fbpx .

موسيقى الشيطان

كريم الصياد ۲۰۱۸/۰۷/۱۲

“لم يكن فرانسيس الأسيزي، لم يكن المسيح، هذا الذي ظهر لي. لقد كان هو الملَك العظيم لوسيفر، الذي سبحت عيناي في جلاله، بطلعته التراجيدية خاطفة الأبصار. لم يكن ذلك الشيطان الدميم في العصور الوسطى، كان الملَكَ الكبير المتمرد في التراث اليهودي-المسيحي، حزينًا، وجميلًا، بجحيمه التي لا تنطفئ، وعينيه المرفوعتين إلى السماء الغاصّة بالنجوم، كأنما يراها مملكة، عليه أن يغزوها.”
-إدوار شوري Édouard Schuré(+١٩٢٩) واصفًا أولى تجليات لوسيفر له في مدينة أسيزي بإيطاليا.

أولًا | نظرة عامة على الشيطانية ومفهوم الشيطان

تحدثنا في مقال لاهوت السيمفونية التاسعة عن تصور الإله بحسب سيمفونية بيتهوفن التاسعة، وفي هذا المقال نتوسّع في الاتجاه المضاد؛ فنتتبع تصور الشيطان والشر في الموسيقى الكلاسيكية بوجه عام. إذا شعر القارئ بدءًا بأن الموضوع غير تقليدي في مجال الشيطانية أو مجال الموسيقى الكلاسيكية، فهذا صحيح؛ لأن الارتباط الأشهر بين الشيطانية كعقيدة أو اتجاه وبين الموسيقى هو موسيقى الروك ن رول والميتال، أما بالنسبة للموسيقى الكلاسيكية فقد تبدو العلاقة غائمة، على الأهمية الكبيرة للأعمال الكلاسيكية التي عالجت فكرة الشر أو الشيطان، أو التي اعتنق مؤلفوها هذه الأفكار، كما سيُقدَّم في جسم المقال. لكن هذه بالضبط حالة العلاقات التي علينا أن نبحثها، إذا كانت قائمة، وهامّة، وغير واضحة نظريًا بعد. كيف عبرت الأعمال الكلاسيكية عن الشيطان أو لوسيفر أو الشر؟ هل مجرد التعبير عن الشر أو التمرد أو الثورة يدخل في مجال الفن الشيطاني؟ ما معنى الفن الشيطاني؟ بل ما معنى الشيطانية؟

لصاحب هذه السطور خبرة أكثر مباشرةً بالمجموعات الشيطانية من مذاهب مختلفات، لكن المصادر النظرية المتاحة كذلك لا يمكن إغفالها اعتمادًا على خبرة عملية. مع ذلك، وكما هو الحال في مجال التصوف مثلًا، من الصعب النفاذ إلى جوهر الأفكار الشيطانية سِوى من داخلها، بمعنى أن الباب واقع داخل البيت، لا على مدخله. فكما علينا أن نعاني تحولات الصوفي، ومُجاهداته الروحية، ومواجهته لقصور اللغة البشرية، كي نفهم أفكاره كما يفهمها هو، لا كما نتصورها نحن، وهو ما يسمى بالمنهجية الظاهرياتية في التعامل مع الأنساق المعرفية، كما يوضحها هنري كوربان مثلًا راجع: Corbin, H., Alone with the Alone, Creative Imagination in the Sūfism of Ibn ʿArabī, Princeton University Press, 1997, p. 82، كذلك علينا أن نحاول فهم أفكار الشيطانية من داخل التجربة، ومع احتكاك عملي مباشر.

تضم الشيطانية كما ذكرنا وكأي عقيدة عدة مذاهب. لكن الأهم عند تحديدها هو نفي التصور المبسط عنها، باعتبارها عبادة شيطان. صحيح أن بعض مذاهبها تنعقد حول طقوس تعبدية وعقيدة تقديسية، لكن أغلب ما يوصَف في الكتابات العلمية الاجتماعية، والفلسفية، والفنية، والصحافية، بالشيطانية يتسع لأكثر من ذلك من أشكال العلاقة الإيجابية مع الشيطان. لذلك قد يكون الأوفق بناء تعريف الشيطانية على هذا الوصف الأخير: علاقة إيجابية مع الشيطان بأحد معانيه، وليس بالضرورة عبادته. بالرغم من ذلك فإن الجماعات والتوجهات الشيطانية لا تتفق أصلًا فيما بينها على تعريف واحد للشيطان، أو الكيان، مركز هذا الاهتمام، أو الطرف الثاني في هذه العلاقة. فما الشيطان؟ أو ما ذلك الكيان؟

تنقسم الشيطانية بشكل عام إلى شيطانية تأليهية، وشيطانية رمزية (عقلانية). الأولى تعتقد في وجود تاريخي لشخص الشيطان، لذلك هي توجه تشخيصي، أي يعتقد في شخص محدد، ذي وعي ذاتي، وإرادة مستقلة، لما يجسد الشر أو الثورة على السماء، أما الثانية فلا تعتقد في مثل هذا الشخص التاريخي، بل في فكرة التمرد ذاتها قارن: Petersen, Jesper Aagaard (editor), Contemporary Religious Satanism: A Critical Anthology, Routledge; 1 edition, 2009, pp. 1-26. هذا أول تمييز هام في مجال المذاهب الشيطانية، غير أن هناك تمييزًا آخر لا يقل أهمية، هو التمييز بين الشيطان ولوسيفر. فحسب التقليد اليهودي-المسيحي (الكتاب المقدس وشروحه) كان لوسيفر أحد الملائكة، لكنه تمرد على خالقه، فسقط، وبدأت الدراما الإنسانية-الشيطانية. أما بحسب الإسلام فإبليس كان أحد الجن، وتمرد على خالقه بطريقة مشابهة. المثير في الأمر أن كينونة الإنسان نفسها، التي لا يمكن فهمها حسب هذه الديانات خارج سياق هذه الدراما، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بكينونة الشيطان وقصة صعوده وسقوطه؛ فلا معنى للمعاناة في الحياة الدنيا بغير وضع الأساس في هذه القصة. هذه العلاقة التي بحثها المخرج داوود عبد السيد في فيلم أرض الخوف ١٩٩٩. على أية حال، تقدس بعض المذاهب الشيطانية لوسيفر وليس الشيطان، بمعنى أنها تقدس فعل التمرد الشجاع، لا الشر، على خلاف مذاهب أخرى تستعين بالشر ذاته. لهذا فمن غير الصحيح اعتبار الشيطانية كلها نزعة لتقديس الشر، وهي من التصورات الساذجة التي علينا أن نستبعدها كذلك. في الاقتباس الذي يتصدر هذا المقال يبدو واضحًا الفرق عند صاحب التجربة بين الشيطان ولوسيفر كمفهومين – وليس كشخصين – مختلفين.

كان هذا الوصف على مستوى البنية، أي تركيب النظرية خارج مراحل تطورها. أما الوصف التكويني فيمدّ أصول الشيطانية إلى أبعد من الفترة المعاصرة، وأقدم بكثير، إذا كانت الشيطانية نزعة معاصرة في الأساس. يمكن رسم خط واصل بين عقيدة الطوطم والديانات الوثنية من جهة، وبين تصور الشيطان أو الشر في العصور الوسطى وما يليها. لقد كان لزامًا على كل عقيدة أن تفسر وجود الشر في العالم أو تبرره، لذلك وجدنا في العقائد التعددية (غير التوحيدية) دورًا لإله شرير، أو مطرود من مجمع الآلهة، كبروميثيوس، الذي كان طيطانًا، وهي درجة من الألوهة عند الإغريق، وكذلك لوكي في عقائد الشمال، ذلك العملاق صاحب القدرات الخارقة، الذي تسبب بالخديعة في مقتل بولدر Balderابن أودين Odinكبير آلهة آزجارد وفريج Friggوأخيه ثور Thor، وبالتالي حكم عليه بالعذاب والقيود، وحين يتحرر ستقوم قيامة العالَم بحسب هذه العقيدة. أي أن العنصر الشيطاني (لوكي) هو السبب أصلًا في القيامة. وهي من المواطن التي نتبين فيها قدر أهمية هذا المفهوم، الشيطان أو الشر المجسد والمشخَّص، في تصور البشر عن أنفسهم ومصائرهم. بعض العقائد ألّهت الشر، واعتبرته قوة محركة للتاريخ مع الخير، كالعقيدة المانوية، أما العقائد التوحيدية فقد شخصت الشر في الشيطان، لكنها لم تخلع عليه رتبة من رتب الألوهة، بل اعتبرته ملعونًا مشوهًا منبوذًا، وفي الإسلام يعتبَر الشيطان ضعيف الكيد، لا سبيل له على المؤمنين، بحسب القرآن. هل يمثل تطور الديانات من الطوطم، إلى الديانات الوثنية، إلى الديانات التوحيدية، تحجيمًا تدريجيًا لمفهوم الشيطان من القوة والسلطان إلى المحدودية والتناهي، من الألوهة كبروميثيوس ولوكي وشيفا وأهريمان إلى رتبة الملائكة كلوسيفر في الكتاب المقدس، إلى درجة الجن كما في القرآن؟ ولماذا انعكس هذا التطور في العصور الحديثة حين ظهرت العقائد الشيطانية و”كنيسة الشيطان”؟ على أية حال هذه الملحوظة هامة؛ لأن معناها أن الشيطانية محاولة لبعث الشيطان وإعادة الاعتبار له، وربما تبرئة ساحته، بعد أن وجهت له الديانات التوحيدية بالذات ضربات شبه قاضية للمزيد من التفاصيل التاريخية حول تطور مفهوم الشيطان، وتطبيقاته في الأدب العالمي يمكن الرجوع إلى مقال للكاتب: الشيطان، المفهوم: مدخل.

