.
منذ أسبوعين، انتشر فيديو يظهر فيه حسن شاكوش وهو يغني وصلات ردح مع جمهوره في حفل في الساحل الشمالي. “رضا جه يا ام رضا” يردد شاكوش، ثم يتبعها بكوبليهات بذيئة. المقصود في المقطع هو المغني رضا البحراوي، وهذا الفيديو كان حلقة جديدة من مشاجرة ممتدة بينهما بدأت في الساحل الشمالي في أيلول ٢٠٢١.
بدأ الخلاف عندما صعد شاكوش على المسرح ليؤدي فقرة في حفلة هي بالأساس للبحراوي. طلب شاكوش من فرقة البحراوي أن تنزل عن المسرح لكنهم رفضوا، وسرعان ما تحول الخلاف إلى مشادة كلامية فضها الحاضرون وقتها. عندما عاد البحراوي إلى المسرح، سخر من شاكوش، وبدأت سلسلة من المناوشات في فيديوهات نشرها الاثنان على الإنترنت.
https://youtu.be/tQxUmF5_AKI
تحولت الخناقة إلى تريند يتابعه الجميع. عندما تضخم الأمر اعتذر الاثنان في فيديو يجمعهما درءًا للمشاكل، إلا أن الأزمة وصلت إلى نقابة الموسيقيين، التي حولت الأمر إلى تحقيق انتهى بوقف رضا البحراوي عن الغناء لمدة شهرين وسحب تصريح الغناء من شاكوش نهائيًا. بالإضافة إلى ذلك، مُنع الغناء في الحفلات بمصاحبة موسيقى مسجلة على فلاشة، لصالح الاستعانة بما لا يقل عن ثمانية عازفين لضمان تشغيل أعضاء النقابة الذين تضرروا من استبدالهم بالبلاي باك.
“لو رب البيت بيطبل، بنته بتطلع رقاصة” زاد هذا المقطع، الذي غناه شاكوش ضمن شجاره مع البحراوي، الطين بلة. أغضب المقطع عازفي الإيقاع وتقدموا بشكوى ضد شاكوش مطالبين بشطبه لأنه عضو منتسب و”دخيل” على النقابة. اعتذر شاكوش ووضح أنه لا يقصد الإهانة، إلا أن اعتذاره لم يكن مقنعًا لا للعازفين ولا النقابة.
كان البحراوي هو من طلب تدخل النقابة في أحد فيديوهاته، عندما ذكر أنه مطرب يحمل كارنيه النقابة ويغني مع فرقة من أربعين عازفًا كلهم مسجلين لدى النقابة، بينما يغني شاكوش باستخدام فلاشة.
كان للقرار تبعات كبيرة على المشهد، وأثبتت النقابة أنها جدية في تنفيذه عندما غرّمت أحمد سعد، الذي قدم دويتو مع هاني شاكر في أغنية يا بخته مطلع هذا العام، ٢٠ ألف جنيه بسبب استخدامه البلاي باك وأربعة عازفين فقط في حفله الأخير.
في شباط من العام الماضي، أحيا حسن شاكوش وعمر كمال حفلًا بمناسبة عيد الحب حضره عشرات الآلاف في استاد القاهرة الدولي. أذيع الحفل على التليفزيون المصري، وغنوا فيه أغنيتهم الضاربة بنت الجيران، ليفاجأوا بعدها بأيام بقرار يمنعهم من الغناء أصدره نقيب الموسيقيين في مصر هاني شاكر. نص القرار على منع مطربي المهرجانات من الغناء في المنشآت الشعبية والملاهي الليلية لأن أغانيهم تحمل “ألفاظا متجاوزة وكلمات تخالف العُرف القيمي، وتتعدى على الرواسخ الثابتة للمجتمع المصري.”
