.
عندما تمتلك مغنية شابة صوتًا ذا خامة وشخصية كصوت لوسي دايكَس، فإنها غالبًا ما تستنزف هذا الصوت: تتسلق نوطاتٍ عالية، تنحدر إلى قراراتٍ عميقة، تستخدم صوتها كآلة وكصوت وكعينات، تجمع بين أساليب غنائية عديدة ومتطلبة في الألبوم الواحد، وأحيانًا في الأغنية الواحدة، استجداءً لاهتمام المستمع المغمور في فيض الإنتاج الموسيقي. قد تؤدي كل هذه الحيل لجذب اهتمام المستمع، لكنها تفشل عادةً بالحفاظ عليه، إذ لا تجد المغنيات (والمغنون) بعد ضرباتهنّ الأولى سوى تكرار هذه الحيل التي تبهت بسرعة، ليكتشفن أنهنَّ تسرعن بمنح أصواتهن. في ألبومها الثاني، هِستوريان، تفهم لوسي دايكَس كيف يؤدي الإسراف إلى قتل التفاصيل، أو مجازًا: لا تغرق شايها بالسكَّر، فتمتنع عن البهرجات والبهلوانيات الصوتية، لتفرض علاقة متأنية على من يريد الخوض في الألبوم.
يبدأ الألبوم بـ نايت شِفت، والتي تشبه المواويل من حيث أنها تبدأ بقصة تكسبنا الخلفية اللازمة حتى نعرف دلالات الـ “ليلي ليل وعيني عين” التي تأتي لاحقًا وتتكرر بمزاج طربي. تدور الأغنية حول انتهاء علاقة، وتبدأ خلال نصفها الأوَّل بسرد تفاصيل هذه النهاية. سرديًا، لا تخرج لوسي هنا عن قالب أغاني الانفصال المعهود، بقدر ما تختار تزيينه من الداخل بطريقتها المتفردة. عندما تبلغ نايت شِفت منتصفها تتغير بنية الأغنية بالكامل: تختفي المقاطع واللوازم السردية، وتحل محلها جملتان تتكرران حتى نهاية الأغنية: “تعمل من التاسعة للخامسة، سآخذ نوبة المساء – لو كان الأمر بيدي، لن أراك مجددًا مدى الحياة / أتمنى أن تتحول الأغاني مع السنين إلى استعادات – معبودة من قِبَلِ عشاقٍ جداد.” تبلغ نايت شِفت مكانًا عودتنا فيه ألف أغنية انفصال سهلة المنال على الحصول على صيحات مسرفة وانعتاقية، لكن لوسي لا تكاد تصعد درجتين على سلَّم صوتها حتى تنزل مجددًا، كأنها ترفع وتسدل بسرعة طرف الثوب الذي يحجب هذا الصوت، لندرك أن امتناعها عن وهبنا صوتها بالكامل لا يأتي من مكانِ محافظ، على العكس، يأتي من غواية.
مع تتالي الأغاني، ندرك أن هذه اللمحة اللعوب في نهاية نايت شِفت هي أقصى ما سنحصل عليه من صوت دايكَس لفترة طويلة. في نن بليفر، يزداد تقنين لوسي لصوتها فلا تهدر نفسًا واحدًا بلا ضرورة. تستغل غزارة التوزيع والأوركسترا الصغيرة، وتنسحب لأكثر دور أساسي وهادئ في آن، دور الموجِّه Conductor. أما في تايم فايتر، فتلقي بكل الأدوار الصاخبة والمحتدة على الجيتار والسِّنث بايس، ليحافظ صوتها على أناقته بينما يوجه الأغنية العنيفة كقائد معركة يتابع من فوق التل. تستمر لوسي بالعثور على خدع مماثلة، تحمِّل جل وزن الأغاني على التوزيع والإنتاج وحتى الكلمات، بينما يبقى صوتها متخففًا من الضرورة، لا يخضع سوى لقواعد الذوق والمزاج، ويقدِّم لنا تفاصيلًا أدائية صغيرة نقتات عليها في ظل غياب الصيحات الملتوية والقرارات الاستعراضية، قبل أن نكتشف أن هذه التفاصيل مشبعة بطريقتها الخاصة غير المساومة.
عند سماع أغانٍ كـ ذ شِل، نمسك طرف خيطٍ لو تتبعناه لبدأنا ندرك أن الألبوم يمارس تحفظًا موازيًا على مستوى الكلمات – هو ليس ألبومًا شخصيًا وبوَّاحًا على النحو الذي يساء فهمه غالبًا. لا تؤرخ لوسي حياتها بنفسها – كما افترضت العديد من المقالات المتسرعة اعتمادًا على اسم الألبوم (مثل هنا وهنا) – بقدر ما تستمد من هوسها القديم بالأدب المعاصر والكلاسيكي، لتكتب في كل أغنية حبكةً أو مشهدًا تلعب بطولته. لا أدوار صغيرة في مشاهدها. الصورة تغدو أوضح عندما نشاهد أغنيتها المصورة التي أخرجتها بنفسها، أدِكشنز، والتي تبدو كقصة خيالية أو حلم يقظة أكثر من تأريخ واقعي لتفاصيل حياة شخصية قالت لوسي في مقابلة مع مجلة بِلبورد إنها قرأت مؤخرًا مذكرات سوزان سونتاج المنشورة بعد موتها، وأكدت أنها لا تزال بعيدةً عن الإقدام على خطوة مماثلة وكتابة شيء بمستوىً مماثل من الشخصية والمصارحة.