المستخلص مما سبق أن الشر المشخص المعروف في الديانات الإبراهيمية، إبليس أو لوسيفر أو الشيطان، يستمد أصله من الشر لا من التشخيص؛ فمثلًا أنا شخص أولًا، ولي صفات كذا وكذا ثانيًا، أستمد وجودي في تصور الآخرين عنّي من وجودي الشخصي الواقعي، ثم يجري وصفي بعد ذلك. أما الشيطان فيستمد وجوده من صفته: الشر أو التمرد، ثم نتصوره نحن بعد ذلك في صورة مشخصة أو رمزية. ما يعني كذلك أننا حين نبحث موضوع “الموسيقى الكلاسيكية الشيطانية”، فإننا نتعرض لمفهوم أوسع من الشر المشخص، لتصورنا عن طبيعة الشر، ومصدره، ودوره في حياتنا، وعلاقته بكينونتنا، ومصيرنا الميتافيزيقي، سواء كان مشخصًا أو رمزيًا. هذه هي الثنائية الأولى التي علينا أن نقف إزاءها في تعريف الشيطانية: المشخَّص والرمزي. أما الثنائية الأخرى الهامة هنا فهي: الشر والتمرد؛ فهل لوسيفر شرير، أم متمرد؟ بشكل عام يستعمَل مفهوم (كلمة، مصطلح، تسمية) لوسيفر حين يتصور الشيطانيون شيطانهم كمتمرد على السلطة، لا كشرير، ولا كضارّ بالإنسان، أما إذا استعملوا لفظ الشيطان أو الشر فهم يعتقدون في أهمية للشر والألم والضرر، ووظيفة لكل ذلك، وربما فائدة، إنسانية، أو طائفية (داخل حدود الطائفة العقدية)، أو فردية، كالاستعانة بالجن مثلًا عند بعض المسلمين.

لهذا يصنف الباحثُ المعروف في السحر والعلوم الباطنية كينيت جرانهولم Kennet Granholmالشيطانيةَ المعاصرةَ ضمن عقيدة اليد اليسرى Left-Hand Path، وهي نزعة معروفة داخل الأوساط الباطنية، تتبلور حول الإيمان بالفردية، وتأليه الإنسان، والثورة على التابوهات، بالذات التابوهات الدينية Granholm, Kennet, Dark Enlightenment: The Historical, Sociological, and Discursive Contexts of Contemporary Esoteric Magic, Brill, Leiden|Boston, 2014, pp. 58-59. يعني أن الشيطانية في اعتبارها نوعًا من الهيومانية (النزعة الإنسانية) الجديدة، التي تتخذ لها صورة مختلفة، أكثر تطرفًا ربما، عن هيومانية عصر النهضة، وهي نظرة سائدة إلى الشيطانية عمومًا؛ فبعث الاهتمام بالشيطان في هذه العقائد لا ينفصل عادة عن نوع من تبجيل الإنسان، ونزعة فوضوية، تعمل ضد السلطة كسلطة، وضد التابو بالتالي. لهذا علينا حين نتطرق إلى الموسيقى الشيطانية أن نضع في اعتبارنا طيلة الوقت هذا المكوِّن النظري الهيوماني، وهو ليس غريبًا على الثقافة العربية. ففي الفترة المعاصرة نجد فعلًا ملامح لهذه الشيطانية في الشعر العربي المعاصر، كما قال دنقل “المجد للشيطان معبود الرياح”، وهو توجه يدعوه بعض الباحثين بـ”الشيطانية الرومانسية” Introvigne, Massimo, Satanism: A Social History, Brill Academic Publications, 2016, pp. 6-7. لكاتب هذه السطور كذلك عدة دواوين يمكن تصنيفها بدقة تحت هذه الفئة الأمر-٢٠٠٧، منهج تربوي مقترَح لفاوست-٢٠٠٩، آلهة الغسَق-٢٠١٥.، ومما لا مندوحة عن الإشارة إليه كذلك هو التفرقة بين النزعة الشيطانية العامة، كما يصفها جرانهولم، وبين “عبادة الشيطان”. فالمصطلح الأخير يقتصر على ممارسة جماعية، تَعبُد الشيطان أو لوسيفر فعليًا، وتستعمل لوصف هذا الكيان هذين الاسمين أو ما يعادلهما في التراث اليهودي-المسيحي أو الفلسفي صراحةً راجع: Introvigne, Massimo, Satanism: A Social History, pp. 3-4، ولمزيد من التفاصيل عن الشيطانية مذاهبَ وتاريخًا، يمكن الرجوع إلى كتابات Jeffrey Burton Russell العديدة الهامة عن الموضوع..

ثانيًا | التجليات الشيطانية في الموسيقى الكلاسيكية

هنا نحاول وضع تصنيف ممكن لكيفية معالجة هذا الموضوع فنيًا، وليس في الموسيقى فحسب. فبشكل عام يمكن التمييز بين ثلاثة أشكال لهذه المعالجة:

أعمال تعبر عن الشيطان شخصيًا ودراميًا، يظهر فيها شخص الشيطان أو لوسيفر. بطبيعة الحال، تكون هذه الأعمال من “الموسيقى ذات البرنامج” أو الموسيقى البروجرامية، أي التي تعبر عن موضوع معين، يعرفه المستمع قبل التلقي، عكس الموسيقى الخالصة. نواجه في هذا المجال طابورًا طويلاً من المؤلفين وأعمالهم، كفالسات مفيستو الأربعة لفرانز ليست، حيث مفيستوفيليس هو اسم شيطان فاوست، أو أوبرا لعنة فاوست لبرليوز (وهو أقرب إلى عمل درامي للأوركسترا والأصوات المنفردة والكورال من كونه أوبرا)، أو وداع لوسيفر لشتوكهاوزن Stockhausen. هذه الأعمال تعالج موضوع الشيطان كشخص لا كرمز.

أعمال بروجرامية أخرى تصور جوًا شيطانيًا، يتميز بالعبث، والشهوانية، والضحكات الشريرة، والأصوات الغريبة أو المنفرة، حتى في إطار التناغم Tonality، أشهرها العمل الكورالي كارمينا بورانا لكارل أورف، ورقصة المقابر لشارل-كامي سان صانص، أو ليلة على الجبل الأجرد لموسورسكي، أو سْكرتسو السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي (وهي شبه بروجرامية لكن برنامجها لم يصرح به المؤلف)، أو الحركة الرابعة (العاصفة) من سيمفونية بيتهوفن السادسة، التي يراها بعض المستمعين شيطانية بشكل ما، ورأيي الخاص أنها ليست كذلك. مثل هذه الأعمال تتعامل مع الشيطان كرمز لا كشخص.

أعمال غير بروجرامية تصور الشر أو التمرد بشكل عام، دون تشخيص للشيطان أو الشر: مثل السيمفونية الخامسة كلها لبيتهوفن، وسيمفونية تشايكوفسكي السادسة إذا اعتبرناها غير بروجرامية لأن برنامجها غامض، وأعمال كثيرة أخرى لعدد كبير من المؤلفين؛ فمثلًا يمكن إدراج الكثير من أعمال فرانز ليست غير البروجرامية في هذه المجموعة، والسيمفونية الثانية لرحمانينوف، بالذات في حركتيها الأولى والثانية، والسيمفونية الرابعة لبرامز. أما شوستاكوفيتش فله في هذا المقام مكانة خاصة؛ ربما لأنه جسد الشيطان في أصوات الآلات التي حاول أن يعيد إنتاجها عن طريق الأوركسترا. هذه الفئة من الأعمال لا تتعامل مع الشيطان كشخص أو كرمز، بل هي تتعلم من الشيطان معاني التمرد والثورة وتأليه الفرد، وتسير في مساره، وتكسر التابوهات الفنية، وربما تمجّد التناقض والتنافر واللا-نغمية، أي أنها أقرب إلى الشيطانية الرومانسية، أو الهيومانية، كما عرضناها أعلاه.

