.
قبل وفاته، لم أعرف عن رشيد طه سوى أغنيته يا رايح. كنت مثل كثيرين، تقتصر معرفتي بالراي على الشاب خالد، صاحب الأغنيتين الراسختين في ذاكرتي الموسيقية: ديدي، والشابة بنت بلادي.
تقاطعت وفاة رشيد طه مع رحلتي في البحث عن موطئ قدم، بعد أن عرفت منذ ثورة يناير أنني لا أنتمي إلى اليمين. بدا لي مجتمع اليسار مثل جيتو سري، ولاحظت أنّ لديهم ذائقتهم الموسيقية الخاصة. تأكد لدي هذا الاستنتاج الطفولي حين لاحظت حزنهم الواضح لرحيل رشيد طه. دفعني الأمر إلى تقصي من يكون. استعنت بجوجل وظهرت لي سيرة المطرب الشهير، كيف رأى العالم وأعاد تشكيله داخل موسيقاه. بدأت رحلتي لمعرفة المزيد عن رشيد طه، لتستوقفني أغنية يا المنفي.
في البداية شغّلتها عشرات المرات، لم أرتبك لجهلي بمعاني بعض الكلمات، وكان الأمر كأنّي أشاهد فيلمًا تسجيليًا يدور في عقلي، يربط بين ما قرأته عن حياة رشيد طه كمهاجر في فرنسا، وبين عبارة يا المنفي، دون أن أتوقف عند أيٍّ من كلمات الأغنية.
تحكي الأغنية تجربة استقبال أحد الأسرى عند وصوله السجن. استخدم الأسرى الجزائريين الأغنية في سجون الاحتلال للتواصل مع أمهاتهم، راجين ألا تتوقفن عن الدعاء لهم، كما جرى استخدام الأغنية كرسالة طمأنة بأن الأسرى بخير، ولا يزالون يحفظون عهد المقاومة. أثارني كيف تصوّر الأغنية بأسلوبٍ بسيط مراسم استقبال الوافد الجديد، وكيف يحاول الوافد التكيف في اللحظات الأولى مع عالم لا يعرفه. صارت يا المنفي بالنسبة لي تجسيدًا لشيءٍ أكبر، أود أن أعرف المزيد عنه، فاقتربت.
قولوا لامي ما تبكيش / يا المنفي / ولدك ربي ما يخليهش / يا المنفي
***
وكي داخل في وسط بيبان / يا المنفي / والسبعة فيها الجدعان / يا المنفي
وقالولي كا شي دخان / يا المنفي / وانا في وسطهم دهشان / يا المنفي***
كى داوني لتريبينال / يا المنفي / جدارمية كبار وصغار / يا المنفي
والسلسلة توزن قنطار / يا المنفي / وداربونى بعام ونهار / يا المنفي***
ع الدخلة حفولي الراس / يا المنفي / واعطوني زاورة وباياس / يا المنفي
ويلفوا علينا العساس / يا المنفي / على الثمانية تسمع صفار / يا المنفي***
يا قلبي وشداك تعيف / يا المنفي / والصوبة دايما كيف كيف / يا المنفي
الجاميلة مغمر بالماء / يا المنفي / والجريلو عايم فيها / يا المنفي***
اصبري يا امي ما تبكيش / يا المنفي / ولدك ربي ما يخليهش / يا المنفي
تشير المعلومات المتوافرة عن يا المنفي إلى أنّها أغنية جزائرية قديمة كتبها أحد أسرى ثورة المقراني ضد الاستعمار الفرنسي، التي اندلعت سنة ١٨٧١ من شرشال غربًا حتى سكيكدة شرقًا، ومن البحر شمالًا حتى توقرت جنوبًا. تتحدث الأغنية عن معاناة الأسير الجزائري، المُرحَّل من المحكمة العسكرية في قسنطينة إلى منفاه في جزيرة كاليدونيا الجديدة جنوب المحيط الهادئ، حيث نُفي أكثر من ٢٥٠٠ جزائري من الثوار ومجرمي الشرف.
غنى هذه الأغنية الكثيرون من المطربين الجزائريين تحت ظلّ الاحتلال وبعده؛ منهم أكلي يحياتن الذي عُرف بمعاداته للاستعمار الفرنسي واعتقلته سلطات الاحتلال عدّة مرات. تعد الأغنية المعادل الجزائري لنشيد يا ظلام السجن خيم، الذي كتبه الشاعر الصحفي نجيب الريس أواخر الحكم العثماني في بلاد الشام.