على كلٍ، لو كان هناك جزء من مشاعر دايكَس يتسرب بصورته الخام إلى موسيقاها، فبإمكاننا التقاطه من أسطر الجيتار لا كلمات الأغاني. بينما تختلف الكلمات بمواضيعها وثيماتها ومشاعرها، إلا أن أسطر الجيتار، متى ما احتدت وتولت الصدارة في الأغاني، قدمت إلى مدىً بعيد الشعور ذاته مرةً تلو الأخرى. الغضب. من نايت شيفت إلى پيلار أُف ذ تروث مرورًا بـ ذ شِل، يحظى الجيتار بلحظاتٍ قيادية في الأنصاف الأخيرة من هذه الأغاني، ويعصف بنفس الغضب الزاجر.
في الأغنية قبل الأخيرة والأطول، پيلار أُف تروث، نمسك أخيرًا بلوسي في لحظة ضعف معترف بها، تغني لشخصٍ يستحق أقصى ما في صوتها ويحصل عليه. تبدأ الأغنية بوداعٍ يرتله الجيتار والكلمات: “يداك تنطويان / عيناك تنطفيان / كلماتك تتكسر / بصرُكِ يتقهقر / يصيبني الضعف عندما أنظر إليكِ: / صرحٌ من الحقيقة يتحول إلى رماد.” يتجلى صوت لوسي كاملًا أخيرًا، لا كنبيذ، بل كالحلقة الرقيقة من الزبد التي تتوج كؤوس النبيذ من الداخل. لحظة هشة مستمرة من القوام المثالي، لا ترثي حبيبًا سابقًا، صديقًا يفقد إيمانه، أو أناسًا يعتقدون أنهم فهموا كل شي، بل ترثي جدة لوسي المتوفاة حديثًا. في ذروة الأغنية، تبدِّل لوسي منظور المتحدث لتتكلم على لسان جدتها: “ربَّاه، كن معي / ساعتي الأخيرة / أبصرت قبلًا / والآن، فقدت البصيرة / ربَّاه حاولت أن أكون / تجليك الثاني، ذات مرة / ولو كنتُ كذلك بالفعل / فلا أحد لديه فكرة / وإذا لم تستطع حنجرتي الغناء / روحي ستصرخ إليك.” عندما تبلغ الجملة الأخيرة، تستل دايكَس صوتها وتطعن خلال ومضة رائعة قلب الأغنية المتلاطم بالجيتار، قبل أن تختنق الأغنية بنزيفٍ وتري.
يجد الألبوم ختامه في هِستوريانز، بصوتها المحيط ومزاجها المتأمل، كأنها جنازة مفاهيمية للزمن بحد ذاته. يعطينا تمهل الأغنية، وموقعها التالي لـ پيلار أُف تروث، فرصة لاستيعاب كنز المقدرات المختزنة في حنجرة لوسي دايكَس، ويقودنا هذا إلى مفارقة أن الألبوم يبدأ بأغنية عن نهاية إحدى علاقات لوسي، وينتهي بأغنية تبدأ فيها علاقتنا بصوتها – علاقة نفهم هنا أنها ستكون طويلة عميقة وحميمية، لا سماع ليلة واحدة.
منذ عامين، أصدرت لوسي دايكَس ألبومها الأوَّل نو بيردِن، والذي حملت أولى أغانيه وأكثرها نجاحًا اسم: لا أريد أن أكون مضحكةً بعد الآن، حيث ترفض أن تنحصر في شخصية الفكاهي الذي لا يؤخذ على محمل الجد، لكنها في هيستوريان تقوم بأفضل من التذمر: تأخذ صوتها على محمل الجد وتغرينا بفعل المثل. فبينما باغَتنا نو بيردِن بفوضاه الجميلة، يستقطبنا هِستوريان بهدوئه الفاتن. بينما استعرضت لوسي بإسراف ما يمكنها فعله بصوتها في نو بيردِن، تمارس في هِستوريان غواية قائمة على ما يمكنها ألا تفعله بهذا الصوت. بينما شعرنا بالتعاطف مع لوسي في لحظات ضعفها في نو بيردِن، نشعر بالرهبة منها حتى في لحظات الضعف في هِستوريان، إذ أن حزنها فاخر ومخملي، بينما حزننا هو مجرد حزن. في أحسن لحظاته، وهي لحظات عديدة، يكشف الألبوم عن ديفا غاوية يافعة ٢٣ سنة قد تُحوِّل الروك إلى مؤرخها الخاص.