على هذا النموذج يمكن تصنيف الأعمال الشيطانية ضمن ثلاث فئات على الترتيب، مع الانتباه إلى أن التوازي هنا بين المعالجات الموسيقية للموضوع والممارسات الشيطانية لا ينعكس على معتقدات الموسيقيين نفسها، لكنه يعكس التقسيم نفسه الذي نجده عند الشيطانيين كتعبير عن أفكارهم: أعمال تشخيصية (الشيطانية التأليهية)، أعمال ترميزية (الشيطانية الرمزية أو العقلانية)، وأعمال هيومانية (الشيطانية الرومانسية). الجدير هنا بالملاحظة أن هذا التصنيف يتضمن في الغالب المؤلفين كذلك، وليس فقط أعمالهم، كما سنعرض لاحقًا. بطبيعة الحال لا ينفصل استعمال هذه التعبيرات الثلاثة عن سياق هذا المقال؛ فلا يمكن أن نستعمل تعبير أعمال ترميزية هنا للإشارة إلى الاتجاهات الرمزية في الفن مثلًا. المهم كذلك هنا أن الفئتين الأولى والثانية، التشخيصية والترميزية، لا بد أن تكون أعمالًا بروجرامية بحسب هذا التصنيف المقترَح. على أية حال تتطرق الفقرات القادمة لأهم الأعمال طبقًا لهذا النموذج. بعض الأعمال يستحق وقفة مطولة، وبعض المؤلفين يمكن تأويل مشروعاتهم التأليفية من هذا المنطلق، لا في بعض أعمالهم فحسب، كبيتهوفن وفرانز ليست وكارل أورف وشوستاكوفيتش. من هنا أهمية بحث الشيطانية في الموسيقى الكلاسيكية؛ إذ إنها منظور لا غنى عنه – في رأيي – لسد فجوات كبيرة في فهمنا، حين نحاول باتساق ذاتي تأويل المشاريع الموسيقية من فيفالدي ويوهان سباستيان باخ إلى شوستاكوفيتش وشتوكهاوزن وماكس ريشتر.

ثالثًا | لوسيفر، موسيقيًا

نناقش في هذه الفقرة نماذج من القسم الأول من النموذج المقترَح، أي الأعمال التشخيصية، البروجرامية، التي ظهر فيها الشيطان بصورة من صوره المتعددة، بشكل مباشر. هذه الفئة بطبيعة الحال تضم أعمالًا أقل بالمقارنة مع ما يليها؛ نظرًا لدقة التعيين الذي تقوم به، أي تخصيص الشيطان كموضوع أو كشخصية في العمل، في مقابل اتساع مساحة التأويل بالنسبة للفئتين الأخريين. قد تكون أشهر أعمال هذه الفئة فالسات لِيست الأربعة (فالسات ميفستو) Mephisto Waltzes. كما قلنا، إن مفيستوفيليس Mephistophelesهو اسم شيطان فاوست، الذي كانت أسطورته من مصادر الشيطانية في العصر الحديث في الموسيقى والأدب، وهو ما يتضح بالذات في معالجة كريستوفر مارلو لها، حيث صُوِّرَ فاوست كمناضل ضد تسلط رجال الدين كما نفهم من السياق، ومن هنا المغزى الهيوماني للقصة. على أية حال أخذ لِيست القصة في هذه الأعمال عن نيكولاوس ليناو، وحاول أن يصور في كل فالس مشهدًا منها. يتعرض الفالس الأول الأكثر شهرة إلى دخول فاوست والشيطان إحدى الحانات، حيث يتناول الشيطان قيثارة، ويعزف عليها لحنًا عابثًا بمهارة مدهشة، وحيث يرقص فاوست مع إحدى فتيات القرية رقصة ماجنة. حين نتعرض لهذا الفالس كمثال على الشيطانية البروجرامية (التشخيصية) في الموسيقى، نلاحظ أن شخص الشيطان واضح كعنصر في الدراما التي حددها المؤلف لعمله، كما نجد كذلك طابعًا عامًا من النشاط والسرعة والعبث، وهو مزيج سنجده في أغلب الأعمال الشيطانية، ومن ثم أهميته.

هذا يعني أن المؤلف لم يكتفِ بالبرنامج، الذي حدده لعمله، بل حاول أن يتخيل الموسيقى التي سيعزفها الشيطان، لو كان يعزف. ليس ما يعزفه الشيطان فقط، بل ما يؤلفه كذلك؛ لأنه يعزف لحنًا من ألحانه، قد يكون مرتجلًا. بالتالي لا يكفي في العمل الشيطاني أن نعلن أنه كذلك عن طريق برنامج المقطوعة، بل علينا أن نؤلف موسيقى شيطانية. إذن فهذا هو السؤال: ما الموسيقى الشيطانية؟ بصيغة أخرى: ما الصفات أو الطابع الذي يجب توافره كي نصنف الموسيقى أنها شيطانية؟

من مدخل ظاهرياتي (فينومينولوجي) بحت فإن ما هو شيطاني يحمل الصفات التالية: شرير، فائق القدرات، عابث. الشيطان في وعينا رمز للشر، أو تجسيد له. هو الشر نفسه، أو تجريد له. الشيطان تارة تجسيد وتارة تجريد. إذا قلنا الشر عمومًا فإن الشيطان هو الشر الخالص المجرد، الذي يمكن أن ينصبّ في أي قالب: قتل، سرقة، خيانة، إيذاء عمدي. أما إذا كان موضوعنا شخص الشيطان، لوسيفر مثلًا، كما في هذه الأعمال لليست، فإنه يصير تجسيدًا للشر. نتصور الشيطان كذلك باعتباره كائنًا فوق-طبيعي، فهو قد يرانا ولا نراه، وهو أذكى أو أمهر أو أمكر، بل قد يكون هو نفسه مصدر عبقرية العباقرة، خاصة إذا اصطدمت هذه العبقرية بسلطان ديني، كسلطان الكنيسة الكاثوليكية في العصر الوسيط. في هذه الحالة قد نتخذ الشيطان حليفًا من منطلق عدو العدو صديقي كما قال شيشيرون قديمًا. كما نعرف أيضًا كان العرب ينسبون الشعر إلى شيطانه (شيطان الشعر)، وقد دُعِيَ ليست نفسه بشيطان البيانو، لمهارته المعروفة، كما أُطلِق على باجانيني لقب شيطان الكمان. من المرجح إذا نبغتَ في فرع ما من الفن بالذات أن يطلَق عليك لقب شيطاني ما. لكن الفن لعب؛ فهو ليس صناعة جادة، ليس سلوكًا براجماتيًا في الأساس، خاصة في المرحلة الرومانسية التي ينتمي إليها ليست، وما بعدها، حيث تحدد مجال كل من الفن الجميل والفن التطبيقي بشكل قاطع، بعد التداخل بينهما في المرحلة الكلاسيكية. صحيح أن الواقعية حاولت إعادة هذا الربط لأهداف اجتماعية، لكننا اليوم لا نتصور الفن عادة باعتباره صناعة أو حرفة بالأساس، بل نتصوره في الأصل عملية إبداع فردية ذاتية، قد تُستغَل لأهداف مخالفة لما قامت عليه، ولكنه يبقى في تصوره الأصيل إبداعًا شخصيًا. ومن ماهية الفن كلعبة يُستقَى طابع العبث؛ فالشيطان في مجموع صفاته أعلاه حين يكون فنانًا فهو أمهر منّا، وربما مصدر إبداعنا ووحينا الفني، وهو يلعب باعتبار اللعب من صفاته، فالإله لا يجوز له العبث، أما الشيطان فالعكس، عابث بالطبيعة، بطبيعته وطبيعتنا. على هذه الصورة تخيل ليست فعلًا موسيقى الشيطان، كما نسمعها في تلك الفالسات، وأفضلها موضوعًا وتقنية هو الأول منها.

النموذج الثاني المشهور في الموسيقى الكلاسيكية في سياق الشيطانية التشخيصية هو العمل الأوركسترالي-الكورالي أو أحيانًا الأوبرا المعنونة بـ لعنة فاوست La damnation de Faustلهكتور برليوز (١٨٠٣ – ١٨٦٩). لم نتعرض في المقالات السابقة بتركيز على هذا المؤلف، ربما لأنه مرحلة أقل مفصلية من بيتهوفن أو باخ أو موتسارت أو شوستاكوفيتش. لكن كما هو واضح عاصر برليوز مرحلة هامة هي نشأة الرومانسية، وتشبّع بالتقليد الرومانسي المبكّر، أي أننا في موسيقاه – السيمفونية الخيالية مثلًا Symphonie fantastique– لا نجد ذلك التلوين والتوزيع فاقع الألوان كما سنراه مثلًا مع غيره من الرومانسيين المتأخرين مثل تشايكوفسكي أو كورساكوف أو فاجنر، بل يستعمل ألوانًا مقاربة لألوان برامز، لكن مع برامج مأخوذة عن حكايات شعبية وأساطير، كفاوست، أو قصصٍ من اختراعه كما في السيمفونية الخيالية. مع ذلك فبرليوز مؤلف مهم من جهة التأسيس، فهو صاحب كتابات نقدية مهمة في التأليف والتلوين الأوركسترالي والقيادة راجع: Treatise on Instrumentation, Dover Publications, 1991. Evenings with the Orchestra, University of Chicago Press; First Edition, 1999. Berlioz on Music: Selected Criticism 1824-1837, Oxford University Press; 1st edition, 2015. The Art of Music and Other Essays: (A Travers Chants), Indiana University Press; Annotated edition, 1994. . كما أن أعماله مثالية – من جهة موضوعها – للتعريف بالرومانسية المتأخرة أو الخيالية. من أعماله المهمة أيضًا: ليليو، أو العودة إلى الحياة Lélio, ou Le retour à la vieللأوركسترا والأصوات المنفردة والكورال، وهو في الأصل كُتبَ كختام للسيمفونية الخيالية، حيث كان برليوز مهتمًا ببدعة بيتهوفن الخاصة بدمج الكورال مع الأوركسترا في العمل السيمفوني، كما في السيمفونية التاسعة (الكورالية)، وبالفعل فقد ألف برليوز سيمفونية تستعمل الصوت البشري مع أوركسترا الآلات هي سيمفونية روميو وجولييت.