تضامن وقتها الكثيرون مع شاكوش وكمال، فالأغنية التي تصدرت التريند واحتلت المركز الثاني للأكثر استماعًا على ساوند كلاود عالميًا، انتشرت في وقت الحظر الذي احتاج فيه الناس للترفيه، وأصبحت كلمات الأغنية محملة بالمعنى في أيام الحظر كما حصل في لبنان مثلًا. نشر فنانون مصريون مثل أحمد حلمي فيديوهات وهم يغنون الأغنية دعمًا لشاكوش، وتدخل تامر حسني لحل الأزمة مقترحًا على شاكوش وكمال تغيير المقطع المتسبب في المشكلة من “هشرب خمور وحشيش” إلى “من غيرك مش هعيش”.
تقبّل العديد من فناني البوب أغاني شاكوش وغنوها في مقابلاتهم مثل أصالة وراغب علامة و تطور الأمر إلى مشاركتهم في إنتاج دويتوهات مثل حسن شاكوش وأحمد سعد في أغنية ١٠٠ حساب أو حتى ممثلات مثل ياسمين رئيس في أغنية حبيبتي. لكن التعاون الأبرز كان أغنية سالكة مع ويجز، والتي جرى إنتاجها لترويج أبلكيشن حالا.
قد يكون هذا ما اضطر هاني شاكر ومصطفى كامل النقيب السابق بأن يُقرّا رغمًا عنهما أن حسن شاكوش وعمر كمال أصحاب أصوات جيدة، بل قد يكونون أفضل من بعض الأعضاء العاملين في النقابة. في حواره مع وفاء الكيلاني، لم يبدُ هاني شاكر منزعجًا من دور النقيب الموسيقي كبوليس آداب. قال إن اعتراضه هو على الكلمات وليس الموسيقى؛ فمن غير المقبول مثلاً أن يجد عضوًا في النقابة (يقصد عمر كمال) في حفل مباشر على التلفزيون المصري وهو يتفوه بعبارات مثل أشرب خمور وحشيش. “لازم اللي بيغنوا يبقوا تحت جناح النقابة، من حقي طبعًا أمنعه. من حقي إن أنا أحاسب أعضائي.” ينهي هاني شاكر تصريحاته دائمًا بأنه يغير على فن بلده وأن قرارات المنع تأتي في إطار هذه الغيرة.
سيد درويش هو النموذج الأبرز عندما تثار مسألة الرقابة على الأغاني في مصر، وهو النموذج الذي استخدمته الكيلاني للرد على هاني شاكر في البرنامج. لم يكن درويش يعترف بالتابوهات، غنى من كلمات بديع خيري للحشيش والكوكايين “اشمعنى يا نخ، الكوكايين كخ” منذ مائة عام، وسخر من تناقضات الشيوخ “اقرأ يا شيخ قفاعة تلغراف آخر ساعة، للي فى جورنال البورص .. وأنا هأبقى احلق ذقني إن ماكنتش ترقص”. صدرت هذه الأغاني بين ١٩١٩ و١٩٢٣، ولعل من حسن حظ الجميع أن نقابة الموسيقيين لم تكن قد أنشئت بعد. غنى درويش لثورة ١٩١٩ وللشيالين أيضًا، كما أن النشيد الوطني المصري الحالي “بلادي بلادي” من تلحينه.
علّق هاني شاكر على هذا النموذج بأنه يختلف عن وقتنا الحالي في حجم الجمهور وتطور التكنولوجيا. فبينما غنى سيد درويش في جلسات صغيرة حضرها العشرات أو المئات في أقصى تقدير، تصل أغاني شاكوش وكمال الملايين، وليست هذه الكلمات التي يجدر بها أن تصل إلى جمهور الشباب. الحقيقة أن أغاني سيد درويش هذه كانت تغنى على مسرح نجيب الريحاني التي كان لها جمهور كبير ولم تكن في نطاق جلسات خاصة مثلما أشار النقيب. كما أن من ألف هذه الأغنيات هو بديع خيري، المسرحي الشهير الذي بدأ بكتابة المونولوج؛ نوع الفن الذي يستخدمه دعاة الفن الرفيع مثل حلمي بكر مثلًا للحط من شأن مغنيي المهرجانات. من وجهة نظره، ما يقدمه مطربو المهرجانات والراب يمكن اعتباره “غناء خفيف” أو “مونولوجات سخيفة”، لا ترتقى لأن نعتبرها نوعًا من الموسيقى.
