آخر قطعة فنية | مروان بابلو
مراجعات

آخر قطعة فنية | مروان بابلو

عمر غنيم ۰۵/۱۲/۲۰۲۳

يمثل التخبط جزءًا أساسيًا في تكوين شخصية ومسيرة مروان بابلو. منذ ظهوره على الساحة كـ داما، خطف الأنظار بأسلوب مختلف عن السائد في المشهد المصري آنذاك، مستلهمًا من موجة السايكدليك تراب التي غزت أمريكا منتصف العقد الماضي على يد يانج ثاج وترافيس سكوت وغيرهم. لم يمض الكثير حتى قرر إنهاء مشروع داما، ليعود إلينا برداء جديد وبعد آخر من شخصيته، أكثر حدة ونضجًا، وأكثر تطورًا على الصعيد التقني والإنتاجي. كانت عودته كـ بابلو محفزة وملهمة لمشهد الراب المصري وساعدت في انتشار الراب في مصر إلى قاعدة جماهيرية أكبر، وصولًا إلى نهاية عام ٢٠١٩، حين قرر التوقف والاعتزال، ليعود بعدها مجددًا. منذ ذلك الوقت بدا بابلو متضائلًا في مساحة ضخمة خلقها لنفسه.

يأتي ألبوم بابلو الأخير، آخر قطعة فنية، ليقدم لنا رحلة تأملية في حياة بابلو ومسيرته. يجسد الألبوم جوانبًا في شخصيته استطاع ترجمتها على الورق، بين تخبطات وفترات سطوع وصراعات داخلية وأحلام. يستشعر المستمع الحالة السينمائية التي يرسمها بابلو في لوحته الموسيقية من الوهلة الأولى. في تراك أمان يغني موالًا بصوت مشوش ثم يلقي فيرسًا بفلو هادئ فوق أصوات بوق صاخبة، لتنقطع الموسيقى تمامًا ويظهر صوت يردد: “روح، روح”، ثم تعود الموسيقى مجددًا ويلقي بابلو فوقها بارات متقنة بتدفقات سريعة وحادة، فوق إيقاعات صاخبة وأصوات محيطة ومتداخلة، واستخدام مثالي للدرَمز. كلمات بابلو في التراك محكمة مع فيرس بين الأقوى في مسيرته. توحي بداية الألبوم بإنتاج متقن وعالي المستوى، وتطور واضح لرؤيته في خلق حالة من الترابط عبر الثيمات، واستخدامه لعناصر إنتاجية جديدة نوعيًا وتكنيكات أكثر تعقيدًا.

يتبنى بابلو منهجًا تقليليًا على صعيد العناصر الصوتية في النصف الأول من الألبوم. في تراك ضحية، البيت بسيط يقوده لحن وتري هادئ وبايس درامز بطيئة، بينما تغلب نزعته الانعزالية والفردية على البارات، موجهًا غضبه إلى العالم، وتبرُز تدفقاته اللحنية والمركبة في تناغم مع البيت بسلاسة تامة. كلمات بابلو في الألبوم شخصية إلى حد كبير وتأملية أيضًا، يطرح الكثير من التساؤلات، وتأتي علاقته المتوترة بالموسيقى كالثيمة الأبرز في الألبوم؛ يتحدث إلى الموسيقى وعنها. في تراك مطفتش، نلاحظ تطور تقنيات بابلو الإنتاجية، يمرر صوته عبر فوكودر في بداية التراك، فوق بيت تراب سلس مصحوب بعناصر سنثية خفيفة، وتحكم مثالي في استخدام الدرَمز لتعزيز تدفقاته وإبرازها. 