تحكي أوبرا لعنة فاوست دراما الجزء الأول من فاوست جوته مع بعض التعديل؛ فتبدأ من شعور فاوست بالاكتئاب واليأس، اللحظة التي يستغلها ميفستو ليتسلل إلى عالمه، ويذهب معه في عدة جولات، يلتقي في إحداها بمارجريت جريتشن، ويقعان في الحب، لكن فاوست يهجرها، وتصل أخبارها إليه، حيث قامت بقتل أمها غير عامدة بسببه، وحُكم عليها بالموت. يقترح ميفستو على فاوست أن ينقذها في مقابل أن يمنحه روحه، ولا يجد فاوست بدًا من القبول. في الفصل الرابع والأخير يتضح أن مصير فاوست إلى الجحيم، أما مصير حبيبته فهو الفردوس. يبدو أن هذه الحبكة الرومانسية القحة كانت جديدة في وقتها.

نلاحظ هنا الفرق بين صياغة مارلو لفاوست وصياغة جوته؛ فقد أوّل مارلو صفقة الشيطان وفاوست تأويلًا هيومانيًا، ينتصر للعلم والناسوت في مواجهة الكنيسة واللاهوت، ويعيد التنويع على قصة الأكل من شجرة المعرفة التوراتية من خلال ذلك. أما جوته فقد جاء بعد حسم هذه المعركة ليحاول تقديم معالجة أكثر تفصيلًا، ودون التركيز على قضية المعرفة بالذات، ودون أن يوجه الأسطورة توجيهًا سياسيًا أو اجتماعيًا محددًا. لقد حاول جوته أن يقدم البعد الإنساني الفردي لفاوست، لا الهيوماني العام كمارلو، في الشك والحيرة والحب والجنون، وهي المعالجة التي اقتفى أثرها برليوز إلى حد كبير. فاوست مارلو هو الإنسان الحديث عمومًا، أما فاوست جوته فهو فَرد إنساني معيَّن في أغلبه، وإن كان جوته يستعمله كعدسة نرى من خلالها تصوره عن الإنسان من زاوية رومانسية.

هذا يعني أن معالجة برليوز أقل وضوحًا في جانبها الهيوماني، الذي قلنا أنه مباطن للأعمال الفنية الشيطانية في الغالب؛ فالشيطان في الفن، باستثناء أدب الرعب، رمز للتمرد الإنساني على السلطة الدينية والتابو بشكل عام. الشيطان في هذه المعالجة لبرليوز جزء من قدر فاوست التراجيدي، وربما يعتبَر مصدر العشق؛ لأنه هو – بحسب برليوز – الذي أوقع فاوست وجريتشن في الحب. هذا قد يؤول الحب نفسه باعتباره قدرًا لا اختيارًا. كل هذا يلقي الضوء على شيطانية برليوز وجوته، حيث الشيطان مصدر العبقرية، ومصدر الحب. وإذا اعتبرنا الحب عند الرومانسيين – في مواجهتهم للوضعية المتمددة في ذلك الوقت – طاقة خلاقة، أو معرفة غير عقلية، وجانبًا أصيلًا من الوعي الإنساني الأعقد من مجرد التفكير العقلاني الوضعي برأيهم، فإن لهذه المعالجة الرومانسية لفاوست كذلك جانبًا فلسفيًا هو أقرب إلى هيومانية معدَّلة، لكنها بالتأكيد مختلفة عن هيومانية مارلو الوضعية الحاسمة.

النموذج الثالث في مجال الشيطانية التشخيصية هو وداع لوسيفر Luzifers Abschiedلشتوكهاوزن (١٩٢٨ – ٢٠٠٧). شتوكهاوزن أحد الموسيقيين المهمين في القرن العشرين، وصاحب إبداع هام في الموسيقى الفراغية Space musicالتي تبرز تأثير موقع الآلة أو الأوركسترا في المكان على إدراكنا للصوت، ووقْع ذلك على فهمنا للعمل ككل. وداع لوسيفر، هو المشهد الأخير من أوبرا يوم سبت النور Samstag aus Licht. هذه الأوبرا بدورها جزء من عمل أوبرالي أكبر من سبعة أجزاء بعنوان  النور: أيام الأسبوع السبعة Licht: die sieben Tage der Woche. في الحقيقة، تتحدث الأوبرا ككل عن لوسيفر، ومشهدها الأخير هو الأكثر شهرة، كما أنه يلخص بشكل ما المشاهد الثلاثة السابقة عليه: حلم لوسيفر، مرثية لوسيفر، رقصة لوسيفر. في وداع لوسيفر يتقدم على خشبة المسرح عدد من الرهبان، يقومون بطرد روح شريرة منشدين نصًا لفرانسيس الأسيزي الذي ورد اسمه في اقتباس التصدير. المكان هو البطل الأساسي؛ فالمنشدون والعازفون يبدّلون مواقعهم لإضفاء تأثيرات مختلفة، كما أنهم في البداية يظهرون من الفراغ، كناية عن خلق العالَم من عدَم. في هذه المعالجة يظهر شخص الشيطان بوضوح، باسمه الأشهر لوسيفر، ومن تخصيص جزء كامل من سباعية شتوكهاوزن له يتضح مدى أهميته الدرامية. أغلب التركيز على هذه السباعية ككل يدور حول التفريغ الموسيقي الذي قدمه المؤلف، وهو اهتمام تقني، لكن المميز في هذا العمل أنه يخلق تصوره الخاص عن لوسيفر، دون أن يرتكز على قصة شعبية كفاوست، وإن كان يرتكن بالطبع إلى جزء من تاريخ لوسيفر المعروف في التقليد اليهودي-المسيحي.

رابعًا | ترميز الشر

كما قلنا، تقدم الفئة الثانية من الأعمال جوًا شيطانيًا دون إبراز شخصية الشيطان، لكنها كذلك أعمال بروجرامية، والنموذج الأول قد يكون أشهرها حتى عند المستمِع المبتدئ، هو كارمينا بورانا لكارل أورف (١٨٩٥ – ١٩٨٢). هذا العمل الكورالي-الأوركسترالي قد قدم لأول مرة عام ١٩٣٧ في ذروة صعود النازية في ألمانيا، وارتبط باسمها إلى الأبد، لما حازه من نجاح وقت تقديمه. لهذا يدور النقاش عادة حول مدى كون هذا العمل استجابة للدعاية النازية، لكن الواضح من موضوعات أورف قبل الحقبة النازية وبعدها، ومن أسلوبه في التأليف كذلك، أنه قد اهتم فعلًا بالتقاليد الموسيقية النهضوية والباروكية المبكرة، كما أنه انشغل بالتعبير عن مضامين ترجع إلى التراث اليوناني-الروماني سواء في الموسيقى التي ألفها في الحقبة النازية أو ما قبلها وبعدها. على أية حال صارت كارمينا بورانا أحد أشهر أعمال الموسيقى الكلاسيكية، ومَدخَلًا لها عند كثير من المستمعين في البدايات الأولى (وإن كان الكثيرون يخلطون بينها وبين خامسة بيتهوفن). كما يمكن اعتبار هذا العمل مثالًا للموسيقى النازية كما تصورها النازيون مِن منطلق التذوق إن لم يكن من جهة التأليف، حتى لو تبرأ مؤلفها من نازيته. هذا جانب من الموسيقى القومية تعرضنا إلى بعض ملامحه كذلك في مقالنا عن سيبيليوس، حيث اهتم الأخير في المقابل بالأساطير الشمالية بدرجة أكبر، وهو ما يجعل أورف وسيبيليوس وريتشارد شتراوس وفاجنر المربع الذهبي للموسيقى النازية. حيث كان الأخير قوميًا اشتراكيًا قبل ظهور النازية كحركة منظمة بعقود. لكن على رأسهم – في رأيي – سيبيليوس من جهة الكمال الفني.