يدرك هاني شاكر الفارق الزمني بين الأجيال وتأثير التكنولوجيا فيما يخص انتشار الموسيقى، لكنه يغض الطرف فيما يخص التقنية المستخدمة في الإنتاج. لا تعترف نقابة الموسيقيين بالموسيقى الإلكترونية، فالحصول على عضوية النقابة يقتضي أداء امتحانات أمام لجنة أداء من موسيقيين وأكاديميين مختصين في الموسيقى العربية، وهو الأمر الذي يصعّب الحصول على العضوية على الكثير من مؤدي المهرجانات بما أنهم ليسوا مطربين بالمعنى الكلاسيكي.
“الشباب صوتهم حلو. أنا غنيت من ألحان عمر كمال، وحسن شاكوش كمان صوته حلو. إحنا مش ضد الأغاني الشعبي والمهرجانات، لكن لازم الكلام يخضع لإشراف المصنفات الفنية.” بعد ذلك طلبت الكيلاني من هاني شاكر أن يغني مقطعًا من بنت الجيران، وغناها فعلًا لكنه لم يُنهِ قبل أن يسخر من شاكوش.
لم يفت على هاني شاكر أن يبدي اعتراضه على أسماء فناني المهرجانات مثل شاكوش وعنبة وموزة وكزبرة وغيرهم. “همتحنهم في النقابة ولو نجحوا الأسماء دي هتتغير. أنا مش هطلع تصريح عندي لحد اسمه موزة أو عنبة.” يجدر الذكر أن الكثير من هذه الألقاب لها قصة، كما لكل الألقاب الجيدة. لقب شاكوش مثلًا أُطلق على حسن قبل امتهانه الغناء، منذ كان لاعب كرة قدم في النادي الإسماعيلي. كان يلعب مسّاك ولم يترك فرصة لخصمه أن يمر فأطلق عليه زملاؤه لقب شاكوش. في مقابلة أخرى، لم يبد هاني شاكر اعتراضًا على اسم ويجز، بل تحدث عنه بصفته مؤديًا لنوع مختلف من الفن، وهو الراب، وأنه ينتظر منه أن يتقدم لاختبارات النقابة.
في السنوات العشر الأخيرة، تطورت المهرجانات تطورًا كبيرًا. انتقلت من الهامش إلى المركز، ولم تعد مقتصرة على الأفراح الشعبية التي شهدت بدايتها عام ٢٠٠٦ في مدينة السلام ولا الإنتاجات ضعيفة الجودة صوتيًا، بل عبرت لتصل حفلات الساحل الشمالي في القرى السياحية والأفراح الراقية، حيث تصدح أغاني عمرو دياب وتامر حسني جنبًا إلى جنب مع أغاني شاكوش وحمو بيكا.
لم يكسر مطربو المهرجانات قوالب الموسيقى والكلمات فقط، بل هم يتربحون من أعمالهم الفنية بطريقة مختلفة أيضًا، فمصدر دخلهم الأساسي هو عائدات مشاهدات وإعلانات على يوتيوب وغيرها، والتي تصل إلى اثنين مليون دولار سنويًا لشاكوش مثلًا وفقًا لمنصة سوشال بلايد. هذا الأمر غير مقبول بتاتًا لدى النقابة التي لن تقتص من هذه الأرباح، بعكس الحفلات الرسمية التي تحصل النقابة على حصة منها وفقًا لـ البند ٨ من المادة ٥٨ من اللائحة الداخلية للنقابة. تزعج التكنولوجيا هاني شاكر وجماعته مرة أخرى بسبب عدم قدرته على تأطيرها، لذلك يلجأ إلى منع الغناء في الأماكن السياحية والملاهي الليلية، ويبرر ذلك باعتراضه على الكلمات والأسماء والقدرات الفنية.