نشهد تطورًا واضحًا لقدرات بابلو الإنتاجية، حيث يستكشف مساحات أكثر تجريبية في ضضضض، يعبر صوته المنخفض مداه عبر مؤثرات صوتية عميقة، ويبدأ البيت بنوتة بيانو مؤرقة، تبدو مماثلة لتوظيف كانيه للبيانو في أيقونته راناواي، لكن سرعان ما تأتي الـ هاي هاتس السريعة، والبايس المكثف، لتؤسس حالة مزاجية من الغموض، ويأتي إلقاء بابلو البارد وغير المكترث في اللازمة كطلقات مسدس مكتومة موجهة لأذن المستمع بكلمات عن أصالته وتأثيره، قبل أن يزيل كاتم الصوت ويأتي صوته واضحًا في الفيرسات. تستمر رحلته الاستكشافية إلى مناطق جديدة في تراك ميلوديز، أبرز تراكات الألبوم من الناحية التجريبية، بيت تقوده فقط عينة ترومبيت هادئة، مصحوبة بهاي هاتس تراب وإيقاعات بطيئة، وإلقاء نظيف وعاطفي من بابلو، يغني عن علاقته بالموسيقى في حالة تأملية.

يفقد الألبوم بعضًا من تماسكه من ناحية الثيمات والترابط بدخول تراك ألاعيب. تبدو أفكار بابلو مبعثرة في التراك رغم جودة تنفيذها، قاطعًا الحالة المترابطة للنصف الأول من الألبوم بسكيت حيوي وراقص ينقلنا إلى النصف الثاني. يعبر تراك ألاعيب إلى إيش لي بي في انتقال سلس، باستخدام عنصر ثابت بين التراكين في نهاية الأول وبداية الثاني. إنتاج مشترك بين هادي معمر وبابلو، بيت تراب تقليدي، يطفو بابلو فوقه بتمكن، بينما يطل التعاون الوحيد في الألبوم بفيرس قوي من علاء يواكب الحالة المزاجية للتراك. 

يعود بابلو بالزمن إلى مرحلة مزدهرة في مسيرته في المبدأ، حيث نرى بيت تراب شعبي يذكرنا بتعاوناته مع مولوتوف، مساحة تفوق فيها بابلو سابقًا ووضع بصمته عليها، في إنتاج مشترك آخر بينه وبين هادي، مع استعراض عضلات واضح رغم قصور البارات وضعفها كمعنى. تسطع تدفقات بابلو وتعطينا جرعة من نسخة منه افتقدناها كثيرًا. يأخذ بابلو الشعبي إلى منطقة أعمق حيث ننتقل في مسرحية من بيت تراب إلى إنتاج شعبي بحت نحو منتصف التراك، أداء استعراضي من بابلو، ورغم سهولة القوافي “أفكره، أكدره، أقدره، أكبره” والكورس المستسهل نوعًا ما، تأتي الكلمات قوية مع إنتاج موسيقي متقن من هادي.

تأتي هانت، خاتمة الألبوم، سينمائية كبدايته، واضعةً نهاية مثالية لجولة في دواخل بابلو وأفكاره. بيت ثقيل ذو طبقات صوت تركيبية وعينات أثيرية متماوجة مع بايس مضخم، يردد فوقها بابلو: “هانت / هانت / هانت” فيما يشبه المانترا الخاصه به، مشيرًا إلى انتظار شيء حتمي نحو الخلاص والسكينة. تراك شخصي وعاطفي إلى حد كبير، يغرق بابلو في مشاعره ويحتضنها في لوحة موسيقية غنية بسنثات عميقة ذات مزاج داكن.

آخر قطعة فنية هو أكثر إصدارات بابلو طموحًا وتجريبًا. نشهد في الألبوم تصورًا متكاملًا ورؤية مدروسة تثمر تجربة استماع دسمة، ومتنوعة من حيث العناصر الصوتية. يأتي بابلو هنا غير مكترث بالأرقام، مبتعدًا عن السائد، صادقًا وحقيقيًا للغاية بشكل يذكرنا بـ داما، بتسجيل ذو عناصر مترابطة وثيمات صوتية وكلامية متقنة. لا أعتقد بأن بابلو يريد تصدر المشهد، يبدو أنه صنع الألبوم لنفسه أكثر منه للجمهور، وهذا ما يجعله تجربة منعشة للمشهد المصري في ظل توجه تجاري غلب عليه في الآونة الأخيرة. أتمنى فقط ألا ننتظر ألبومه القادم لثلاث سنوات أخرى، وأن نرى المزيد من الإصدارات بهذه النوعية في العموم.

المزيـــد علــى معـــازف