هذا العمل قريب كذلك من الأذن العربية ومن الموسيقى الميلودية عمومًا، وربما هذا سبب طغيان شهرته، فهو قليل الاعتماد على العناصر المميِّزة أصلًا للموسيقى الكلاسيكية من الاشتقاق والهارموني والكونترابنط. فمن جهة لا تتمتع موسيقى النهضة بالتركيز على هذه العناصر، ومن جهة أخرى حرص أورف فيما يبدو على المباشَرَة، وكأن العمل يقوم في الأساس على النص اللاتيني-الألماني-الفرنسي القديم الذي لحنه المؤلف، ربما بهدف تأكيد انتماء العمل الأيديولوجي. النص وثني يحفل بالمجون والعبث وأغلب المحرمات المعروفة في المسيحية إن لم يكن كلها، ولكن في قالب بطولي جَمالي. هذه الصلة بين الوثنية وبين النازية ليست جديدة، وقد وضع ألفرد روزنبرج كتابه (أسطورة القرن العشرين) ليعقد هذه الصلة؛ وكمحاولة لصبغ القومية الاشتراكية الألمانية بطابع قبل-مسيحي يوناني-روماني في سياق الاعتزاز بالآرية، لكن اختيار أدولف هتلر كان مع عقد الصلة بين النازية والمسيحية، ربما لمعارضة الماركسية بوضوح من جهة، وكسب أصوات المتدينين من جهة أخرى، لذلك فقد احتفظ بالصليب، لكنه عقفه. من هذا المنظور فإن كارمينا بورانا تمثل انحياز مؤلفها الضمني للتيار الروزنبرجي الوثني في النازية، لكنها مع ذلك نجحت واشتهرت كثيرًا في ألمانيا هتلر كما قلنا.

في كارمينا بورانا نجد صورة مختلفة للشيطانية عما وجدناه في الأعمال السابقة؛ فهي لا تدور حول الشيطان الشخص، بل تقدم هذا الجو الماجن الشيطاني المتمرّد والوثني. إنها في مجملها رمز للتمرد الإنساني ضد السماء، خاصة حين يتّخذ صورة جمعية في جماعة أو حركة ما منظمة. ربما تَصور أورف النازيةَ كذلك فعلًا من منظور إيجابي. استعمال الكورال بتلك النبرة المُدَمْدِمَة والتركيز على أصوات معينة أقرب إلى بريق صوتي خاطف ينقلنا تلقائيًا إلى أجواء احتفالات الخصوبة الإغريقية، العنصر الديونيسي في الفن عند نيتشه، رغم أن نيتشه آمن بسموّ الفرد لا العِرْق. ذلك الاحتفاء بالقوة الجماعية، وباللذة الدنيوية، وبالانتصار (حيث كارمينا بورانا ككل جزء من ثلاثية بعنوان الانتصارات) من أهم الملامح المميزة للعنصر الديونيسي، عنصر الإرادة، في مقابل العنصر الأبولوني، الذي هو مبدأ التناسق والتناظر والعقلانية في البناء لمزيد من التفاصيل حول الفلسفة الجمالية للموسيقى انظر مقال الكاتب: زمن الموسيقى ومكانها، وكذلك: الموسيقى بين التدجين والتوثين.. كارمينا بورانا موحية في مجملها بدرجة من انتصار الإرادة على العقل. إذن فما هو شيطاني عند أورف أعقد مما هو لدى لِيست أو برليوز؛ فهو يستوعب المكوِّن الفاوستي، لكنه يضيف إليه المركب الفاشيستي، فاوست الفاشيست، الشيطان القومي، والنيتشوي كذلك. هذا التصور الرمزي للشيطان ولشيطانية الإنسان المعاصر هو خلاصة تطور طويل معقَّد في العقلية الأوروبية، والألمانية خاصة، منذ فاوست – الألماني – إلى روزنبرج، مرورًا بعصر التنوير، وبالمثالية الألمانية، ثم شوبنهور ونيتشه وفاجنر وريتشارد شتراوس وسيبيليوس. يستطيع المرء تتبع مراحل تطور الأطروحة الهيومانية النهضوية من مركزية الإنسان ضد مركزية اللاهوت، إلى مركزية إنسان معين، عِرْق أسمَى، وبحيث لا يكون المحيط هو الطبيعة فحسب، بل الأعراق الأخرى، التي تفسِح المجال الحيوي في عملية تفريغ مركزي لصالح الأقوى. كان تابو فاوست-مارلو النهضوي هو اللاهوت، أما تابو فاوست الفاشستي فهو الناسوت، وبينهما تطورَ تمردُ الإنسان من الأكل من شجرة المعرفة، إلى اعتصار ثمار الدم.

النموذج الثاني هو رقصة المقابر لسان صانص. وهو أقل شهرة من كارمينا بورانا، لكنه يرسم ذلك الطابع الشيطاني بشكل أكثر تركيزًا ومباشرة. كما تعرضنا في فيتشر كيف تستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية، القصيد السيمفوني هو عمل سيمفوني من حركة واحدة له دراما محددة، وقد نشأ على يد فرانز ليست. موضوع هذا القصيد السيمفوني لكامي سان صانص هو كما ينطق عنوانه، حياة البرزخ بين الموت والنشور من خلال أسطورة شعبية. بدلًا من تشخيص الشيطان فقد أظهر سان صانص في قصيدِه شخص الموت، الذي قد يألفه المسلمون كـ مَلَك الموت. يظهر الموت في بداية العمل ليعزف على الكمان عزفًا غريبًا، يظهر وسط الهدوء، كأنه نداء للهياكل العظمية والأرواح لتحتفل بميت جديد أو بعِيدٍ ما من أعياد الموتَى. حرص المؤلف في بعض الأجزاء على إظهار المحاكاة الصوتية؛ فنسمع مثلاً رنين الزايلوفون يصور صوت تصادم العظام مع العظام في رقصة فالس محمومة، تزداد نشاطًا إلى أن يختَم العمل. لكنه حرص كذلك على المحاكاة البصرية أو الرمزية، حين نسمع مثلًا آلات النفخ وهي تصور الانبعاث البطيء المخيف للأرواح، أو ضحكات الوتريات وصرخاتها. في النهاية تعزف آلات النفخ صوت ديك الفجر يعلن نهاية هذا الحفل المفزِع الماجن. لماذا وضعه المؤلف؟ هذا سؤال صعب عادةً، ولا يمكن سوى التخمين في الغالب، فربما هو استجابة للثورة على التابوهات في القرن التاسع عشر، التي قد تكون بدورها من أصداء الانفجار العظيم للثورة الفرنسية قرب نهاية القرن الثامن عشر، وربما العمل ببساطة معالجة لموضوع رومانسي أثير هو الموت والحياة الأخروية وجو المقابر الشهير في الشعر الرومانسي الإنجليزي والفرنسي. رقصة المقابر عمل خفيف ممتع، وسهل للمستمع غير المتمكّن، ومثال واضح على الرومانسية الخيالية، وفيه جو عبثي يجمع بين الكوميديا والرعب، ذلك المزيج الذي نجده في القصيد السيمفوني صبي الساحر لبول دوكا، أو ما نشاهده فيما بعد في السينما لدى تيم بيرتون Tim Burtonمثلًا في الجثة العروس Corpse Bride٢٠٠٥ أو سويني تود ٢٠٠٧.

النموذج الثالث هو ليلة على الجبل الأجرد لواحد من الخمسة الروس العظام موديست موسورسكي، وقد اشترك معه فيه واحد آخَر من الخمسة الروس هو كورساكوف، الذي قام بإكمال العمل وتعديله بعد وفاة مؤلفه الأصلي (مع التصريح بذلك)، كما فعل كذلك مع أعمال مؤلفين روس آخَرين، منهم بورودين مثلًا، بوازع قومي-فني. في النهاية، وبعد مراحل عديدة من التعديل والحذف والإكمال، وصل العمل إلى أيدينا اليوم في شكل قصيد سيمفوني له البرنامج التالي، والذي سنجده مشابهًا من أكثر من وجه لبرنامج رقصة المقابر: يبدأ العمل بأصوات من العالَم السفلي، يليها مشهد انبعاث الأرواح، ثم يظهر الإله تشيرنوبوج Chernobogوالذي يعني اسمه بالروسية: الإله الأسوَد، وهو أحد آلهة السلاف قبل المسيحية. يدور الحدث في السبت المقدس عند السحرة (وقد دار برنامج السيمفونية الخيالية لبرليوز كذلك في جزء منه، في الحركة الأخيرة تحديدًا، عن سبت السحرة Great Sabbath)، ومع مطلع الفجر تدق أجراس الكنيسة، فينفض الاحتفال. العمل ككل رومانسي بامتياز، ومن أشهر القصائد السيمفونية وأكثرها شعبية؛ لوضوح ألحانه، ودراميته، وطرافة موضوعه. لكننا الآن نعرف أنه ليس جديدًا إلى ذلك الحد، بل هو جانب أصيل من التراث الأوروبي قبل-المسيحي والقروسطي، وهو مثال بدوره على موسيقى العبث المخيف، التي تدمج الضحك بالفزع، في ملامح لا نكاد نتخيلها عادة إلا على مجنون أو ممسوس.