“قولي لأمي ما تبكيش
ولدك ربي ما يخليش”
تُفتتح الأغنية بمناجاة المسجون لمن هو في الخارج، طالبًا منه أن يخبر والدته أنه لا حاجة للبكاء، وأن الله لن يتخلى عنه. تعيد تلك الافتتاحية إلى الذهن تلك اللحظة التي مرّ بها كثيرٌ من المصريين لدى اللحاق بعربة الترحيلات الزرقاء، بينما تتصاعد أصوات المعتقلين من الداخل ويلحق بهم ذويهم راكضين خلف العربة حتى تتباعد بينهم الشُقة.
تضع مجتمعاتنا دورًا بطوليًا للأمومة، يتعاظم في حال كونها أم البطل أو أم الشهيد. لا يرى المسجون هنا ما يشينه، فهو ليس مجرمًا، بل أسير لدى قوة غاشمة. أول ما يأتي في ذهنه صورة الأم التي قد تبيضّ عيناها من الحزن على ابنها، يذكّر نفسه وإياها بميثاقهم مع الله الذي لن يتخلى عن عباده الصالحين.
نقف إذًا مع السجين الأسير الذي لا يعلم ما ينتظره، غير أنه بالرغم من ذلك يستطيع أن يحمل رسائل طمأنة تعكس جذور روحه الأولى (الأم، الله). تنتقل الأغنية بعد ذلك إلى اللحظة الأكثر رعبًا وارتباكًا، وتؤرخ لبرزخ العبور نحو عالم السجن.
يلعب الأسير هنا ثلاثة أدوار متداخلة، دوره الأساسي كأسير، يأتي بعده دوره كشاهد على الحدث ثم كمراقبٍ له، كمن ينسلخ عن ذاته ليرصد ما يحدث بعين ثالثة. تتدفق هذه الأدوار لتؤطّر طقوس العبور، كما شهدها الأسير وكما عاشت عبر التراث.
تبدأ الطقوس برؤية الأبواب الكثيرة، في دلالة على أن العالم الجديد عالم مقيّد، مليء بالأسرار والشيفرات، ما يبث الرعب – حتى وإن لم يعبر عنه الراوي – في نفس الوافد الجديد. عند استخدام الأسير لمصطلح “السباع الجدعان” لوصف من شاهدهم من رجال حال دخوله، يظهر فهمه لشيفرات الذكورة التي تربطه بحليف قوي أو ندٍّ يهابه، ويعبّر بطريقة غير مباشرة عن حاجته إلى الانتماء والاحتماء. الغريب هو اندهاش الأسير حين أخبره الجدعان “كا شي دخان”. تعد هذه الحركة شائعة بين جماعات المساجين، بل تبدو من الكليشيهات البديهية المرتبطة بالحبس في عالم خارج السجن.
تتدرج الأغنية في وصف طقوس الاستقبال، من حلاقة الرأس وتقديم الطعام المقزز، وتعزّز مناجاة الأسير لله لئلا يتركه في هذا العالم. كما يتبنى الراوي مبدأ الإظهار بدل الإخبار، فيستبدل الإشارة إلى مشاعر تليق بدخول عالم السجن، كالخوف أو الرهبة أو القرف، بأسلوبٍ وصفي يصوّر ما يحدث بلقطات متلاحقة تجعل المستمع متورطًا في المشهد.
يرجع ذلك في اعتقادي إلى انتماء الأغنية إلى تاريخ طويل من خطابات الأسرى في التراث العربي، وهو تراث يتّسم بإسباغ البطولة على الأسير في مقاومة السلطة / الاحتلال، وأحيانًا افتراض أنّ الرجل الشديد يجب ألّا يظهر ضعفه في المواقف الصعبة، ربما لأنّه يعرف أنّ بطولته ستفرض عليه صورة وحكاية ستُروى من جيل إلى آخر، لا يريد أن يبدو هشًا فيها. الهشاشة الوحيدة التي يجوز تمريرها هي الخوف على الأم التي تنتظره باكيةً.
تولّد ماضٍ مشترك بيني، بين ما أصبحت عليه بعد ثورة يناير، وبين يا المنفي. ساعدتني الأغنية على التعامل مع ما فرضته عليّ منعطفات الحياة من نفيٍ إجباريّ، والتماسك لمواجهة طقوس الانتقال المخيفة إلى ما هو مجهول بالنسبة إلي. بعد التخلص من يمينيّتي السابقة، بحثت عن مكاني وسط كل تلك التكتلات، ولم أجده. لا أستطيع القول إنني صرت أنتمي إلى اليسار (المصري)، وأتصالح كل يوم مع احتمال أنه لا يجب أن أنتمي إلى شيء، لأمنح الحياة فرصة أن تكشف عن نفسها برفق بداخلي بدون تكتيكات مسبقة، وقد حدث.