد لها أنّ تجيب عن أسئلة الديمقراطيّة والاختيار فاختارتالحبمعينًا تنهل منه. “بالحبّ إحنا اخترناه“. هو القائدإن كنّا برّا أو جوّا، قائدًا لمسيرة شعبه وأحلامهم وطموحاتهم وغالٍ تحوطه الجماهير التي قررتبالحبّأن تسير معه درب الحرب و درب السلام. كلّه بالحب

مسألة الاختيار كانت ملحّة وهاجسًا من هواجس من وقف ذلك النتاج الموسيقيّ. وإن كانتهذا هو القائدقد بررت الأمر بالحبّ، فإنّأعطيناك العهد يا أبو عمارتبدو أكثر جديّة، يساعدها في ذلك لحنها المشوب بشيء من البداوة. العلاقة متبادلة وسلسة بين القائد والشعب،أعطيناك العهدوأنت، يا ريّس،وفيت الوعد“. وعلى كلّ الأحوالنحنا ويّاك سايرين“. 

مسألة أخرى كانت حاضرة بقوّة في موسيقى أوسلو، والمبرّرات، لاشك، كانت سياسيّة بامتياز. الوحدة الوطنيّة، سواءً أكانت وحدة الأحزاب الفلسطينيّة واجماعها على المصالح العليا، وحدة النسيج المجتمعي، أو دالّة على التفاف الشعب حول قيادته متمثلة بالسلطة الفلسطينيّة

فيإحنا الفلسطينيّةذات اللحن الأوبرالي الذي يذكر بأوبريتوطني حبيبي الوطن الأكبريجري تقديم السلطة الوطنيّة على أنها نموذج حكم شعبي حنون، يعبّر فيه الجميع عن رأيه بكلّ وداعة. يقول مطلع الأغنية: “إحنا الفلسطينيّة، شعب وسلطة وطنيّة، نتكلّم ونحاور، من أعلى المناور، والرأي النهائي: رأي الأغلبيّة“. يكون مفيدًا أن نورد، في هذا السياق، أنّ أغنية من هذا النوع كان يجري تسويقها في الوقت الذي تكدّس فيه عشرات المنتمين لحركتي حماس والجهاد الاسلامي في سجون السلطة التي كانت تقول لنا: “إخوّة أحبّة ما بينا خلاف، نبدي الرأي، وليش نخاف؟ ناكل زعتر لقمة حاف، بس نتنفّس حريّة: سلطتنا الوطنيّة“. 

أغنية واحدة من نتاج تلك الفترة الموسيقي كانت موجهّة، ربما، لفئة معينة (مثقفة؟) من الشعب الذي يحبّالريّس“. بكلمات فصيحة وألحان تكاد تكون عسكريّة، كانت أغنيةهي في انتظارك“. القدس التيهيفي انتظاره، في انتظار الريّس. تخاطب الأغنية الريّس قائلة: “أقبل أبا عمار، شعبك عن يمينك عن يسارك (بالمعنيين الفيزيائي والسياسي) يحميك بالحبّ الكبير ولن يحيد عن اختيارك“. 

ربّما يكون استحضار تلك الفترة، موسيقيًا، استحضارًا لما انتهى بشكله الواضح. لكنّ المفهوم، والمبتغى لا زال متواجدًا بقوّة. الموسيقى (الرديئة في أغلب الاحيان) تمسك من ياقة قميصها لتخدم كلّ المشاريع السلطويّة في فلسطين، كما في أيّ مكان آخر. المهندس رحل دون أن يستطيع إكمالهندسته لأمانينا“. “كبير العيلةرحل ولم تفلح كلّ المحاولات في تحويله من كبير العائلة إلىريّسإذ لا دولة، لا قدس ولا تحرر وطني، لا شيء غير واقع محتدم، تركة فساد طويلة، وأغانٍ اعتزلت ليحلّ محلها أغانٍ جديدة لن يطول الوقت حتى تنتهي بدورها إلى الأرشيف، هذا إن لم نقل إلى مكان آخر أكثر بؤسًا وأشنع رائحة