خامسًا | بيتهوفن. المَلَاك الساقط

تحدثنا في مقال لاهوت السيمفونية التاسعة عن إمكانية التأويل الشيطاني لأعمال بيتهوفن، ومشروعه الموسيقي في مجمله، وهو مجرد تأويل يطرح منظورًا ممكنًا لرؤية موسيقاه، لكنه ليس المنظور الرئيسي في رأيي، ولا يمكن أن يكون كذلك، لأن التعبير عن الشيطانية له وجه مباشر كما رأينا مع كارل أورف وبرليوز مثلًا. كان يمكن لبيتهوفن – وهو صديق جوته – أن يضع عملًا عن فاوست مثلًا، لكنه بدلًا من ذلك توجه إلى إيجمونت لجوته، ووضع موسيقى مسرحية، وأنتج افتتاحية إيجمونت، أهم افتتاحياته فيما أرى. كان نموذج بيتهوفن هو إيجمونت أكثر من فاوست وأقرب. بيتهوفن إيرويكي (بطولي)، أكثر منه شيطانيًا.

لكن هذه بالضبط قاعدة انطلاقنا في التأويل الشيطاني لبيتهوفن، أي البطولة. البطل البيتهوفني، إيجمونت أو نابليون، ناضل ضد الكنيسة بوضوح. كل منهما حارب السلطة الدينية، وهذه نقطة التقاء بين هذين البطلين البيتهوفنيَين وبين فاوست. البطولة في نظر بيتهوفن إنسانية علمانية بوضوح، وقد حكى ول وإيرل ديورانت في عصر نابليون عن استياء بيتهوفن من عقد نابليون هدنة مع الكنيسة Will and Ariel Durant, The Story of Civilization: Part xi: the age of Napoleon, A History of European Civilization from 1789 to 1815, Simon and Schuster, New York, 1975, p. 574.. لم يعرَف عن بيتهوفن التدين، لكنه كذلك لم يكن رافضًا للدين ذاته، بل لسلطته الأرضية، وتحالفها مع الرجعية السياسية والاجتماعية. قبل بيتهوفن أن يصلي عليه قس في نهاية حياته، لكن لم يُعرف صراحةً إذا ما كان بيتهوفن جادًا في استقباله للقس، أم كان يسخر منه، حيث أنه قال بعد الصلاة جملته المشهورة “صفقوا يا رفاق، لقد انتهت الكوميديا” Plaudite, amici, comoedia finita est، ثم مات Ibid, p. 585.. من غير الواضح بذاته معنى “كوميديا”. هل قصد بها اعتبار الصلاة مهزلة، أم اعتبار حياته هو نفسه، وقد أوشكت على الانتهاء، عبثية؟ انتهت الصلاة وانتهت حياته في الدقيقة نفسها تقريبًا، وفي هذا معنى عميق معقّد. على أية حال صاغ بيتهوفن أكمل تعبير في الموسيقى الكلاسيكية عن البطولة، حتى أُفرِدَتْ له مرحلة خاصة به في الرومانسية المبكرة هي الرومانسية البطولية، وإذا كان البطل البيتهوفني يلتقي مع فاوست من وجه، وطالما أن مشروع بيتهوفن الموسيقى ككل كان تمردًا عنيفًا وجذريًا ومرتفع الصوت على تقاليد الكلاسيكية، التي عبرت عن فن النبلاء فيما قبل الثورة الفرنسية، وبالتالي ضد موسيقى السلطة الدينية التي تحالفت مع هؤلاء النبلاء، فقد استحق أن نفرد له فقرة خاصة.

قد يكون المدخل لدراسة شيطانية بيتهوفن وشيطانه هو النقد الذي وجهه إليه هرمان هيسه في مقدمة رواية لعبة الكريات الزجاجية، حيث يقول بنزعة شبه رواقية ما معناه أن بيتهوفن دشّنَ عصر سيادة الديناميكية الحسية البحتة في الموسيقى، حارفًا للمسار الروحاني الذي سلكه موتسارت وهايدن من قبل، وهي نظرة أحادية لا تتمتع بتعدد المنظور، ولا ترى في موسيقى بيتهوفن سوى الصوت العالي، وهو الجانب الأبرز الذي يصل إلى من لا يعرف موسيقى بيتهوفن عادة. فإذا سألنا أي عابر سبيل عن بيتهوفن: ماذا تعرف من موسيقاه؟ لأجاب: “طا طا طا طااا” وهي ضربات الوعيد المقبضة الرهيبة، التي تبدأ بها السيمفونية الخامسة. لكن المستمع إلى بيتهوفن، ولو لمدة بسيطة، يجد أن من روعته ذلك الانتقال الخاطف للقلب من قمة العنف والرهبة إلى رقة تذبح بلطفها الروح. هذه الحركة المتطرفة من قمة العنف إلى ذروة الرهافة نكهة مميزة يعرفها مستمع بيتهوفن، وينتظرها منه. بالتالي لا يمكن وصف موسيقاه بالعنف أو الرقة، بل بالعلاقة بينهما. لقد اعتبرَ هيسه إبداع بيتهوفن هرطقة جَمالية، ثم مدّ نطاق هذه الهرطقة لتشمل الأخلاق كذلك.

مع ذلك، التقط هرمان هيسه طرف خيط مهم، هو علاقة التمرد بنقيض الروحانية، التمرد الحسّي، أو المادي، أو الدنيوي (العلماني)، ضد تصورات سابقة عن الماوراء. ليست الشيطانية في جوهرها خصيمًا للروح، ولكنها في الأغلب دنيوية، هيومانية، علمانية، وهذه مقولات نقف أمامها فعلًا حين نتتبع بنية النسق البيتهوفني. هذا يعني أن شيطانية بيتهوفن عامة، لا في عمل معين له، بل في مشروعه الموسيقي ذاته،، وهو نوع متفرد من شيطانية الموسيقى كما نرى. كان هيسه محقًا في افتراض عنصر حسي دنيوي في موسيقاه، لكنه أخطأ – في رأيي – حين نفَى البعد المقابِل الروحاني فيها. نعم، لقد نزل بيتهوفن بالموسيقى من السماء إلى الأرض إلى حد كبير، ومن خصائص الرومانسية المبكرة عمومًا هذا التنزيل، بعد سيادة موضوعات كلاسيكية تصور النبلاء ليتلقاها النبلاء. الرومانسية المبكرة نوع من تأميم الفن. لذلك فليس غريبًا على الإطلاق أن يرى هيسه بيتهوفن في شكل ملاك ساقط. في الواقع كان بيتهوفن كيانًا صاعدًا، ليس لديه إلا نشوة الصُّعود.

دعونا نتخذ سيمفونية بيتهوفن الثالثة نموذجًا. إيرويكا بداية جديدة لموسيقى مستقبلية في وقتها، في توزيعها، وهارمونيتها، وألوانها، وقوتها، وصلابتها، وبَريقها، وطلاقتها، وطُموحها، وشجاعتها، وتغنيها بالأبطال أحياءً، ورثائها لهم أمواتًا. لكنها مع ذلك باذخة العاطفة، متفجرة بفرحة عجيبة، لا يفرحها إنسان في حياته، مجيدة الألحان، قاطعة البيان، متوعّدة واعدة، ظاهرة وباطنة، قابضة للمشاعر وباسطة، تخفق مجَنَّحةً فوق كل أعمال الموسيقى بما فيها أعمال بيتهوفن نفسه. ضرباتها الأوركسترالية بلا مثيل في التاريخ، لا يقاربها عمل واقعي أو خيالي، فارِسة، بريئة، طِفلة، أب، وابن، وروح قاتلة الحَنينِ والحَنَانِ، صريحة، صِدِّيقَة، شَهيدة، وشاهدة على تاريخ الحقيقة، عظيمة الكبرياء، عارمة في الزمان والمكان، فيّاضة الأحضان، سَمَاوية النبوءة، ظُهورها حَقّ، ووُقُوعُها عَدْل، وسيدة الأيام والأقوال والأعمال، تصعد إليها القلوب في السماء، وهي رفيعة المقام.

في مقال قادم (بيتهوفن الصَّمَد.. في إثبات أنَّ بيتهوفن أعظم موسيقار معروف) سأُورِد برهاني على كل ذلك، ولا شيء يقال أكثر مما سبق لوَصف شيطانيتها. شيطانية إيرويكا عملية لا نظرية، حقيقية لا خيالية، فِعلية وواقعية؛ لأنها ممارسة للتمرد، لا مجرد تعبير عنه. هذه القضية الأخيرة هي لبّ تميز شيطانية بيتهوفن البطولية. تمردها ليس مجرد إعلان تحدٍّ وتعالٍ، بل هو إنشاء فعلي لنسيج آخَر غنيّ ملوّن متناسق. الشيطان لا يرفض فيها السجود للإنسان، بل يصنع له إنسانًا بديلًا أقوى وأجمَل وأرقى وأرقّ.