التمييز ضد أنواع فنية محددة والرغبة في قمع أنواع أخرى ليس جديدًا على النقابة منذ إنشائها في أربعينيات القرن الماضي. واجه عدوية في الثمانينيات هجمات شرسة وغيره الكثيرون، إلا أن المختلف هو رد الفعل، فبينما أصدرت جماعة “الفن والحرية” بيانها الشهير يحيا الفن المنحط عام ١٩٣٨ ليسجلوا اعتراضهم ضد الاتجاه المحافظ والقيم البرجوازية المعادية للفنون، نرى مطربي المهرجانات يميلون للمهادنة والاعتذار في كل صدام مع نقابة الموسيقيين وأمثال هاني شاكر وحلمي بكر.
تتكرر اعتذارات شاكوش وبيكا وغيرهم في مواجهة الفوقية التي تعاملهم بها النقابة بلغة منكسرة ووعود باحترام القوانين والامتثال لقواعد النقابة مثلما يعتذر صبي من معلم يعنفه. يؤكدون على احترامهم للنقابة ككيان وعلى هاني شاكر ممثلًا له، يل ويغنون له في بعض الأحيان. في الوقت ذاته، لا يتوانى حلمي بكر وأمثاله في الإشارة إلى الفروق الطبقية بين مطربي المهرجانات وغيرهم. في حوار جمعه مع مجدي شطة أخبره بأن أداءه مناسب للفئة التي يغني لها، لكنه يريده أن يغني لكل الفئات: “أنا عايز اللي فوق واللي تحت يسمعوك.” أما هاني شاكر عندما سئل عنه قال: “إنت متخيل إن حمو بيكا، ولا مجدي شطة، حييجي النقابة ياخد تصريح يغني؟ [يضحك] يعني هو أكيد ميعرفش إن فيه نقابة أساسًا، م البداية. يعني ولا يعرفني ولا يعرفك ولا يعرف [يضحك] … إنت شفت مجدي شطة عامل ازاي؟ بس انا مشوفتش حمدي بيكا لحد دلوقتي [يضحك].”
يظهر ربط الجهل وتدني الطبقة الإجتماعية بأنواع الفنون الجديدة جليًا في حوارات بكر. عبارات مثل “اقرا، دا لو كنت بتعرف تقرأ” مخاطبًا أوكا وأورتيجا، أو “ممكن تغني دا في التوك توك” لمغني آخر شاب تتكرر بغزارة في لقاءاته. يخبرهم أنه يمكنهم أن يغنوا كيفما شاءوا في دوائرهم، لكنه يرفض وصول ذلك إلى الجمهور.
هاني شاكر محق، تغير الزمن كثيرًا بسبب التكنولوجيا وتغيرت صناعة الموسيقى أيضًا. ظهرت أنماط موسيقية جديدة وطرق مختلفة للإنتاج الموسيقي لا تخضع لسيطرة المؤسسات. منح الإنترنت مساحة لهؤلاء الشباب لإنتاج موسيقى تخضع لقواعدهم هم، والمعيار الأساسي لنجاحها هو الجمهور. استولت موسيقى المهرجانات والراب على حصة كانت من نصيب الأغاني التقليدية لدى المستمعين وحرمت النقابة من التربح منها. يغضب الأمر فلول الموسيقى الذين يعتقدون أن لهم وصاية على الموسيقى، وتحديدًا على إيراداتها. في محاولات بائسة للتنفع، يستخدمون سلطتهم في المنع والتضييق على مؤدّي هذه الفنون، بدلًا من دعمهم أو على الأقل تقبلهم في ساحة تتسع للجميع.