لكن ربما كان المثال البيتهوفني الأوضح من إيرويكا في الدلالة على الجوّ الشيطاني هو السيمفونية الخامسة؛ ففيها يظهر القدَر، ويظهر تحدي القدر، ثم الانتصار عليه. من المألوف أن نسمع مَن يعترض مِن منطلق ديني على هذه السيمفونية باعتبار أن تحدي القدر نوع من تحدي الإله، ومن غير المؤكد قيام بيتهوفن بوضع برنامج لهذا العمل؛ فقد يصح ما نسب إليه في ذلك، وقد يصح كذلك أنه لم يقصد مباشرة تحدي القدَر كما نفهم من الكلمة، أي القدر الإلهي. لكن في جميع الحالات فقد تشكلت هذه السيمفونية في وعي أغلب المتلقين كسيمفونية القدَر.

هل سقط بيتهوفن أم صعد؟ هل غادر فردوس موتسارت وهايدن وجلوك وسالييري إلخ، فردوس الكلاسيكية الروحاني، الذي يحاكي انتظام الطبيعة ذاتها، أم اكتشف فردوسًا بديلًا، ربما يكون أسمَى؟ “هل غادرَ الربُّ المؤلِّفُ مِن دَمِي؟ أم هل سمعتُ الرعدَ وحيَ الأعجمِ؟” كما يقول كاتب هذه السطور في إحدى قصائده عن بيتهوفن؟ هل انقطع الوحي الإلهي الذي ألهمَ المحبوب من الإله أماديوس موتسارت، فأفسح المجال للرعد وحيًا بديلًا غريبًا عن لغات الوحي المعروفة عند بيتهوفن؟ رأيي الخاص أن الكلاسيكيين كموتسارت حاولوا التنصت على قانون الطبيعة، أما بيتهوفن فلم يستطع ذلك؛ فهو شبه أصمّ، ثم أصم تمامًا، فحاول اكتشاف وحي ذي صوتٍ أعلَى وأعنف هو الرعد. بيتهوفن باختصار أوضح تجربة وجودية متجلّية موسيقيًا، والوجودية، حتى المؤمنة منها، توتر بين الإنسان والإله لا يستريح فيه أي من الطرفين.

سادسًا | رحمانينوف أم شَيْطانينوف؟

لاسم رحمانينوف رنين نادر محبب للأذن المسْلِمة، وربما هو أكثر الأسماء تميزًا وغرابة في الموسيقى الكلاسيكية. لكن ما أن تستمع إليه حتى تتساءل حقًا: هل له من اسمه نصيب؟ رحمانينوف مشتق روسي من رحماني المشتق بدوره من رحمن، وهو اسم من أسماء الله في القرآن، لكن هذا الرحماني الروسي قدّم موسيقى غامضة، باردة، قاسية في بعض جوانبها، وهو ما يزيد بحدة التناقض مِن شعورنا برقّة الجوانب الأخرى ولطفها، مع تفاعلات تنسج حولنا جوًا شيطانيًا لا مراء فيه، كالذي سمعناه في رقصة المقابر مثلًا، لكن في أغلب الأحيان دون برنامج. أغلب المتلقين يرون مقدمته الثانية للبيانو الشهيرة عملاً شيطانيًا بامتياز، لكن العمل الشيطاني الأكثر إسهابًا وإيغالًا في عبثيته هو سيمفونيته الثانية على ما لها من اتساع بنائي هائل معقد، مركَّز على عمليات الفكّ والتركيب، ودون أن يضحّي باللحن خارق الجَمال. الحركة الأولى منها أظهَرُ ما فيها بهذا الصدد، وقسم تفاعلها المطوِّل، كواحد من أطول التفاعلات في البناء شبه الرومانسي، أقرب إلى فيلم رعب حقيقي، وهذه هي النقطة الأساسية في شيطانية الرحماني العظيم. صَنع رحمانينوف باقتدار ذلك المزيج المتفرّد بين الحزن والعنف والعبث، ليُنتِج موسيقى مخيفة، تستعمل بكثرة التآلف المتناقِص المحطِّم للأعصاب. إننا نسمع بالفعل عشرات الصرخات والضحكات الشيطانية مع تأوّهات تتردد بإلحاح كآلام السرطان (الذي توفي به فعلًا)، تقطعها رعود شريرة، وأصوات مُنْكَرَة، ثم يعاد عرض التفاعل في الكودا، والتي نلاحظ فيها هذه الحركة الشبيهة بالفرار اليائس من قبضة الظلام.

هذا نفسه ما قد يقال إذا حللنا قسم التفاعل في الكونشرتو الثالث له، وهو الذي قدمنا عنه مقالًا كامل بعنوان ما وراء الليل. يلعب البيانو دورًا واضحًا في تأسيس هذا الجو العبثي العنيف، وهو الذي يقود الأوركسترا على خُطاه إلى جحيم ما. يستعين المؤلف بالأوكتافات المنخفضة الأقرب إلى درجة زئير القطط المفترسة، والتي يخيف بها النمر ضحاياه، في أفظع نَغَم إرهابي لكائن حيّ. التقنية كذلك تمارس دورًا أصيلًا في شيطانية رحمانينوف عمومًا، لكنها تظهر بطبيعة الحال في مؤلفات البيانو، سواء المنفرد أو مع الأوركسترا، ولا ننسى أنها كانت من أسباب شيطانية كل من فرانز ليست وباجانيني. المهارة غير البشرية في حد ذاتها لا شيطانية ولا إلهية، والمُحَدِّد هنا هو التعبير؛ فإذا جاء التعبير منتظم التيار أقرب إلى قوانين الطبيعة أو حركة الأفلاك، كما هو عند موتسارت، كانت إلهية، أما إذا ساد فيها طابع العبث أو المجون والعنف والسرعة والدموية فهي وحي إبليسي خارج على الناموس.

هناك ملاحظتان على شيطانية رحمانينوف: الأولى أنها غير شاملة؛ فهي تتصارع على مستوى العمل الكامل مع عنصر رهيف شجيّ مُناقِض، كما نجد بوضوح في قسمي العرض وإعادة العرض من الحركة الأولى من السيمفونية الثانية؛ والثانية أنها كانت آخذة في التطور والزيادة إلى حد ما مع تقدمه في العمر، وهو ما يتضح في المقارنة بين الكونشرتو الثاني والثالث والرابع، وإنْ كنّا سنتردد نوعًا في حسم مسار هذا التطور مع اختلاف تأويلنا لأعماله الأولى بالذات، وهي الأقل شهرة ونجاحًا، كسيمفونيته الأولى وكونشرتوه الأول.

سابعًا | الشيطان الآلي، شوستاكوفيتش

مع شوستاكوفيتش نصل إلى ذروة التأويل الشيطاني للموسيقى في رأيي؛ حيث كفّت الموسيقى أصلًا أن تكون لحنية، وهو أكبر شرخ تعرضت له تقاليد الموسيقى الكلاسيكية؛ فبيتهوفن مثلًا لم يضحّ باللحن قط، لكنه وسّع من مساحة التركيب، ورحمانينوف احتفظ باللحن في كتابٍ مكنون، وخاتشاتوريان ضحّى بالإيقاع، الذي له مكانة تالية على اللحن في تصورنا عن الموسيقى كنظام يفرقها عن الفوضى. تستطيع مثلًا أن تكسر الإيقاع وأنت تصفر لحنًا ما، وسيبقى الناتج موسيقى بشكل أو بآخر، أما الاستغناء الكامل أو شبه الكامل عن اللحن فما الذي يصنعه؟ (لمزيد من التفاصيل راجع مقال ما وراء الموسيقى). موت اللحن درجة من درجات قتل الموسيقى، لكنه كذلك موسيقى، موسيقى الموسيقى الميتة.

لكن استبعاد اللحن واستفحال التركيب ليس في حد ذاته موحيًا بالشيطانية، الفكرة هنا في طبيعة تطور ذلك التركيب. وقد قلنا في المقال المذكور عنه أن شوستاكوفيتش قدّم مسارًا سرطانيًا لنموّ التركيب، خارجًا عن السيطرة، ومنذِرًا بفاجعة مزلزِلة، تمامًا كالسرطان، الذي توفي به أيضًا مثل رحمانينيوف من قبل. السرطان شيطان، لا خلاف فيه. السرطان شر داخلي، جسد يخلقه شيطان، ليحتلّ تدريجيًا ما خلقه الله. موسيقى شوستاكوفيتش ورم متحلِّل أصاب الموسيقى، وربما قتلها فعلًا. لا حل لشوستاكوفيتش، كما لا علاج للسرطان، سوى تدمير الحالّ والمحلول، موسيقى الله وموسيقى الشيطان.

بيد أن هذا المؤلِّف تحديدًا قد صاغ تعبيرًا ذا بُعد إضافي فعّال في سياق الشيطانية، مما قد يؤهله ليكون الموسيقار الشيطاني بامتياز؛ ففيما رأينا تنوعات شيطانية المؤلفين السابقين من التعبير عن شخص الشيطان إلى التعبير البروجرامي عن الحدَث الشيطاني إلى الجو الشيطاني العام دون تشخيص أو برنامج، أي أننا في كل هذه العمليات التأويلية لم نخرج عن التعبير كمضمون للعمل، وفي كل عمل من الأعمال السابقة كان العنصر الشيطاني، سواء كان شخصًا أو مناخًا عامًا، مباشرًا وبسيطًا، لكن مع شوستاكوفيتش فإن نمط حركته نفسه من حيث تطور البنية هو العنصر الشيطاني، إضافة إلى ما أسميناه في المقال سابق الذكر بموسيقى الآلة، التي هي بديل عن آلة الموسيقى.

قلنا في ذلك المقال أن موسيقى الآلة هي إفساح المجال لآلة الموسيقى لتعبّر عن نفسها انطلاقًا من ماهيتها الحقيقية، لا مِمّا نفرضه من مضمون أو لحن عليها، أي كآلة غير عاقلة، غير بشرية، وتتمتع مع ذلك بحياة خاصة، أقرب إلى عالَم الآلات في ثلاثية الماتركس، ومما يؤسَف له عدم استغلال الفيلم لموسيقى شوستاكوفيتش. حين نصمت نحن، وندع المجال للآلة لكي تقول، نسمع موسيقى غريبة، أشبه برحى عجلات القطار على القضبان، أو حركات التروس والبراغي ودقات المطارق وصرير البَكَرات، حين تندمج صوتيًا في آلة معقّدة، ومستقلة عن الإنسان، وذكية، وبلا رحمة. لا تنفصل موسيقى الآلة عن موت اللحن في تكوين هذا النوع المختلف من الشيطانية؛ الآلة حين تفكّر دون إملاءات لن تصنع لحنًا في الغالب؛ فاللحن ظاهرة إنسانية، لكنها ستُنتِج بدلًا من ذلك إيقاعًا منتظمًا باردًا بلا مشاعر، كالقضاء والقدر، كرتابة نبرة القاضي وهو يصدر حكمًا بالإعدام، أو حركة الجرّاح المخضرَم وهو ينفّذ قرار البتر.

الشيطان الآلي فيما نرى أعلى مراحل شيطانية الموسيقى؛ لأنه الوجه الأكثر تجردًا من الإنسانية ومن الإلهية كليهما، هو بالأصْل خَلْق إنساني، نما، واستقل، ثم تمردَ، ليس على الإله فقط، بل على الإنسان كذلك، ناقضًا التحالف معه؛ فهو لم يعد بحاجة إليه.

ثامنًا | نتائج ختامية

حين نعيد ترتيب التجليات الشيطانية في الموسيقى الكلاسيكية في سياق التاريخ بديلًا عن البنية، فإننا قادرون على ملاحظة مسار معين للتطور العام لها. صحيح أن هناك تداخلًا ذا شأن بين هذه المراحل، ولكن التطور العام كما قلنا هو النتيجة الممكنة. لقد سبقت الشيطانيةُ الوجودية (بيتهوفن) الشيطانيةَ المشخصة أو الهيومانية (برليوز في لعنة فاوست) مثلًا، مع أن الهيومانية أسبق من الوجودية في المسار العام لتطور الفكر الأوروبي. لكن يمكننا مع ذلك قراءة التاريخ التالي:

ظهور الشيطانية في الفن الأوروبي، في الأدب بالذات كفاوست-مارلو ثم فاوست-جوته، كان الأسبق، وكان هيومانيًا، لكنه لم ينل صياغته الموسيقية سوى بعد فتح باب الرومانسية مع بيتهوفن، فهو أسبق مثالًا من بيتهوفن، لكنه تالٍ واقعًا. كانت صورة الشيطان برغمه طيبة، متمردة نعم، ولكن في سبيل حرية الإنسان وخلوده ومعرفته. ويجسدها كما سلف برليوز مثلًا في لعنة فاوست.

شيطانية بيتهوفن في صياغتها غير المقصودة على يد هرمان هيسه هي المرحلة التالية مثالاً لا واقعًا، وهي مرحلة الهرطقة الوجودية الموسيقية.

مرحلة كارل أورف، مرحلة الشيطانية العنصرية، والتي تجلت واقعًا في الرايخ الثالث، إحدى أهم التجليات الشيطانية في التاريخ على مستوى إمبراطورية كاملة.

مرحلة رحمانينوف، وهي مرحلة الخوف.

وأخيرًا مرحلة شوستاكوفيتش: مِن الإله إلى الآلة.

هذا الترتيب يصل بنا إلى نتائج هامة، فقد تطورت الفكرة من الهيومانية الخيّرة في أصلها، إلى الوجودية، التي تفترق عن الهيومانية أساسًا في نفيها لأي ماهية سابقة على الوجود، حتى الماهية الإنسانية، لكنها لا تنفك تحتفظ بإنسانيتها، فلا تجربة وجودية لغير الإنسان ببساطة، حتى إذا قلنا أن الإنسان هو الكائن الذي يختار ماهيته، فهذه الصفة الأخيرة ملازمة لما ندعوه بيولوجيًا بالإنسان. انتقلت شيطانية الموسيقى الكلاسيكية بعد ذلك إلى جريمة حقيقية هي الموسيقى الكلاسيكية النازية؛ فالتجربة الوجودية في أقصى تطرف لها سعي لا نهائي للتفوق دون قوانين أخرى سواه (كارل أورف وريتشارد شتراوس وسيبيليوس)، ومن الطبيعي أن تليها مرحلة الفزع والصرع (رحمانينوف). في كل من هذه المراحل لا تخلو تصوراتنا من مفهوم عن الإنسان، فحتى النازية هي تعصب لجنس معين من الإنسان، ومرحلة الخوف والعُصاب الموسيقيّ (رحمانينوف) هي تفاعل إنساني مع الخطر والتهديد المحدق، أما في المرحلة الخامسة والأخيرة (شوستاكوفيتش)، مرحلة الفصام الموسيقيّ، فقد انقرض فيها العنصر الإنساني تمامًا، في حالة من الُكفر القاطع بالإنسان، بعد أن كانت الشيطانية كفرًا بالإله وإيمانًا بالبشر. أي أن المسار التاريخي لتطور الشيطانية في الموسيقى الكلاسيكية يوضّح التآكل التدريجي لإيمان الإنسان بنفسه كإنسان، والتغير التدريجي لمفهومه عن نفسه، من كائن متميز بالإبداع إلى وجود مدمّر لكل شيء، خاصة إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها، حين ازدهر شوستاكوفيتش.

هذا ليس مفاجئًا ولا غريبًا. ربما ليس جديدًا بالمرة؛ فتاريخ الشيطان هو هو تاريخ الإنسان؛ لأن الشيطان فكرة عما كان يمكن للإنسان أن يفعله لو كان مكان الشيطان. لو كان الإنسان بكبريائه وغروره هو الذي شهد خلق الشيطان، فلربما أنكره واستكبر عليه، ثم أوعز إليه بالخلود أو المعرفة، ولقدم الشيطان موسيقى الإنسان، وربما عبد الإنسان دون الإله. الشيطان كمفهوم مكوِّن أساسي وأصيل في مفهومنا عن أنفسنا، وبدونه لا نكاد نملك فكرة في الوعي الجمعي المتراكم عبر الحضارات عن بشرية البشر. ولكن الفرق بين الإنسان والشيطان يكمن في أننا حين نعبد الشيطان نعبد أنفسنا، أما حين نكفر بأنفسنا فإنه يتمدد كسرطان في وجودنا، سرطان يتمدد ليحتل مساحة وجودنا كلها، حتى يصير الإنسان أقرب إلى ورم عملاق، ورم خالص، دون جسد، وبلا ملامح، وبلا منطق غير المزيد من النموّ اللا عقلاني الخطير.


الغلاف صورة للوحة إغواء المسيح على الجبل لـ دوتشيو دي بونيسنيا.


بعض المَراجع

١- Corbin, H., Alone with the Alone, Creative Imagination in the Sūfism of Ibn ʿArabī, Princeton University Press, 1997.

٢- Granholm, Kennet, Dark Enlightenment: The Historical, Sociological, and Discursive Contexts of Contemporary Esoteric Magic, Brill, Leiden|Boston, 2014.

٣- Introvigne, Massimo, Satanism: A Social History, Brill Academic Publications, 2016.

٤- Petersen, Jesper Aagaard (editor), Contemporary Religious Satanism: A Critical Anthology, Routledge; 1 edition, 2009.

٥- Will and Ariel Durant, The Story of Civilization: Part xi: the age of Napoleon, A History of European Civilization from 1789 to 1815, Simon and Schuster, New York, 1975.

٦- مقال: الشيطان، المفهوم: مدخل لـ كريم الصياد.

المزيـــد علــى معـــازف